يعد كتاب (ألف ليلة وليلة) من أبرز ألوان الإبداع الذي ألهب خيالات الأدباء والفنانين، على اختلاف أدوات التعبير التي يشتغلون عليها، ذلك في الغرب والشرق، على حد سواء. إذ وضع هؤلاء، وبتأثير "الليالي"، عدة أعمال فنيّة وأدبيّة، اتسم بعضها بالموضوعيّة الإبداعيّة المحروسة بالرصانة التخيليّة الساحرة، بينما حمل بعضها الآخر (لا سيما في الغرب الأوروبي)، صورا سلبية عن الشرق ونشأته وأساطيره وسلاطينه، بفعل جملة عوامل وأحداث ودوافع.
أثار موضوع كتاب» ألف ليلة وليلة»، وانعكاساته على الفنون التشكيليّة والأدب والمسرح والموسيقى والسينما، وكذلك بقية أجناس وضروب الإبداع، أثار حفيظة عدة باحثين وأدباء وفنانين، فوضعوا كتباً ورسائل وأبحاثاً وأعمالاً إبداعيّة، حول التأثيرات الهامة والبيّنة، لكتاب «ألف ليلة وليلة»، على طيف واسع من الإبداعات المعاصرة، في الغرب والشرق، سواء بشكل مباشر، أو غير مباشر.
وبعض هذه الدراسات أخذ طريقه إلى النشر، بينما لا يزال الآخر، حبيس أدراج مكتبات أصحابها، وهو ما يقلل من فائدتها ويعوق قدرة كثير من المهتمين بهذه الموضوعات، على الاستفادة منها، خصوصاً إذا علمنا أن بعض هذه الدراسات والأبحاث، أمضى واضعوه، ردحاً طويلاً من الزمن، في الإعداد لمفرداته ومساقاته، إذ ركزوا على تجميع مراجع هذه القيمة الادبية التراثية، وتقصي تأثيراتها على الإبداع الفني ومبدعيه.
تعد «الليالي» في خصوصيتها الإبداعيّة، صيغة وروح إلهام، تقوى جذوتها في كل زمان ومكان، وتتعمق معايشتها مع كل مجتمع ـ باعتبارها حكايات متنوعة لها أشكالها المختلفة، بين الصراع على وتيرة النقيضين، كما تمتد أيضاً، إلى بداية التغيرات الظاهريّة لهذا الواقع، والكشف عن الدور الجوهري للنفس، عندما تصطدم بتلك الظواهر: الظواهر بوصفها أفعالاً، والظواهر بوصفها تصورات عنها. فهي عنصر فاعل في الإبداع الفني بصفة عامة، وفي الإبداع التشكيلي خاصة. فمجموعة الأشكال اللاواقعيّة واللامنطقيّة ـ التخيليّة مرتبطة بالواقع، وفي الوقت ذاته، متداخلة مع التناقض لهذا الواقع، والاقتراب من الحل بالتخيل، كثيراً ما يأتي إلى حد الابتعاد عن منطق التصور الواعي له.
التشكيل وحكايا الليالي
تكشف لنا، عملية تمحيص ومسح شاملين حول الموضوعات التي استلهمها التشكيل العالمي المعاصر من الليالي،مدى غوصها في وجدان النفس، وتعمقها في الزمن المنتهي والباقي في نسيج توليفته ضمن مضمون الحداثة في الراوية. وهذه الصور أو التصورات التشكيليّة، عن حكايا الليالي، تأتي لنا من فوق اللاواقع، لتمارس علينا فوضى التصور، وتدفع التشويق إلى الاضطراب الحسي، فتخلق معها حالة من السورياليّة الإيقاعيّة، وفعل تجريدي. وهكذا تبدو «ألف ليلة وليلة»، باعتبارها مجموعة من اللوحات التشكيليّة المصوّرة، عنصراً أدبياً وقصصياً ـ على حد تعبير المتخصص قي هذا الحقل، الدكتور ابراهيم جابر.
وبمعنى آخر: الليالي شبيهة بالأحلام التي تنتهي مع بزوغ شمس الرؤيا والحقيقة الواقعة، وهي دعوة من نوع آخر إلى المغامرة، حيث الغامض والملوّن والمثير، وهي أكثر طرباً من المعرفة، إذ يتملك السحر كل دوائر الجذب الحسيّة.
تلفها الرياح الحارة فوق رمال من ذهب وسجادات عربيّة، وتتوق إلى عوالم خاصة في وقع العقل الملونة، بصبح شرقي، عن أحاديث «ألف ليلة وليلة»، هذا المؤلف الضخم في تاريخ الأدب الشعبي، الذي لم يعرف إلى اليوم، حدوداً لزمان ومكان يعبر ببساطة السحر كل المسافات المتفاوتة للعقل البشري.
وتوارثته الأجيال كافة، منذ روته ابنة المدينة لمليكها، وخطته السنون على رقاق عربيّة. وهذا الموروث، يجسد حب الأرض ويعكس حكايات الأزمنة العتيقة، حيث كان للحلم والفرح نكهة خاصة، ومتعة مختلفة، وكذا جمال آخر.
الحلم والمعرفة
تتدرج «الليالي» في سياق الحكاية الخرافية، أو الحكاية الشعبيّة بشكل عام، والتي تعكس (فيما تعكسه)، الأساطير وبقايا قوى عوالمها وخبراتها القادمة من الزمان الذي كان فيه الإنسان يلجأ إلى الحلم لافتقاده إلى المعرفة، إذ يعتقد ذلك بثبات ورسوخ، لأنه لم يكن يرى. وهذا بمعنى، أنه كان يؤثر ويتأثر فيما حوله، بكثير من العفوية والتلقائيّة والسذاجة المتصالحة مع نفسها، وهو الأمر الذي يدفعنا للتأكيد على أن الحكاية الشعبيّة أو الخرافيّة،ليست ثرثرة عجائز ولا منطق لها. وتالياً، هي لا تمثل اختراعاَ صرفاً، وإنما تجسد روح الشعب ونتاج قواه الشاعريّة، ومن ثم، ترسخ بمثابة قوام ملكه وتراثه وتاريخه.
وعلى هذا الأساس، تُعد أحداث ومجريات ومضامين» ألف ليلة وليلة»، من أكثر القصص الوصفيّة التي تتكلم بلغة تجسيد الصورة في سرد أحداثها، وتعين القارئ على التحليق في أجواء فوق طبيعيّة، نتيجة كثرة ما تحمله من مفردات وتراكيب، تعجز معها القدرة التخيليّة الإبداعيّة للعقل البشري، على بلوغ حوافها وسبر أبعادها، ذلك نظراً لكون هذا القص الشعبي يُشكّل مزيجاً من عناصر أسطوريّة غرائبيّة، وأبعاداً مذهبيّة تشمل الموروثات الدينيّة والتاريخيّة والفلسفيّة عند القدماء، وفي الشرق خاصة. ويُضاف إلى ذلك، ما اجتمع لها من أسماء وحكايات وأخبار وحوادث عربية، أسهمت في تكوينها وصبغتها بلون محدد، لتعكس صورة مشرق عربي يتجاوز الحدود الزمانيّة والجغرافيّة المعروفة تاريخياً وعلمياً.
تأثير شامل
أثرت حكايات « ألف ليلة وليلة»، على الفعل الإبداعي العالمي بشكل قوي وفاعل، فطال ذلك، حقول : الشعر والمسرح والأدب والفن. وكذلك اللغات الأجنبيّة المختلفة، كالفرنسيّة والألمانيّة والانجليزيّة والإيطاليّة، إضافة إلى السينما والتلفزيون والموسيقى والفنون التشكيليّة والصحافة المقروءة.
وتحتضن «الليالي» نفسها، قيماً فنيّة تشكيليّة كبيرة، نهلت منها الفنون التشكيليّة العالميّة، الكثير من الصور والرؤى، لكن ذلك حدث في وقت متأخر، مقارنة بتأثر الأدب العالمي بها، إذ توجد شواهد قبل ترجمة غالان لها خلال الفترة بين عامي: 1704 ـ 1717. وكان يدور اهتمام الفنون التشكيليّة الأوروبيّة، حول الموضوعات الدينية، والتركيز على استلهام التراث الإغريقي ـ الروماني.
وأما على الصعيد العربي والإسلامي، فيُلاحظ تأثير الليالي الواضح على المنمنمات الإسلاميّة، والعديد من الفنون العربيّة والفارسيّة والتركية والهنديّة، ومنها : الرسوم، اللوحات، الكتب. وهذا إضافة إلى المنمنمات التي تعد من أبرز مظاهر الفنون التشكيليّة الإسلاميّة وأهمها.
وبعد ترجمة غالان لكتاب «ألف ليلة وليلة»، وما تلاها من ترجمات إلى مختلف اللغات الأوروبيّة، كثرت الرسوم التزيينيّة أو التوضيحيّة التي رافقت معظم طبعات هذه الترجمات، والتي عكف على وضعها رسامون ومصوّرون ونحاتون، في البدايّة، يعدون بالمئات. ومن ثم، وبالتدريج، انتقل تأثير الليالي على النحت والخزف والسينما والتلفاز والرسوم المتحركة وفنون الإعلان، عبر ظاهرة الاستشراق التي نشطت وزاد حراكها، عقب تعرف الأوروبيين على «الليالي».
وهناك من يعتبر ان كتاب « ألف ليلة وليلة»، يمثل بدايات الطريق إلى الاستشراق وانتشار حركته في الغرب. وفي هذا السياق، يذهب المتخصص بالمجال، الدكتور ثروة عكاشة، إلى اعتبار أن مصدر إلهام أكثر الرسامين الأوروبيين كان إسلامياً، كما أن عالمهم الخيالي مستمد من « ألف ليلة وليلة»، إذ رسم المستشرقون بعيونهم وألوانهم، حال النساء في برك الماء، وأيضا في جلسات الصفاء والخدور. ورسموا هذا السحر، من عبقٍ لم يُنسب لحكايات «ألف ليلة وليلة»، إذ كانت بداية الحلم، انعكاسات شيقة تسرد جوانب أخرى، عديدة، عن حياة المرأة، وقد نقلوها إلينا بصيغ إبداعية مميزة، كانت قد برزت بقوة في «الليالي».
والأمثلة، في هذا الشأن، كثيراً جداً، نجدها تصور ماهية التأثير الذي شمل عدداً هائلاً من الفنانين العالمين الذين وجدوا في أجواء الليالي خصوصاً، والشرق عموماً، ملاذاً آمناً لأرواحهم، ومعيناً لا ينضب لإلهاماتهم وإبداعاتهم. ومن بينهم، رواد وأعلام كبار، مثل: ديلاكروا، بول كلي، كاندينسكي، بيكاسو، ماتيس .
وبعض هؤلاء، زار دولا عربيّة ومكث فيه، بينما الآخر تواصل معها، عبر من زارها من الفنانين والرحالة والدبلوماسيين. وذلك، إما شفاهة، أو من خلال الكتب والدراسات والأعمال الفنيّة التي وضعوها، بتأثير هذه الزيارات، أو عبر الترجمات التي تمت لأمهات الكتب، ومنها (ألف ليلة وليلة)، إلى اللغات العالميّة.