تختار المخرجة الإماراتية نجوم الغانم مفرداتها في التعبير عما يجول في خاطرها بدقة شديدة. الدقة سمة مفاجئة في شخصية الشعراء وهي منهم. لكنها، وإن بدت كاستثناء، تؤكد ذلك في وضوح المشروع الإبداعي الذي تعمل عليه برفقة زوجها ورفيق دربها الكاتب والباحث خالد البدور. هما، في استخدامهما السينما كلغة إبداعية، يعالجان بدأب ومن دون تشتت، خلال السنوات الماضية موضوع الإنسان الاماراتي في علاقته بالتغيرات الاقتصادية والاجتماعية المتسارعة للمكان الذي وجد فيه، عبر سعيهما لتقديم صورة مختلفة تماماً عن تلك التي يظهرها زملاء لهم في المهنة أو في الإعلام.
على نقيض الصورة الضاجة بصرامة الحداثة وصخب المدينة التي يعلو بنيانها بحيوية نابضة وتشهق معدلات التنمية ومجريات التحضر فيها بثقة، نعثر دوماً في أفلامهما (يتوكل هو الشق البحثي وهي الإخراج وقد يتشاركان الأدوار) على لقطات مقربة ودافئة و«بطيئة» للإنسان الذي يعيش وسط هذا البنيان.
هذا لا يعني أن الغانم تنتمي إلى فئة الغاضبين من التطور أو الباكين على أطلال الماضي من ذوي «النوستالجيا» المستدعية للبساطة التي تقارب المعنى القروي أو البدوي الصحراوي، فهي، بالعكس، تشدد بعزيمة، على كونها «ابنة مدينة تنتمي إلى الحداثة ولا تتماهى مع الاشخاص الذين علقوا في مكانهم وخافوا من العبور». لكن هذه التركيبة الشخصية التي تحتفي بـ«فضاءات المدينة ومكاسبها وحتى غبارها ورائحة عوادم سياراتها»، لا تمنعها من البحث عن تلك النماذج العالقة وتصوير حياتها وسرد قصصها بلغة سينمائية فيها الكثير من العاطفة، ولكن، في الوقت ذاته، الرسائل الجادة، من دون أن ننسى الصورة الشعرية في أفلامها والتي تتدفق من ذاتها الشعرية بشكل سلس ومنطقي.
في «مهرجان القاهرة السينمائي» الذي يعرض فيلمها اليوم، حضرت نجوم الغانم لتمثيل الإمارات في تواجد نادر ضمن المسابقة الرسمية للأفلام في تاريخ هذا المهرجان (36 دورة) التي يتبارى فيها 16 فيلماً من 14 دولة. ورغم أن فيلمها المعروض هنا «أحمر، أزرق، أصفر» سبق وأن شاهده جمهور المهرجانات في «دبي السينمائي»، الا أن عرضه في القاهرة يكتسب أهميةً مضاعفةً كونه الفيلم العربي الوحيد من بين الأفلام المتبارية ضمن فئة السينما الوثائقية (التسجيلية)، إذ يقف إلى جانبه الأميركي توماس هاريس وفيلمه «عبر عدسات سوادء: الفوتوغرافيون السود ونشأة شعب»، والفرنسي هيوبر تسايوبر وفيلمه «لقد جئنا كأصدقاء».
أما إذا نظرنا إلى المسابقة بشكل إجمالي فإن نجوم الغانم ستبرز كواحدة من ثلاثة مخرجين عرب فقط تحضر أفلامهم في المسابقة، ففي الروائي هناك المصري كريم حنفي وفيلمه «باب الوداع» ونجوى النجار وفيلمها الفلسطيني «عيون الحرامية».
إذاً هو حضور له ثقله لمخرجة يعتبر العرض «القاهري» لفيلمها بمثابة استراحة «محارب» بين جولتين، إحداهما خاضتها بنجاح في «أبو ظبي السينمائي» في أكتوبر الماضي مع عرض فيلمها اللافت «صوت البحر» (صيادون يروون أحلامهم متعايشين مع بيئة نائية في الإمارات) وتستكملها في ديسمبر المقبل مع فيلم جديد في «دبي السينمائي» تكشف أنه سيتمحور حول امرأة (لها أيضاً من ذات النوع فيلمي «حمامة» و«أمل») من دون أن ترغب بالكشف عن مزيد من التفاصيل!
عن «صوت البحر« ومشروعها السينمائي والفرق بين «أفلام التراث» و«أفلام الإنسانية»، وسر الكائنات الرخوية العالقة في الطين في فيلمها «صوت البحر»، كان هذا الحوار الذي أجري في «أبو ظبي» قبل أيام، وننشره اليوم، عشية حضورها «القاهري».
رسائل البحر
هناك دوماً رسائل للبحر. بحر الإمارات، ما الذي تريد نجوم الغانم أن يحمل للآخر، أي صوت؟
الفيلم يبدأ بصوت البحر، وهناك أصوات كثيرة نسمعها فيه، سواء كانت أصوات الشخصيات بين الماضي والحاضر والمستقبل، أو أصوات الموسيقى والغناء والأناشيد، أو أصوات الأشياء في البيئة والمكان. هذه هي الأصوات التي يريد أن يحملها الفيلم إلى الآخر. أؤكد على استخدام لفظ «الآخر» وليس المتلقي، لأنه يحمل، برأيي معنى أقوى لفكرة التفاعل. «الآخر» يدخل يتفاعل مع الفيلم عبر تجربة ذاتية مع الشخوص واللغة الفنية والسينمائية والجمالية.
ولكن، هل برأيك، اللجوء إلى الماء لإرسال الرسائل يختزن عمقاً، أم أن رسائل الماء خفيفة، تماماً كما الموج الذي يزبد بخفة؟
الماء في فيلمي «صوت البحر» له معنى إنساني عميق. أنا أتحدث عن الإنسان في وجوده بين الماء واليابسة وتحدي العبور بالنسبة إليه. والعبور هي فكرة بغاية العمق والحساسية، برأيي الشخصي، لأنها تعتمل مع المكونات التاريخية والإنسانية للإنسان في علاقته مع المكان.
ذكرك للحساسية يجعلني أتوقف عند السؤال التالي: كم هو حساس طرحك عبر أفلامك صورة مختلفة عما اعتدنا عليه إعلامياً مما يظهر عن المكان والإنسان الإماراتي، أي البيئة الصاخبة المرفهة التي تصنع نهضةً حضاريةً ضخمةً، كم هو حساس، وسط ذلك كله، أن تأتي امرأة إماراتية لكي تخرج أفلاماً عن التراث؟
دعني قبل كل شيء أتوقف عند مسألة «أفلام التراث». أنا لا أعتبر نفسي مخرجة «أفلام تراثية». صحيح أن الأفلام التي نفذتها وتلك التي لا أزال أعمل عليها قد تحمل شكلاً تراثياً، مبني على علاقة الناس الذين أختار تصويرهم، بالذاكرة الجماعية للبلد.. إلا أنه يبدو لي أنه بات من السهل علينا تصنيف هذه النوعية من الأفلام في خانة «تراث» لكي نفهمها أكثر. ليس هدفي صناعة أفلام تراثية بل الوصول إلى الحالة والحساسية الإنسانية الموجودة في عالم شخصياتي وعلاقتها بالحداثة وواقع اليوم. إنها شخصيات تعيش في ماضيها وفي عالمها الخاص..
هل هي عالقة هناك؟
نعم.
لماذا لم يبن لها أحد جسور؟
هي تتحمل أيضاً المسؤولية لأنها تشعر بالأمان في المكان الذي ولدت فيه، في «الفريج» (الحي باللهجة الإماراتية)، ولديها توجس من الخروج منه إلى العالم الحديث الذي صار يطوّق الفريج كل يوم. هم اليوم بالتأكيد يشعرون بأنهم بأمان، ولكن هذا لا يوقفهم عن أن يعبروا عن مواقفهم بأن الزمن تغيّر، بينما لم يستطيعوا من إتمام السيطرة على الأمور.
أعرف أنه على المخرج، تحديداً الوثائقي، أن يكون حيادياً، قدر الإمكان، في نقل واقع شخصياته. ولكن لديّ فضول لمعرفة رأيك الشخصي وما إن كان في داخلك نوع من التضامن مع هؤلاء «العالقين». هل تشفقين عليهم؟
أقدم هواجسم وأسئلتهم وحالتهم وربما لا أتفق معهم. كنت أوجه لهم أسئلة مثلاً بالقول: لماذا أنتم محافظون إلى هذا الحد؟ لماذا لا يمكنني كمخرجة أن ألتقي بعائلاتكم!
نعم لاحظنا ذلك في الفيلم، فالشخصيات بغالبيتها ذكورية بينما تغيب النساء عن تسجيل أفكارهن؟
هذه معضلة في الأفلام الخليجية. قد يتهمنا البعض بالتقصير أو بالضعف، لأنه ينقص في أفلامنا، خاصة التوثيقية، إكمال الصورة، ولكن أتمنى أن يحترم الآخر هذه الحساسية وألا يعتبر البعض ذلك ضعفاً في الأفلام بل إن تفهم هذه الأفلام ضمن الإطار الاجتماعي الخاص بها والذي تصور فيه. الشخصيات التي ظهرت في الفيلم هي الرجال الذين يعتقدون أنهم الواجهة الأبوية لمجتمعاتهم وأن لهم حق احتكار تمثيل تلك المجتمعات.
إذا لن نحلم بفيلم على غرار «صوت البحر» يسجل شهادات لنساء لا لرجال فقط؟
(تضحك) أحضر لمفاجأة قريبة.
إذاً هل رحلتك الأولى هذه بمثابة بروفة؟
عملت مع نساء قبل «صوت البحر». حمامة كانت منارة بين النساء وأمل ونجاة مكي (يعرض عن فنها الفيلم اليوم في الإمارات) وفيلمي المقبل عن امرأة واحدة أيضاً..
قصت فيلماً عن مجاميع النساء؟
هذه فكرة واردة خلال الفترة المقبلة.
أفلامك تظهر رجالاً مختلفين عن أولئك الذي يظهرون في أفلام إماراتية أخرى. إنهم يتحدثون عن الحب. يقول أحدهم «الحرمة هي الحلم»، وكأنهم ينتمون إلى فئة الشعراء. حدثيني عن الصورة المختلفة للرجل الإماراتي الذي يعبر عن العمق العاطفي؟
أنا سعيدة جداً بهذا الأمر وبأنك التقطت هذا الأمر.
كيف تمكنت من الوصول إلى أعماقهم؟
من خلال المعايشة، لا يمكن أن تجلس مع شخص ليوم واحد وتقنعه بالبوح بأسراره. التقينا بسلطان والزبادي (الشخصيتان الرئيسيتان في الفيلم) على مدى الثلاث سنوات الماضية. حين بدأنا التنفيذ التقينا بأعضاء الجمعية وهم الشخصيات المتبقية. ولكن الزبادي وسلطان انتظرانا لسنوات.
القصة الرئيسية كانت مختلفة، كانت حصرياً عن الزبادي وسعيد غارندولا الذين بوسع أي كان أن يسمع صوتيهما يصدح وهما يعبران في القارب في خور أم القيوين. إنهما «صوت البحر». لكن سرعان ما وقعت أحداث أخرى. ونحن ننتظر الدعم تعرض سعيد إلى جلطة والزبادي خضع لعملية جراحية ولم يعد يتمكن من السير. خسرنا كثيراً بسبب الزمن الذي لم نعمل فيه، ولذلك رسمنا خطوطاً أخرى لتدارك هذه المفاجأة.
في مشروعكما السينمائي، أنت وخالد، المستمر عبر سنوات وكأنكما ثمة سباق مع الزمن في تصوير أمكنة وشخصيات تنتهي وتزول؟
هناك الشغف الشخصي وأيضاً المسؤولية الفنية.
هذا هاجس؟
ومسؤولية.
هل يحزنك زوال هذه الأمور بالسرعة؟
أنا أؤمن بالتغير وبأنني ابنة مدينة.
حداثوية تصنفين نفسك؟
جداً، لا يمكنني أن أعيش في ظروفهم. سئلت وأنا أحضر فيلمي الجديد إن كان بوسعي العيش لشهر في منطقة نائية. قلت ولا يومين. أجدني أحتاج إلى المدينة وفضائها ومكاسبها وحريتها وغبارها وحتى رائحة عوادم السيارات. أنا ابنة مدينة لكنني تعلمت منذ صغري أن أشاهد الاشياء بأسئلة وأنظر إلى العالم من منظور وجودي يعتمد على فلسفة فهم الأشياء والبشر.
مؤثرة مشاهد تلك الكائنات الرخوية في المستنقع الطيني وحركتها البطيئة في «صوت البحر». إنها تقاوم ولكنها عالقة!
(تضحك) أتمنى أن يشاهد الآخرون بذات العين التي التقطت بها. سأفسر: حين تعمل على فيلم تتناول شخصيات اجتماعية لها حضور ولها صورتها الاجتماعية الرسمية أمام الناس. ولكن هناك اللغة السينمائية التي يجب أن تعمل عليها وتكون مرتبطة بالبيئة وهناك المحاذير التي تريد أن تعبر عنها.
إذا طلبت منك أن تودعي رسالة في قارورة وترميها إلى البحر. لمن؟
قلت ذات مرة ولا أزال أكرر: أعطوني الإمكانيات وأعدكم أن أقدم عملاً تفتخرون به.