في السادس والعشرين من شهر رمضان عام 927هـ دخل المسلمون فاتحين إلى بلغراد عاصمة الصرب، في عهد الخليفة العثماني سليمان القانوني.

أكملت الدولة العثمانية مسيرة الفتوحات والنجاحات المتتالية، التي ورثتها عن دور القوة في الخلافة العباسية وما سبقها، فكانت عملاقاً حضارياً جديداً تغلغل شمالاً وجنوباً، حتى دخل في العمق الأوروبي والعربي، ودانت لسلطته بقاع الأرض في قارات العالم القديم.

سبق فتح بلغراد دخول العثمانيين إلى البوسنة والهرسك ومنطقة الجبل الأسود، فلما كان عهد السلطان سليمان القانوني أرسل إلى ملك المجر لويز الثاني سفيراً يدعوه إلى الإسلام أو إلى دفع الجزية، فما كان من ملك المجر إلا أن أمر بإعدام السفير، فأمر السلطان بتجهيز الجيوش، وسار هو بنفسه في مقدمة الجيش قاصداً فتح العاصمة بلغراد، وكان له ما أراد.

أهمية الموقع

وقد برزت أهمية الموقع الذي تقوم عليه بلغراد في القرن العاشر الهجري في ذروة الحرب بين الدولة العثمانية والمجر، التي كانت قد أنعشت من جديد الروح الصليبية في أوروبا، على نحو ما أوضح الدكتور محمد الأرناؤوط في كتابه (تاريخ بلغراد الإسلامية)، فخلال هذا القرن كانت بلغراد القلعة الحدودية للمجر، وأصبحت رمزاً يعني الكثير لكل أوروبا في صموده أو سقوطه.

حاول العثمانيون فتح بلغراد 3 مرات، ولم يتمكنوا من ذلك إلا في المرة الرابعة بعد مرور ما يقرب من قرن من الزمان على محاولتهم الأولى، ويذكر التاريخ أن المحاولة الأولى لفتح بلغراد جرت في عهد السلطان العثماني مراد الثاني سنة 845هـ عندما أعلن البابا «أوجينيوس الرابع» حملة صليبية ضد الأتراك لطرد هم من أوروبا، وتوالت محاولات العثمانيين إلى أن اعتلى السلطان القانوني الحكم، ولم تمض عليه إلا ثمانية أشهر حتى قام بحملته الأولى، التي أراد أن تكون وجهتها بلغراد.

تحييد أوروبا عن الحرب

بنى القانوني موقفه من بلغراد وتصميمه على فتحها على اعتبارات سياسية واستراتيجية عدة، فالمملكة المجرية هي الخصم الأكبر للعثمانيين في أوروبا الشرقية، وتمثل سداً منيعاً دون انتشار الإسلام في أوروبا الشرقية، كما استطاع القانوني بحنكته السياسية الكبيرة أن يحيد القوى الأوروبية عن التدخل لإنقاذ بلغراد، فالبندقية كانت تناقش في ذلك الوقت عقد معاهدة تجارية مع العثمانيين، ولم يكن من مصلحتها أن تدخل في حرب ضد العثمانيين تأييدا للمجريين. أما الفاتيكان وملك بولندا فلم يجدا مبرراً للتدخل لمساندة بلغراد، كما أن أوروبا كانت على وشك حالة من الانقسام الديني، بسبب دعوة «مارتن لوثر» الدينية الجديدة التي تزامنت مع بدايات تحرك السلطان القانوني نحو بلغراد. والفرنسيون نصحوا الملك المجري «لويس» بإبرام هدنة مع القانوني كسباً للوقت، أما الألمان فكانوا مشغولين عن مساندة بلغراد ببعض العوامل الداخلية.

استعدادات القانوني

ويوضح الدكتور الأرناؤوط في كتابه (الإسلام في يوغوسلافيا من بلغراد إلى سراييفو) الترتيبات التي اتخذها سليمان استعداداً لفتح بلغراد, فقد جمع قوات النخبة العثمانية المسماة «السباهية» من عدد من الولايات، وزاد في عدد القوات النظامية, وأصر القانوني على أن يكون خروجه بالجيش يوماً مشهوداً يشهده سفراء الدول الأجنبية في الدولة العثمانية، وكان يهدف من وراء ذلك إلى القيام بحرب نفسية ضد المجر، وحرب نفسية أخرى ضد الأوروبيين حتى لا يفكروا في تقديم يد العون لبلغراد.

زحف الجيش السلطاني حتى أسوار قلعة بلغراد الحصينة، وتم الفتح بعد أسابيع عدة من الحصار والمعارك، حيث وعد السلطان سليمان الصرب بالحفاظ على حياتهم إذا تركوا المجريين في القتال, ففتحت القلعة في الرابع من رمضان 927هـ، أما بلغراد المدينة فتم فتحها في الـ26 من الشهر نفسه، وسرعان ما انتشرت أخبار الانتصار في العالم، وأرسل الأوروبيون وفوداً للتهنئة بالفتح.

ازدهار بلغراد

ازدهرت بلغراد خلال الحكم العثماني الطويل، وتحولت من قلعة إلى واحدة من أكبر المدن في أوروبا الشرقية، ونشأت خارج القلعة مدينة جديدة ازدهرت ازدهار المدن الإسلامية، وشكلت نموذجاً حضارياً متقدماً بالنسبة للوسط الأوروبي، ومن الثابت تاريخياً أن بلغراد ظلت مدينة إسلامية لقرون عدة، من حيث العمران والحركة العلمية. وقد حوَلها المسلمون إلى واحدة من أعظم مدن أوروبا حضارة، وقت أن كانت أوروبا تعيش في ظلمات الجهل والتخلف.