«إن الرزق رزق الله، والمال مال الله، والأرض أرض الله، والفضل فضل الله، والخلق خلق الله، ومن توكل على الله أعطاه الله، ومن يبينا حياه الله».. غيض من فيض حكمة المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، ترحب بتعدد الجاليات، وتعزز ثقافة التسامح.. «البيان» تستعرض شهادات 30 شخصية طاب لها العيش على أرضنا الطيبة.

خارطة طريق المحامية الصينية سينتيا ترينش، فريدة من نوعها، فقط حطت رحالها تقريباً في معظم بلدان العالم، بداية من هونغ كونغ، مسقط رأسها، مروراً بنيويورك وبنما ومدريد وفرنسا، وأخيراً دولة الإمارات، كمرافقة لزوجها الذي كان يعمل لدى أحد أهم البنوك العالمية في الدولة، ولم يخطر على بالها أن خارطة طريقها رسمت دبي على مسافة من القلب، بالتوازي مع مستقبل واعد لمسيرتها المهنية.

الكنز المفقود

تقول سينتيا ترينش: كانت دولة الإمارات وبيئتها الاجتماعية والاقتصادية في بداية الثمانينيات بالنسبة لي، ولكثير من الأصدقاء والأقارب، بمثابة بلاد الكنز المفقود، فنحن نعلم قيمتها، ولكن نجهل الأسس لهذه القيمة المعنوية والمادية في قلب الشرق الأوسط والعالم الإسلامي، ومن جانب آخر، تابعت أسفاري وترحالي في العديد من المدن والعواصم، حيث كنت أبحث وراء زيادة معارفي الأكاديمية في حقل القانون والمحاماة، التي برع فيها الرجال وتفوقوا، وأصبحت لهم الكلمة العليا على حساب المحاميات، وذلك يحدث في الغرب أيضاً، وهذا ما اكتشفته في ما بعد، ولكني تابعت الحصول على الكثير من الدورات والشهادات الدعامة لقدراتي، إلى أن يشاء القدر أن يتم نقل زوجي السابق إلى فرع بنك HSBC في الإمارات، وتحديداً في إمارة دبي.

بنت المستعمرة

وتضيف ترينش: ولدت وترعرعت في مدينة هونغ كونغ؛ إنها بوتقة انصهرت فيها التأثيرات الغربية والشرقية معاً، استعادت الصين سيادتها عليها منذ عام 1997، بعد أن كانت مستعمرة بريطانية، لذا، تنبض روحي ومشاعري، وربما تأثرت ملامحي قليلاً بهذا المزيج الغربي الهجين، الذي يشع سحراً شرقياً أصيلاً، يتراقص على أوتار الحداثة والمدنية، وبطبيعتي العاشقة للترحال واكتشاف المجهول، باتت بلاد الكنز المفقود، أقرب بالنسبة لي، وبالمصادفة، وجدت نفسي، وبحلول 9 أبريل 1998، أكثر ميلاً للاستقرار في مدينة دبي، ووضع حقائب سفري جانباً بعض الوقت، وبعد حصولي على ترخيص مزاولة المهنة كأول محامية أجنبية في دبي، قررت أن أودع حقائبي خزانة المهملات إلى الأبد.

روابط وثيقة

وترى ترينش أن طبيعية الحياة اليومية المرتبطة بسلوك وعادات المواطنين والسكان المحليين في أواخر التسعينيات، كانت مشجعة على توطيد العلاقات مع العوائل والنساء لفترات طويلة، فكنت ألقى خلال حضوري المجالس، ترحيباً من المواطنين أنفسهم، وكانت تلك وسيلة لتقوية هذا الترابط وتعزيز الفهم الصحيح للثقافة المحلية، من خلال الوجود اليومي، شهدت دور «المجالس» في حياة الأهالي وجيرانهم، والذي يعزز مشاركتهم في أفراحهم وأتراحهم، ويقوي من قيم التكافل الاجتماعي بين الفقراء والأغنياء، كما يسهم في تعليم الأطفال القيم والسلوكيات الحميدة التي لا يتعلمها المرء إلا بالممارسة، مثل استقبال الضيوف وضيافتهم وطريقة الأكل والتحدث وغيرها، وفي «المجالس»، استطعت تكوين مفاهيمي ومفرداتي الخاصة عن عطاء وتواضع أبناء المجتمع الإماراتي، الذي لا يمكن، ومن رابع المستحيلات، أن يبادر يوماً بسؤالك ماذا سوف تقدم لي؟، قبل أن يسألك كيف الأهل وكيف الصحة، وهل تحتاج مني شيئاً ما؟، وهل لي أن أقدم لك يد العون؟، ثم يدعو لك الله أن يمن عليك بالصحة والعافية!

روح القانون

ومن واقع عملها كمحامية ومستشارة قانونية طوال 20 عاماً، تؤكد ترينش أن القضاء الإماراتي نجح بشقيه المحلي والاتحادي، في تقديم نموذج ناصع لترسيخ سيادة القانون، وتكريس مبدأ الفصل بين السلطات، وأسهم هذا النظام في تفعيل مبادئ العدالة، سواء من خلال المحاكم أو من خلال خدمات التحكيم، في تعزيز أمن المجتمع وسلامته، وتحقيق الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي لأبناء الدولة والمقيمين على أرضها الطيبة، بجانب المستثمرين الأجانب، وإرساء مبادئ المسؤولية والشفافية، وفي الوقت الذي تم فيه الاهتمام ببناء القدرات الوطنية، من خلال استقطاب وتعيين أعضاء السلطة القضائية من أبناء الدولة، وتزويدهم بالتدريب اللازم لشغل وظائف القضاء والنيابة العامة، ومع تعدد الخطط الاستراتيجية وبرامجها في وزارة العدل، كانت الحاجة لتلبية متطلبات الوزارة بإنشاء محاكم متخصصة على مستوى الدولة، وتوفير وتهيئة البيئة والظروف الموائمة للهيئات القضائية والنيابية، التي تحفز الجميع على تنمية الذات ورفع الكفاءات المهنية والتطوير الدائم، بما يعود بالنفع على مسيرة القضاء العادل في الدولة.

ثقافة التعايش

وتؤكد ترينش: مع طبيعة المواطنين المحبة للعطاء والمتسامح، وقفت حائرة ومندهشة من الموافق الكثيرة التي تضرب أروع قصص التواضع والتلاحم والتسامح بين المواطنين، وأيضاً المقيمين العرب والمسلمين، وأن تبني قيم الوسطية والتآخي والتسامح ودعمها بانتهاج الفكر المعتدل، يعزز الريادة الإماراتية الحقيقية في التعايش المشترك داخلياً وخارجياً، حيث تعيش أكثر من مئتي جنسية على أرض الإمارات الطيبة، بكل وفاق وانسجام وسلام ونظام اجتماعي متين قائم على العدالة وسيادة القانون، وهو ما لا يقتصر على المستوى الداخلي في الإمارات، بل يشمل علاقاتها الخارجية، انطلاقاً من إيمانها العميق بأن نشر ثقافة التعايش، خير سلاح للقضاء على آفة التطرف، وتحقيق الأمن والاستقرار حول العالم.

موائد الرحمن

وتوضح ترينش، أن الخيم الرمضانية بشكلها الخليجي أحياناً، وذات طراز عصري، هنا وهنالك، مجهزة بمعدات التكييف لمقاومة شدة الحر، وبمختلف الكراسي والطاولات لاستقبال آلاف الصائمين، أغلبهم من العمالة الوافدة، أو من المستخدمين ذوي الدخول المحدودة، ومتطوعين يشتغلون كخلية نحل، همهم الوحيد، إمداد موائد الإفطار بكل أصناف المأكولات الطازجة، وتعد من مظاهر التكافل الاجتماعي، وخاصة في شهر رمضان، والتي تنصب بمحاذاة المساجد لتستقبل الصائمين الذين يفدون إليها يومياً، من أجل إشباع جوعهم، وإرواء ظمأهم، حيث تتحول هذه الفضاءات إلى شبه «مطاعم متنقلة» تعج بالحيوية، أعداد غفيرة من «الوافدين»، ألفوا ارتيادها بشكل يومي، من أجل تناول وجبات تغنيهم عن توفير احتياجات هذا الشهر الفضيل من مستلزمات الأكل والشرب، وتنسيهم مشاق العمل تحت أشعة شمس حارقة.

تقاليد متوارثة

وتقول ترينش، من أصدقائي المواطنين، تعلمت معني كلمة «مير»، وهو عادة متوارثة، ترصد تجهيزات العائلات الإماراتية بفترة قليلة قبل هذا شهر رمضان، من أجل إعداده، حيث تقتني كل المستلزمات الضرورية لذلك من مؤن غذائية وأوانٍ مطبخية، وفى الأغلب، هي هدايا أيضاً تقدم للأهالي والأصدقاء بمناسبة شهر رمضان، وهي عبارة عن أرز وطحين وسكر وتمر وبهارات، بهدف تعزيز صلة الرحم، وقيم التآزر والتماسك الاجتماعي، وفي شهر رمضان أيضاً، تبدو مائدة الطعام الإماراتية، والتي يطلق عليها محلياً بـ «السفرة»، مؤثثة بالأطباق والمأكولات الشعبية المعروفة، والتي يظل أشهرها «البرياني» «القوزي»، صحن كبير من الأرز ممزوج بالبهارات، محشو بلحم الغنم، إضافة إلى «الهريس» ثم «الثريد أو الفريد» و«البلاليط» و«اللقيمات» والحساء، الذي يبدو حضوره أساسياً في كل بيت إماراتي، إضافة إلى كمية من التمر المحلي واللبن.

مهرجان رمضان

وتعتقد ترينش، أن كثرة نصب الخيام في الشواطئ والبراري للجلوس هناك، والترويح عن النفس بعد إتمام العبادة، من الملامح المُمَيزة في الإمارات خلال الشهر الفضيل، كما تعتبر المهرجانات الرمضانية، من أهم المشاهدات في كل المدن والمناطق، وهي مهرجانات شرائيّة، تُنصَب فيها الخيام، ويأتي فيها البائعون من الداخل والخارج، ويصاحب هذه المهرجانات، وجود ألعاب ترفيهية للأطفال، وأماكن مخصصة لبيع المأكولات والمشروبات المختلفة، كما تُخصص زوايا تراثية، تُعرض فيها صور للحياة من الماضي، ما يعيد إلى الأذهان أصالة حياة الآباء والأجداد.

المرابع واحتي

وفي ما يتعلق بأكثر المدن والمناطق الترفيهية المحببة لديها في الإمارات، توضح ترينش، أن منزلها في منطقة المرابع العربية، هو الأقرب إلى قلبها، نظراً إلى فكرته الشبيهة بتكوين مجتمع عصري، يمزج بين الحياة الراقية وسحر الأجواء الصحراوية، حيث يشتمل المكان على ملعب مخصص لبطولات الغولف، و«نادي دبي للفروسية والبولو»، وفق أعلى معايير الجودة، مع إطلالات مميزة على طبيعة خلابة وهادئة. ومن جانب آخر، أحرص على التخييم في الصحراء، ضمن رحلات السفاري المعتمدة، كلما سنحت الظروف والوقت، كما أنني عاشقة للحياة البحرية، والغوص على وجه التحديد في منطقة دبا الفجيرة، وتحديداً في جزيرة مسندم، والتي تشاهد فيها أنواعاً مختلفة من الطيور، وقد جعل العمق والمياه الباردة والتيارات المتقلبة من المنطقة، أرضاً غذائية خصبة للأحياء البحرية، فتستطيع مشاهدة الدلافين، وأسماك القرش، والسلاحف، والشعاب المرجانية المعتادة، ومن الطبيعي ألا تكون الرؤية في المحيط الهندي واضحة، كما في البحر الأحمر، ولكن تنوع الحياة البحرية هناك، طالما ملأت رحلتي بالعجائب.

مدينة الحصون

تتمنى ترينش زيارة «ليوا»، مدينة التاريخ والواحات، وهي العاصمة القديمة والحصن المنيع وقلب منطقة الظفرة، التي كانت تصد كل الغارات التي تقع في تلك المنطقة وتحميها، وتشكل قوساً يمتد من الجنوب الغربي حتى الجنوب الشرقي في قلب إقليم الظفرة، وتعد ليوا، الواحة الأكبر من نوعها في الجزيرة العربية، والمدخل إلى الربع الخالي.