إذا ما اشتدت وطأة الحياة وتأزمت الكلمة وعجز العقل عن التمييز بين الواقع والخيال، أو بين الشيء ونقيضه، عندئذ نلجأ للحكمة التي هي خلاصة تجارب الناس لمئات السنين.

والحكمة لا تأتي إلا من تجربة، والتجربة لا تأتي إلا بالعمل، وقيل قديما: اسأل مجرب ولا تسأل طبيب.

فما أحوجنا اليوم لمثل تلك التجارب. نتزود بها حكمة وعبرة، بما يعزز لغتنا وقيمنا، ويتصدى لما يعتورهما من تشويه أو تقصير. وفي هذه الصفحة سأتناول مختلف المواضيع وأبحث عن التجارب وأقف معكم على صفات وأخلاقيات البشر وحالاتهم.. بين الترح والفرح، كل ذلك في وجبات يومية استخلصتها من التراث العربي الأصيل لأقدمها في هذه المساحة زاداً رمضانياً ننهل منه جميعنا.

 

من عين التراث اخترت اليوم مجموعة متنوعة من الأمثال والأقوال والاشعار، يستشهد بها ويستدل لجملة من الأغراض والأحوال.

ما له سبد ولا لبد

 

يقال: فلان ما له سبد أي (الشَعر) ولا لبد أي (الصوف) ويُضرب هذا المثل في الرجل الفقير.

ويقال: ما له ثاغية ولا راغية، فالثاغية: النعجة، والثغاء صوتها، والراغية: الناقة، والرغاء صوتها.

قال الشاعر: نشبي وما جمَّعت من صفدِ/ وحويت من سبدٍ ولبدِ/ من لم يكن لله متهماً/ لم يُمسِ محتاجا إلى أحدِ.

وقيل: أما الفقير الذي كانت حلوبته/ وفق العِيالِ فلم يُترك له سبَدُ.

كل آفة عليها آفة

 

والمعنى انه لكل شيء من وما يتسلط عليه. قال الشاعر: ولكل شيء آفة من جنسه/ حتى الحديد سطا عليه المبرد.

وقال آخر: لكل ساقطة في الحي لاقطة/ وكل كاسدة يوماً لها سوق

وقيل: كل امرئ فيه ما يُرمى به.

ما يوم حليمة بسر

 

يضرب مثلاً لكل أمر مشهور وهي حليمة بنت الحارث جبلة، وكان أبوها وجَّه جيشا لمحاربة المنذر بن ماء السماء، فأخرجت لهم طيباً وبخوراً فطيبتهم، وقال المبرد: هو أشهر أيام العرب، وارتفع في هذا اليوم دخان البخور مما غطى عين الشمس.

قال النابغة يصف السيوف: تخيرن من أزمان عهد حليمةِ/ إلى اليوم قد جُربن كل التجاربِ/ تقدُّ السلوقي المضاعف نسجهُ/ ويوقدن بالصفاح نار الحباحب.

(السلوقية: اسم مكان، الصفاح: حجارة عراض، والمضاعف: نسج حلقتين، والحباحب: اسم دويبة فضربها مثلا لما يتقدم من الحجارة إذا قرعتها السيوف).

خرجت حليمة لتعطير الجنود وهي أجمل ما يكون من النساء حتى مر عليها فتى منهم، فلما دنت منه قبّلها فلطمته وبكت وأخبرت أباها، فقال لها: ويلك اسكتي فهو أرجاهم عندي ذكاءَ فؤاد. حمل الجيش على المنذر وقتلوه فذهبت مثلا: ليس يوم حليمة بسر.

قال بشار بن برد: أنا المرعث لا أخفى على أحدٍ/ ذرَّت بي الشمس للقاصي وللداني.

وقال الأحوص الأنصاري: إني إذا خفيَّ الرجالُ وجدتني/ كالشمس لا تخفى بكل مكانِ.

وقال آخر: أغر شهير في البلاد كأنه/ به البلد يعلو أو سنا الصبح يسطعُ.

وقال أبي الهلال العسكري: فأصبح مشهور المكان كأنما/ سرىَ في جبيني إذ سرىَ الليلُ كوكبُ.

أجوع من كلبة حومل

 

يقال إن حومل امرأة من العرب واشتهرت بالبخل وكانت تجيِّع كلبة لها وهي تحرسها، ومن الجوع أكلت ذنبها.

قال الشاعر: كما رضيت جوعاً وسوء رعاية/ لكلبتها في سالف الدهر حوملُ/ نباحاً إذا ما أظلم الليل دونها/ وغنْماً وتجويعاً ضلالٌ مضللُ.

وقال شاعر آخر: تبيتون في المشتى ملاء بطونكم/ وجاراتكم جوعى يبتن خمائصا. (المشتى: مكة، خمائص: البطون اللاحقة من الجوع).

ما وراءك يا عصام

 

قال المفضل كما ورد في كتاب مجمع الأمثال لأبي الفضل أحمد بن محمد الميداني: أول من قال ذلك الحارث بن عمرو ملك كندة، وذلك أنه لما بلغه جمال ابنة عوف بن محلم الشيباني وكمالها وقوة عقلها، دعا امرأة من كندة يقال اسمها عصام ذات عقل ولسان وأدب وبيان وقال لها: اذهبي حتى تعلمي لي علم ابنة عوف، فمضت حتى انتهت إلى أمها وهي امامة ابنة الحارث فأعلمتها ما قدمت له، فأرسلت أمامة إلى ابنتها وقالت: أي ابنية هذه خالتكِ أتتك لتنظر إليكِ فلا تستري عنها شيئاً إن أرادت النظر من وجهٍ أو خلق وناطقيها إن استنطقتكِ، فدخلت إليها فنظرت إلى ما لم ترَ قط مثله، فخرجت من عندها وهي تقول: (ترك الخداع من كشف القناع) فأرسلتها مثلا. ثم انطلقت إلى الحارث فلما رآها مقبلة قال لها: ما وراءك يا عصام؟ قالت: صرَّح المخضُ عن الزبد. رأيت وجهاً كالمرآة المصقولة يزينها شعر حالك كأذناب الخيل.

ويضرب هذا المثل في استعلام الخبر، وقال بعضهم إنه للنابغة الذبياني الذي قال في الملك النعمان عندما كان مريضاً: ألم أقسم عليك لتخبرني/ أمحمول على النعشِ الهمامُ/ فإني لا ألومك في دخولٍ/ ولكن ما وراءك يا عصامُ/ فإن يهلك أبو قابوس يهلك/ ربيعُ الناس والشهر الحرامُ/ ونمسك بعده بذناب عِيشٍ/ أجبِّ الظهرِ ليس له سنامُ.

من يشتري سيفي وهذا أثره

 

ويضرب هذا المثل في المحاذرة من شيء قد ابتلى بمثله مرة.

قال المفضل: أول من قال ذلك هو الحارث بن ظالم المري: أنا أبو ليلى وسيفي المعلوبْ/ من يشتري سيفي وهذا أثره.

وقال الأغلب العجلي: قالت له بعض ما تسطرُهْ/ من يشتري سيفي وهذا أثرُهْ

نفس عصام سوَّدت عصاما

 

يضرب في نباهة الرجل ويقال: كن عصاميا ولا تكن عظاميا.

عصاميا بمعنى الاتكال على النفس والعظامي أن تتكل على عائلتك، والعرب تسمي العصامي (الخارجي) يعني انه خرج بنفسه من غير عون من أهله.

قال الشاعر: أبا مروان لست بخارجي/ وليس قديم مجدك بأنتحالِ

وقيل: نفس عصام سوَّدت عصاما/ وعلمته الكر والإقداما/ وصيرته ملكاً هماما

المقادير تصّير العي خطيبا

 

يروى عن الحجاج بن يوسف أنه وُصف عنده رجل بالجهل فقال في نفسه.. لأختبرنه، ثم قال له حين دخل عليه: اعصامياً أنت أم عظامياً؟ يريد.. أشرفت أنت بنفسك أم تفخر بآبائك الذين صاروا عظاما؟ فقال الرجل: عصامي وعظامي. فقال الحجاج: هذا أفضل الناس، وقضى حاجته ثم ناقشه فوجده أجهل الناس، فقال له: تصدقني وإلا قتلتك، قال له: قل ما بدا لك وأصدقك، قال: كيف أجبتني بما أجبت لما سألتك عما سألتك؟ قال له: والله لم أعلم أعصامي خير أم عظامي، فخشيت أن أقول أحدهما فأخطئ، فقلت: أقول كليهما، فإن ضرني أحدهما نفعني الآخر. وكان الحجاج ظن أنه أراد أن يفتخر بنفسه وبشرف آبائه. فقال الحجاج عند ذلك: (المقادير تصِّير العي خطيباً) فسارت مثلاً.

البيت لا يبتنى إلا له عمد

 

إذا كان الأساس قويا فلا خوف على البيت أن ينهار، فكل شيء يجب أن تكون له بداية قوية وأساس قوي، وهذا الأمر ينطبق حتى على بناء الأمم والشعوب. قال الشاعر: له بالخيف قد علمت معدٌّ/ وإن البيت يرفعُ بالعمادِ.

وقال آخر: والبيت لا يبنىَ إلا له عمدٌ/ ولا عماد إذا لم ترسَ أوتادُ/ فإن تجمَّعَ أوتادٌ وأعمدةٌ/ وساكنٌ بلغوا الأمر الذي كادوا.

بلغ السيل الزُبى

 

ويقال أيضا: بلغ الحزامُ الطبيينِ، و.. بلغ منه المخنَّقَ، ويضرب هذا المثل للأمر الذي يبلغ غايته في الشدة والصعوبة.

الزيبة: حفيرة تحفر في الأرض وتغطى ويجعل عليها طعم، فيراه السبع من بعيد فيأتيه، فإذا استوى عليها انقض غطاؤها فهوى فيها. وأصلها أيضاً الرابية التي لا يعلوها الماء، فإذا بلغها السيل كان جارفاً.

(المخنق: الحَلْق، الفم، وأصله في الماء يبلغ حلق الغريق).

نام عصام ساعة الرحيل

 

ويضرب هذا المثل لمن طلب الأمر بعد فوات الأوان.

ومثله: سَمّوك مسَحِّر خلص رمضان، و.. بعد العرس ما رقص، و.. كل أرض شربت ماءها، و.. الذي فات مات، و.. بعد فوات الأوان.

قال خفاف بن ندبة السلمي: فأصبحتَ تبكي على زلةٍ/ وماذا يرد عليك البكا

وقيل: فدع ذكر شيء قد مضى ليس راجعاً/ فذلك دهرٌ قد تولىَ وذا دهر.

من استرعى الذئب ظلم

 

ويضرب هذا المثل لمن يولي غير الأمين، ويجور أن يراد به ظلم الذئب حيث كلفه ما ليس في طبعه. ولكن كما جاء في مجمع الأمثال للميداني قال: قالوا: إن أول من قال ذلك هو أكثم بن صيفي، وذلك أن عامر بن عبيد بن وهيب تزوج صعبة بنت صيفي أخت أكثم فولدت له ثلاثة أولاد: ذئبا، وكلبا، وسبعا. فتزوج كلب امرأة من بني أسد ثم من بني حبيب وأغار على الأقياس وهم قيس بن نوفل وقيس بن وهبان وقيس بن جابر فأخذ أموالهم وأغار بنو أسد على بني كلب، وهم بنو أختهم، فوفد كلب بن عامر على خاله أكثر فقال: ادفع إلى الأقياس أموالهم حتى أفتدي بها بنيَّ من بني أسد، فأراد أكثر أن يفعل ذلك، فقال أبوه صيفي: يا بني لا تفعل فإن الكلب إنسان زهيد إن دفعت إليه أموالهم أمسكها وإن دفعت إليه الأقياس أخذ منهم الفداء.

ولكن تجعل الأموال على يد الذئب فإنه أمثل اخوته وأنبلهم وتدفع الأقياس إلى الكلب، فإذا أطلقهم فأمر الذئب أن يدفع إليهم أموالهم، فجعل أكثم الأموال على يد الذئب والأقياس على يد الكلب، فخدع الكلب أخاه الذئب وأخذ منه أموالهم وقال لهم: إن شئتم جززت نواصيكم وخليت سبيلكم وذهبت بأموالكم، وخليتم سبيل أولادي، وبلغ ذلك أكثم فقال: من استرعى الذئب ظلم. وأطمع الكلب في الفداء فطوَّل على الأقياس فأتاه أكثم فقال: إنك لفي أموال بني أسد وأهلك في الهوان، ثم قال: نعيم كلبٍ في هوان أهله أو يقال أيضا: نعم كلب من بؤس أهله.

كالثور يُضرب لما عافت البقر

 

كانت العرب إذا أرادوا البقر فلم تشرب لكدر الماء أو لأنه لا عطش بها ضربوا الثور ليقتحم البقر الماء. ويضرب هذا المثل في عقوبة الإنسان المأخوذ بذنب غيره.

قال الشاعر نهشل بن حري: أتترك دارمٌ وبنو عدي/ وتغرَمُ عامرٌ وهم براءُ/ كذاك الثور يُضرب بالهراوي/ إذا ما عافت البقر الظماءُ.

وقال أنس بن مدرك: إني وقتلي سُليكاً ثم أعقله/ كالثور يُضرب لما عافتِ البقرُ

نام نومة عبُّود

 

يقال إن أصل ذلك أن عبودا كان تماوَت على أهله وقال: اندبوني لأعلم كيف تندبوني ميتا فندبوه، ومات على تلك الحال. وفي رواية أخرى أن عبوداً كان حطاباً وبقي في محتطبه أسبوعاً لم ينم، ثم انصرف وبقي أسبوعاً نائماً.

ويضرب المثل لكل من نام نوماً طويلاً، حتى يقال: أنوم من عبود، ويقال أيضا: انعس من كلب، و.. أنوم من فهد، وإذا قيل فهدَ الرجل أي أكثر من النوم.

أنا غنية وأحب الهدية

 

قال الشاعر: هدايا الناس بعضهم لبعض/ تُولِّدُ في قلوبهم الوصالا/ وتزرع في القلوب هوىً ووداً/ وتكسوك المهابة والجلالا.

ويقال: محبةٌ بلا حبة ما تساوي حبة.

وأما الشاعر فقال: إن الهدية حلوة/ كالسحر تجتلب القلوبا/ تُدني البغيض من الهوى/ حتى تصيرهُ قريبا.

وقال آخر: جاءت سليمان يوم العرض هدهدةٌ/ أهدت له من جراد كان في فيها/ وانشدت بلسان الحال قائلةٌ/ إن الهدايا على مقدار مهديها/ لو كان يُهدىَ إلى الإنسان قيمته/ لكان يهدى لك الدنيا وما فيها.

قالوا في الغراب

 

الأعراب تسمي الغراب بالأعور تطيراً منه، ولكن ضرب المثل به فقيل: أصح من غراب، و.. أصبر من غراب، و.. أصفى عيناً من غراب.

قال ابن ميادة: ألا طرَقتنا أم أوسٍ ودونها/ حِراجٌ من الظلماء يعشَ غرابُها

فبتنا كأنا بيننا لطيمةٌ/ من المسك أو داريةٌ وعِابها.

(لطيمة: وعاء العطر، دارية: العطور المنسوبة إلى الهند ويقال إنها بلد في الهند).

أعطِ القوس باريها

 

أي استعن على عملك بمن يحسنه. قال الشاعر: يا باري القوس برياً لستَ تُحكمه/ لا تظلم القوس أعطِ القوسَ باريها.

ويقال: الآن حين تَعاطىَ القوسَ باريها.

قال أبي بن حمام المري: فخلّ مكانا لم تكن لتسدهُ/ عزيزاً على عبس وذيبانَ ذائدُهْ

وقيل: استعينوا على كل صناعة بأهلها.