أوراق رمضانية.. نبحر خلالها في ما ارتضاه الخالق لخلقه، وما يليق بالمسلمين نهجاً وسلوكاً وفهماً وحياةً. فيها نجد ما قاله الرب والعبد في ما هو خيرٌ للناس، ونتلمس المعاني، وندرك التفاسير، ونحوط معاً في تعاليم ديننا الحنيف، في ما أقره الإسلام وانحاز إليه، وفي ما نهى عنه ونبذه.. نخلص النية للخالق جل وعلا، وندرك عظمة الفهم للأوامر الربانية. وفيها أيضاً ما يجول في حياتنا وتربيتنا الإسلامية.. نتعرف على حكم وأحكام، ونتلمس الدروب للفهم والإنجاز، ونتعمق في تدابير الخالق للكون والإنسان.. في أوراق رمضانية لـ محمد الطيب عربي، نتوقف بعين التأمل للتلذذ في ما يمكن أن يجعل من يومنا الرمضاني ثرياً وغنياً بما يرضي الله، وبما يرضي ضمائرنا المنتمية إلى هذه الرزانة والثقة؛ والتربية الإسلامية.
«لقد أخذ الله الميثاق على العلماء ليبيننه للناس ولا يكتمونه. لا يكون للعالم خواص ولكن يعلم الناس ويريد الله بتعليمه. هذا رأينا، أحسن ما قدرنا عليه، فمن جاءنا بأحسن منه فهو أولى بالصواب منا». أبو حنيفة
من المسلَّم به أن الإنسان يطلب الحرية دائماً ويناضل من أجل تثبيت كرامته وعزته التي كرمه الله بها. وهذا الإمام الجليل النعمان بن ثابت «أبو حنيفة» حرص على مناصرة هذا الجانب في الإنسان فهو داعية الحرية في مذهبه الفقهي، إذ إنه «لا يقر الحجر على الإنسان إلاَّ في حالات ثلاث: الجنون، والصغر، والرق. أما السفيه فلا يقر الحجر عليه ويرى أن أهليته أهلية كاملة لأن هذا الإنسان السفيه هو حر في الأصل في تصرفاته والحجر يتأبى الحرية وفيه العداء لإنسانيته، وهي ــ أي الإنسانية ــ في نظر الإمام أبي حنيفة، أجل وأعظم خطراً من المال الذي يراد التحفظ عليه، كما أنه كذلك لا يرى الحجر على المدين المستغرق في الدين.
حق المرأة
وفي مناصرته لإنسانية الإنسان وحريته يقرر أبو حنيفة: «للمرأة البالغة إرادتها وحريتها في الزواج بمن ترى الخير لها أن تتزوج به فلا يجعل لوليها سلطاناً عليها، فهو يرى أن ولاية إنسان على آخر لا يصح أن تفرض إلاَّ للضرورة، لأنها تنافي الحرية التي هي حق إنساني للناس جميعاً ونسمعه يقول: إن من حق المرأة الحرة البالغة ان تزوج نفسها ممن ترغب، بكراً كانت أم ثيباً دون تدخل وليها لأن ذلك تصرف منها في خالص حقها، ولئن كان لوليها حق «الاعتراض» في حالة عدم «كفاءة» الزواج، بمعنى أن للولي الحق في الاعتراض إذا أثبت أن الزوج غير كفء لمن تحت ولايته.
هذا هو الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت الذي ولد بالكوفة سنة ثمانين للهجرة، أي قبل نهاية القرن الهجري الأول، وهو بذلك يعتبر أكبر الأئمة الأربعة، ومنذ صباه نشأ على طلب العلم. جاء في المجلد الخامس لكتاب وفيات الأعيان أنه كان عالماً عاملاً، زاهداً عابداً، ورعاً تقياً، كثير الخشوع دائم التضرع إلى الله.
أقوال كبار
يُؤثر عن الإمام الشافعي قوله في أبي حنيفة: «إن الناس عيال على هؤلاء الخمسة: من أراد التبحر في الفقه فهو عيال على أبي حنيفة، ومن أراد أن يتبحر في الشعر فهو عيال على زهير بن أبي سلمى، ومن أراد التبحر في المغازي فهو عيال على محمد بن اسحق «صاحب السيرة المعروف»، ومن أراد أن يتبحر في النحو فهو عيال على الكسائي، ومن أراد أن يتبحر في التفسير فهو عيال على مقاتل ابن سليمان».
وإنها لشهادة من إمام في الفقه له مكانته المتميزة، شهد لأبي حنيفة بأنه إمام الفقهاء مع أنه ــ أي الشافعي ــ له في الفقه وفي الأدب وفي كثير من العلوم ميزته التي لا يجهلها أحد، ولم يقتصر الأمر على الشافعي فهناك شهادة تؤثر عن الإمام يحيى بن معين الذي يقول: «القراءة عندي قراءة حمزة، والفقه عندي فقه أبي حنيفة».
العلم والتقوى
من هذه الشهادات تتوفر صفة العلم عند أبي حنيفة، ولكن ما أكثر هؤلاء الذين تتوفر لديهم هذه الخاصية، فهل غزارة العلم ووفرته تكون سبيلاً للانفتاح؟ العلم وحده لا يكفي إن لم يصاحبه ورع وتقوى وصلة ورابطة قوية بين العالم وخالقه، وحياة أبي حنيفة تؤكد أن هذا الجانب كان متوفراً في حياته.
كانت صلته بربه أقوى ما تكون، يكفي دليلاً على ذلك أن نتناول لقطتين من هذه الرابطة الموصولة بربه، فقد أثر عنه أنه صلى صلاة الفجر بوضوء العشاء أربعين سنة. ويروى أنه عندما مات، رحمه الله، قام بغسله الحسن بن عمارة، وما إن انتهى من ذلك، حتى وجه الخطاب إلى الجسد المسجى أمامه قائلا: «رحمك الله وغفر لك، لم تفطر منذ ثلاثين سنة وقد أتعبت من بعدك وفضحت القراء»، يعني أنهم مهما اجتهدوا قليل منهم من يستطيع أن يصل إلى هذه المرتبة من الورع، كيف لا وهو من يقوم الليل أربعين سنة على ما جاء من أنه يصلي بوضوء العشاء الفجر، وذلك دليل على عدم نومه فالنوم ينقض الوضوء كما هو معروف ويواصل الصوم لثلاثين عاماً، ومنا في زماننا هذا ينزعج من صوم رمضان الذي هو شهر في كل عام.
تاجر ثياب
إذاً، فهذا الانفتاح وهذا الفيض، وهذا الإلهام في فكر أبي حنيفة الفقهي جاء نتيجة التزاوج بين التقوى والعلم، فأعطى هذا الإمام ما أعطى ــ كما يقول الأستاذ أنور الجندي: «وهو مولى من الموالي في لغة عصره للمسلمين، علماً ونقلاً وبراعة وحلولاً لأمور حياتهم، وأعطى ما أعطى للمسلمين في بيئة الحضارة وصراع المذاهب والفلسفات، وبهذا العطاء كم أفسح للفكر الإسلامي من طريق إلى الاجتهاد والتفتح والانطلاق إزاء معضلات المجتمعات».
تجدر الإشارة إلى أن أبا حنيفة كان في أول أمره وبدايات حياته تاجراً في الثياب والمنسوجات وقد ظل كذلك مع علمه وفقهه بقية حياته، لم يترك عمله ويتفرغ للعلم ومجالسه، مع أنه لو فعل ذلك لكفلت له مؤونته.
يقظة وحركة
يروى أن الإمام الشعبي ــ قاضي الكوفة وكبير محدثيها آنذاك ــ التقى أبا حنيفة ذات مرة فسأله: إلى من تختلف؟ فقال: أختلف إلى السوق. قال الشعبي: لم أعن الاختلاف إلى السوق، بل أعني الاختلاف إلى العلم فتفكر أبو حنيفة هنيهة فأكمل الشعبي كلامه قائلاً: «عليك بالنظر في العلم ومجالسة العلماء فإني أرى فيك يقظة وحركة» وبهذه الكلمات من الشعبي انفتح طريق العلم أمام أبي حنيفة غير أن الكوفة كانت وقتها تعج بحلقات العلم وتزخر بمختلف فنونه، وكان العلماء يومئذ فيها كثراً، فهناك حلقات للتفسير وأخرى للفقه وحلقات لعلوم الكلام وغير ذلك من الشعر والنحو والعروض وعلوم اللغة.. ويقال إن أبا حنيفة مر بهذه الحلقات جميعاً ثم توقف عند الشيء الذي وجد نفسه فيه: الفقه.
ونسمع هذا الإمام الجليل يقول عن منهجه في الفقه: «إني آخذ بكتاب الله إن وجدته، فما لم أجد فيه أخذته بسنة رسول الله والآثار الصحاح التي في أيدي الثقات، فإذا لم أجد في كتاب الله ولا سنة رسوله، أخذت بقول أصحابه من شئت وأدع قول من شئت، ثم أخرج عن قولهم إلى قول غيرهم، فإذا انتهى الأمر إلى إبراهيم والشعبي وابن سيرين وابن المسيب (وهم من التابعين) فلي أن أجتهد كما اجتهدوا».
أبو حنيفة والتابعون
لأبي حنيفة النعمان رحمه الله، قول معروف في مجال الرأي، إذ أثر عنه قوله: «إذا جاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذنا به، وإذا جاء عن الصحابة تخيرنا، وإذا جاء عن التابعين زاحمناهم». يقول الدكتور مصطفى الشكعة: «أبو حنيفة من جيل التابعين، ومن ثم فقد حق له على النطاق الزمني وعلى بساط العلم، أن يتعامل مع الجيل السابق له تعامل الصيرفي الذي ينقد الجيد من الرديء، والأصيل من الدخيل من الأحاديث والأخبار، وأن يكون صاحب رأي في هذا القبيل من القول أو ذاك، وقد سلم له بالفكر والعلم والعدل في أن يجتهد وينتهي إلى الرأي الذي يراه صحيحا ويصلح أن يعتمده المسلمون.