مدارس لها تاريخ ـ حكاية مثيرة لمدرسة فوق جزيرة، «أبو موسى» افتتحت عام 1966 فأوقفت اغتراب طلاب العلم

ت + ت - الحجم الطبيعي

حين تقدم المدارس العلم والمعرفة فانها بذلك تصنع التاريخ الذي تنسجه شخصيات كانت ذات يوم فوق مقاعد الدراسة كي تتسلح لمعركة الحياة بعلوم العصر وفنون البشرية. وكالأفراد وحركتهم المعروفة في الازمان والعصور فان للمدارس ايضا دورها فيما تصنعه ـ رغم ثباتها الظاهري ـ في محيطها اذ تلعب دورا مؤثرا فيما وفيمن حولها يجعلها هي الاخرى صاحبة تاريخ لا ينفصل مطلقا عن تاريخ وحركة مجتمعها. حول المدارس ذات التاريخ والاثر والمكانة والدور نلتقي لنطالع تلك الملفات القديمة لـ «مدارس لها تاريخ». نحن امام حكاية مثيرة لمدرسة يشير تاريخها الى ان افتتاحها كان سببا في احياء الجزيرة التي تحمل المدرسة اسمها والتي تشكل جزءا عزيزا من ارضنا برغم الاسر الذي تعانيه الجزيرة منذ تلك السنوات التي اعقبت احتلالها. ان المدرسة موضوع حلقة هذا الموضوع تقع على ارض جزيرة ابو موسى التي تبعد عن الشارقة بحوالي 48 كيلومترا، وتبلغ مساحتها 20 كيلومترا مربعا وهي على شكل مستطيل وسطحها عبارة عن سهول رملية خالية من الاشجار باستثناء تلك المساحات القليلة القريبة من ابار المياه العذبة. وتعتبر مدرسة أبو موسى رمزا لصروح العلم التي تؤثر طويلا وعميقا في محيطها فالمدرسة التي افتتحت عام 1966 قد اسهمت والى حد بعيد في تغيير صورة الحياة على الجزيرة وجعلت حياة سكانها أكثر استقرارا بعد ان اعتاد اهاليها الهجرة طلبا للعلم وكانت العادة حينذاك ان يصاحب الاهل ابناءهم الساعين الى طلب العلم في مدارس الشارقة التي تتبعها الجزيرة او في مدارس دبي القريبة منها. ولم يقتصر التأثير على اهل الجزيرة بل امتد ليشمل اهالي الجزر المجاورة ايضا اذ بادر هؤلاء الى الهجرة الى جزيرة ابو موسى لتعليم ابنائهم في مدرستها في وقت كانت المدارس معدومة تماما في تلك المناطق. وهكذا اصبح للجزيرة مكانة متميزة في عرض الخليج الذي تقع فيه بعد ان اقبل سكان الجزر المجاورة عليها باعتبارها واحة للعلم مما اعاد الحياة الى الجزيرة بعد ان افتتحت فيها مدرسة. وقد بدأت الدراسة في مدرسة ابو موسى بتعليم مختلط ضم الصبيان والبنات معا اذ التحق بها عام الافتتاح 45 صبيا و35 صبية درسوا معا داخل فصول المدرسة التي لها بدورها قصة اخرى اجدر ان تروى لتعرف الاجيال كم تطورت مسيرة التعليم في بلادنا وكيف نهضت حركته على مدى السنوات التي اعقبت قيام دولة الاتحاد. محمود وأبلة سامية ان الحديث عن مدرسة ابو موسى لا يتكامل الا برواية حول اثنين من المعلمين قدما الى الجزيرة في وقت تزامن مع افتتاحها، والمعلمان هما زوج وزوجة اختارهما المغفور له الشيخ خالد بن محمد القاسمي حاكم الشارقة آنذاك عندما قرر ان يفتتح مدرسة بالجزيرة على نفقته الخاصة وقد وقع اختياره حينئذ على المعلم محمود الحمارنة وهو فلسطيني من قطاع غزة وزوجته المعلمة سامية محمد حافظ من ضاحية عين شمس في القاهرة بجمهورية مصر العربية. وتقول الروايات الموثقة ان المعلم وزوجته وصلا الى الجزيرة ذات صباح في رحلة استطلاعية للتعرف على مدى امكانيات افتتاح المدرسة وقد شعرا وقتها برهبة عندما وطأت اقدامهما ارض الجزيرة ولولا ما لقياه من ترحيب حار وحفاوة بالغة من الاهالي لما زال عنهما شعورهما بالرهبة وبالتالي الرغبة في العودة من حيث أتيا. وكان قرار البقاء في الجزيرة من اهم العوامل التي ساعدت على افتتاح مدرسة على ارضها اذ بدأت على الفور عملية بناء غرف الدراسة والتي قام بها المعلم وزوجته بعد ان اكتشفا ان المنزل المخصص لاقامتهما لم يكن معدا في الاصل ليكون مدرسة. وتروي الوثائق حكايات جمعها في ذلك الوقت الصحفي العربي المعروف سليم زبال وأوردها في كتابه المعنون «كنت شاهدا..» والذي ننقل عنه بعض ما جاء فيه من روايات كان مؤلف الكتاب قد نشرها قبل ذلك بسنوات بعيدة في مجلة «العربي» الكويتية ضمن استطلاعاتها الشهرية في المناطق العربية. معلم في ثوب بناء وتقول الروايات ان المعلم محمود الحمارنة قد غلبته روح المسئولية تجاه ابناء الجزيرة فخلع لفترة ثوب الاستاذية التي تعاقد على ممارستها قبل مجيئه ليرتدي ثوب «البنّاء» كي يبدأ العمل في تشييد الفصول الدراسية التي تتيح له اتمام رسالته التي قدم من اجلها، وقام على الفور بتجميع المواد اللازمة لذلك والتي لم تكن سوى الواح من الورق المقوى وقطع من الاخشاب لجأ في تدبيرها الى الاستعانة باصحاب المراكب كي يجلبوا منها المزيد حيث قام الحمارنة بتقسيم الحجرات الى فصول على وجه السرعة ليبدأ تعليم الصغار في الجزيرة بأية وسيلة وعلى أية صورة وفي اسرع وقت ممكن، وهو ما حدث بالفعل لتكون قصته مضرب الامثال في عطاء المعلم لمجتمعه. ونواصل روايتنا للقصة المثيرة فنقول ان الحمارنة وزوجته المعلمة سامية سارعا في المساء وعقب اتمام البناء الى طرق ابواب منازل الجزيرة المئة داعين الاهالي ـ وكان عددهم آنذاك حوالي 700 فرد ـ الى ارسال ابنائهم وبناتهم الى المدرسة في اليوم التالي حيث بدأ التعليم فيها بحضور 80 صبيا وصبية هم اول دفعة من المتعلمين فوق ارض الجزيرة. الامطار تهدم المدرسة وتزداد حكاية مدرسة ابو موسى اثارة مع قدوم عام 68 اي بعد عامين من افتتاح المدرسة اذ تعرضت الجزيرة لهطول امطار غزيرة بينما التلاميذ والتلميذات داخل فصول الدراسة، ولم تصمد بالطبع قطع الاخشاب والورق المقوى أمام المياه فتداعت سقوف حجرات الدراسة، وعندها لم يجد الحمارنة الا غرفته الخاصة ففتح ابوابها امام الصغار لكي يتعلموا فيها فصلا بعد آخر حتى توقفت الامطار وبدأ التلاميذ في اصلاح الاضرار تحت اشراف معلمهم النبيل وزوجته «ابلة سامية» التي تقول الروايات انها لم تكن معلمة فقط بل كانت صديقة مفضلة للجميع، ووهبت حياتها ووقتها لتلميذاتها واسرهن، وكانت وهي المعلمة المتخصصة تؤدي ادوارا اجتماعية هامة فوق ارض جزيرة ابو موسى فقد كانت تقوم بعمل الممرضة عقب انتهاء فترة التدريس ولعبت دورا مهما في تخفيف الالام عن المرضى كما كانت ترشدهم الى طريقة استعمال الادوية التي كان يرسلها حاكم الشارقة الى الجزيرة التي لم تعرف آنذاك العيادات الصحية ولا الاطباء والممرضات. ويذكر أيضا عن «ابلة سامية» انها كانت تؤدي دور المصلحة الاجتماعية اذ تقوم بحل مشكلات النساء من اهالي الجزيرة. وما دمنا نسترجع هنا تاريخ التعليم في جزيرة ابو موسى فاننا سوف نتوقف امام طبيعة الحياة في تلك الايام التي تعود الى فترة تزيد على اربعة عقود من يومنا الحاضر. في ذلك الوقت البعيد كان العمل في المناجم القائمة فوق ارض الجزيرة هو المجال الاكثر سهولة في تحصيل الرزق لكن اقناع أهالي الجزيرة به لم يكن بنفس السهولة اذ كان العمل في هذه المناجم يقتصر على شهور اعتدال الجو فقط والتي كانت تمتد من اكتوبر وحتى ابريل. ولهذا اتجه الاهالي بفطرتهم صوب البحر كي يغوصوا في اعماقه لاستخراج اللؤلؤ، او ينشرون شباكهم في مياهه كي يلتقطو بها الاسماك التي يتاجرون بها ومن عوائدها يتعيشون. وكان المعتاد في ذلك الوقت ان ينطلق الى عرض البحر حوالي 40 قاربا منذ لحظات الفجر حتى هبوط الليل وهي تحمل «الدوابي» التي يجمعون منها السمك الذي يباع المن منه «اي كل 4 كيلوجرامات» بحوالي اربع روبيات وكان عائد الصيد في اليوم الواحد يصل الى 100 روبية لكل صياد يبيع حصيلة صيده من السمك في اسواق الشارقة ودبي. كما كانت جزيرة ابو موسى ميناء شهيرا كاستراحة للسفن والزوارق المتجهة الى كل من الشارقة ودبي. الجزيرة مركز للحاكم ويذكر التاريخ ان جزيرة ابو موسى كانت قبل 150 عاما مركزا لحاكم امارة الشارقة المغفور له الشيخ سالم بن سلطان القاسمي الذي بنى فوق ارض الجزيرة منزلا جعله آنذاك مركزا مفضلا له ولحاشيته واقام حوله مزرعة للنخيل كانت تضم نحو 300 نخلة اندثرت تماما فيما بعد وكانت في الماضي تصدر منتوجها الى الشارقة وبقية الامارات. ومما يذكر ايضا ان جزيرة ابو موسى كانت قبل احتلالها عام 1971 تضم حوالي الف نسمة، وعلى ارضها كان هناك الى جانب المدرسة مركز للجمارك، ومسجد، وقصر لنائب حكم الشارقة. كما تتوفر في الجزيرة معادن هامة مثل رواسب اكسيد الحديد، والنفط. محمود علام

Email