حين تقدم المدارس العلم والمعرفة فانها بذلك تصنع التاريخ الذي تنسجه شخصيات كانت ذات يوم فوق مقاعد الدراسة كي تتسلح لمعركة الحياة بعلوم العصر وفنون البشرية. وكالأفراد وحركتهم المعروفة، في الازمان والعصور فان للمدارس ايضا دورها فيما تصنعه ـ رغم ثباتها الظاهري ـ في محيطها اذ تلعب دورا مؤثرا فيما وفيمن حولها يجعلها هي الاخرى صاحبة تاريخ لا ينفصل مطلقا عن تاريخ وحركة مجتمعها. حول المدارس ذات التاريخ والاثر والمكانة والدور نلتقي لنطالع تلك الملفات القديمة لـ «مدارس لها تاريخ». تبدو البدايات متشابهة بالنسبة للتعليم في كافة أقطار الخليج التي عرفت قديما نظام المدارس الأهلية قبل أن تتحول إلى المدارس النظامية الذي يعد بداية التطور في حياة مجتمعات الخليج. وعند الحديث عن التعليم في دولة الكويت فإن بداياته فيها كانت عبارة عن مدارس أهلية أطلق عليها اسم «الكتاتيب» التي انتشرت في مختلف مناطق الكويت وأحيائها، واقتصرت على تعليم تلاميذها القرآن الكريم والحروف الهجائية ومبادئ الحساب وكتابة الخط العربي. أما نشأة المدارس بمفهومها ونظامها المعروفين حاليا فقد كانت عام 1911 عندما افتتحت أول مدرسة كويتية وهي المعروفة باسم المدرسة «المباركية» والتي أقيمت في وسط مدينة الكويت واستمرت في أداء دورها لفترات طويلة قبل أن تتحول إلى مكتبة عامة يشرف عليها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب. وقد لعبت «المدرسة المباركية» دورا مهما في التأسيس لنهضة الكويت في مختلف المجالات إذ شارك الرعيل الأول من أبناء الكويت ممن تلقوا علومهم بالمدرسة في قيادة بلادهم إلى دروب التقدم والتحديث. ويعد الشيخ جابر الأحمد الصباح أمير دولة الكويت والشيخ سعد العبدالله السالم الصباح ولي العهد رئيس مجلس الوزراء من أبرز الدارسين بالمدرسة المباركية. ونستعرض هنا تاريخ المدرسة الأولى في الكويت والتي تشير كل الكتابات حولها وخصوصا ما يرويه عنها صالح جاسم شهاب في كتابه «تاريخ التعليم في الكويت والخليج .. أيام زمان» إلى انها تشكل البداية الحقيقية لنهضة شهدتها الكويت ولا تزال. البدايات في السنوات الأولى من القرن الماضي وتحديدا في عام 1910 وخلال عهد المرحوم الشيخ مبارك الصباح «الحاكم السابع للكويت» شهدت تجارة اللؤلؤ ازدهارا كبيرا أدى الى ظهور الحاجة لأصحاب الدراية بالأعمال الحسابية للعاملين على سفن الغوص التي تزايدت أعدادها في تلك الفترة. وخلال احتفال أقيم بمناسبة المولد النبوي الشريف في ديوانية الشيخ يوسف بن عيسى القناعي وبعد أن تحدث الخطباء حول أهمية المناسبة وضرورة الاقتداء بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الذي حث المسلمين على طلب العلم قام أحد الحاضرين ـ وهو ياسين الطبطبائي ـ بالقاء كلمة دعا فيها الحاضرين ـ ومعظمهم من أهل الكويت البارزين ـ إلى العمل لتطوير التعليم وتوفير الامكانيات المادية اللازمة لذلك. وبالفعل تمت حملة جمع التبرعات من التجار حيث تبرع الشيخ يوسف بن عيسى القناعي بمبلغ 50 روبية وتواصلت الحملة حتى تم جمع 78 ألف روبية. وجاءت خطوة أخرى بمبادرة من أحد رجالات الكويت المعروفين وهو المرحوم حمد خالد الخضير في ذلك الوقت إذ قدم قطعة أرض لبناء المدرسة فوقها وكان قد تبرع قبل ذلك بمبلغ خمسة آلاف روبية وهو ثروة كبيرة في ذلك الوقت. وتم في ذلك الحين تكليف يوسف القناعي بالاشراف على بناء المدرسة التي تكلفت نحو 16 ألف روبية بينما تم ايداع باقي التبرعات لدى حمد الخضير لاستثمارها في أعمال الغوص واقراض «النواخذة» أو المشاركة في بعض السفن كما قام الخضير بشراء سفينة غوص وبعض الدكاكين للاستفادة من العوائد في الانفاق على المدرسة واحتياجاتها. وفي عام 1911 كان افتتاح المدرسة وتحديدا في الاسبوع الاخير من شهر ديسمبر وقد أطلق عليها «المباركية» نسبة الى الشيخ مبارك الصباح حاكم الكويت في تلك الفترة. وبعد افتتاحها استقبلت المدرسة 245 طالبا، وعين يوسف القناعي كأول مدير لها وبعد فترة تسلم ادارتها عمر عاصم بينما كان يقوم بالتدريس فيها عدد من المدرسين العرب ممن قدموا من الاحساء بالسعودية وبغداد بالعراق. تطوير المناهج ونظم الدراسة أدى نجاح المدرسة المباركية في تعليم أبناء الكويت إلى بروز الرغبة في تطوير التعليم واستحداث بعض المواد اللازمة للعصر كالجغرافيا والتاريخ واللغة الانجليزية للوفاء باحتياجات الكويت في ظل ما شهدته آنذاك من تطور واتساع الأعمال التجارية وانتعاشها اقتصاديا. وكان أن استدعى المرحوم أحمد الجابر الصباح أمير الكويت حينذاك (1920) الشيخ يوسف بن عيسى القناعي لبحث الأمور المتعلقة بتطوير التعليم ورفع مستواه في المدرسة المباركية، وعند طرح فكرة الأمير على رجالات الكويت المهتمين بالشأن التعليمي ولد الاقتراح الخاص بانشاء مدرسة جديدة تسير وفق المناهج التي تضمنتها فكرة الأمير الذي رحب بذلك وتبرع للمدرسة الجديدة بألفي روبية شهريا بالاضافة الى قطعة أرض لبناء المدرسة التي أطلق عليها اسم المدرسة الاحمدية والتي تولى ادارتها عند افتتاحها المرحوم عبدالملك صالح المبيض الذي يعتبر أول معلم للغة الانجليزية، وهو والد وزير التربية الكويتي الأسبق. قبل النفط يمثل عام 1936 نقطة مهمة في تاريخ التعليم بالكويت فقد كان هو العام الذي ظهرت فيه تباشير الأمل في اكتشاف النفط اثر عمليات تنقيب كانت مشجعة مما دفع الناس حينذاك الى الاقبال على التعليم وبذلك أصبحت المدرستان القائمتان في الكويت (المباركية والاحمدية) غير قادرتين على استيعاب الأعداد الهائلة التي تقدمت إليها من راغبي التعليم خاصة بعد أن تخرج في المدرستين عدد كبير من الرعيل الاول الذين شقوا طريقهم في الحياة العملية وحققوا نجاحات بارزة. وفي تلك الآونة ورغبة في توفير المال اللازم لبناء مدارس جديدة تقدم بعض المهتمين بالشأن التعليمي باقتراح زيادة رسوم الجمارك بنسبة نصف في المئة على ان تخصص هذه الزيادة لميزانية المعارف. واثر موافقة أمير الكويت الشيخ أحمد الجابر على الفكرة وبعد استئناسه برأي أكثر من ثمانين من تجار الكويت الذين رحبوا بالزيادة تجمع لدى «صندوق المعارف» حوالي 63 ألف روبية بعد ثلاثة أشهر فقط من اقرار زيادة الرسوم وأدى ذلك الى صدور مرسوم أميري بتشكيل مجلس المعارف وتعيين الشيخ عبدالله الجابر الصباح رئيسا له الذي لعب دورا كبيرا في مسيرة التعليم بالكويت. وبانشاء مجلس المعارف أصبحت المدرستان المباركية والاحمدية تحت الاشراف المباشر له حيث بدأت أعمال التوسع في انشاء المدارس الجديدة في مناطق الكويت المختلفة ببناء مدرستين احداهما في منطقة الشرق والاخرى في منطقة القبلة، كما افتتحت أيضا أول مدرسة لتعليم البنات، وجرى استقدام مدرسين متخصصين من البلدان العربية المجاورة. البعثات التعليمية كما وصلت إلى الكويت في تلك الفترة أول بعثة من معلمي فلسطين وضمت الأساتذة أحمد شهاب الدين وجابر حديد وخميس نجم ومحمد المغربي، وقد عين شهاب الدين مديرا للمدرسة المباركية بينما قام المغربي ونجم بتدريس اللغة الانجليزية، وحديد بتدريس مادتي «الحساب والأشياء». تحديث المناهج ومع اقرار المواد الحديثة في المدارس التي يشرف عليها مجلس المعارف بدأت الأمور تأخذ طابعا تنظيميا بالنسبة للمقررات والفصول والحصص الدراسية وأوقات الاستراحة بين الحصص، كما تم اعتماد منهاج للغة الانجليزية تبدأ دراسته من الصف الرابع الابتدائي (الاول المتوسط وفقا للنظام السائد حاليا في الكويت)، كما تم تدريس مادة التاريخ بدءا من الصف السادس الابتدائي بكتاب عنوانه «تاريخ العرب» أما الصف الأول الثانوي فكان تلاميذه يدرسون كتابا تحت عنوان «تاريخ الأمة العربية». تدريس الرياضة يشير تاريخ التعليم في الكويت الى ان مادة التربية البدنية قد عرفت طريقها الى مدارس الكويت على يد المرحوم محمد المغربي الذي كان ضمن أعضاء البعثة الفلسطينية الأولى التي استقدمها مجلس المعارف عام 1936، إذ كان المغربي والى جانب تدريسه للغة الانجليزية يقوم ايضا بتدريس التربية البدنية كما انه أول من أنشأ فرق الكشافة في الكويت والتي بدأها بالمدرسة المباركية التي عمل بها حتى عام 1942. ومما يذكر حول بدايات التربية البدنية في الكويت ان هذه المادة ـ تحديدا ـ شكلت عقبة في ذلك الوقت أمام عدد كبير من الراغبين في الالتحاق بالمدرسة المباركية إذ اعتبر كثير من هؤلاء ان ارتداء الملابس الرياضية غير المحتشمة (وكانت سروالا أسود قصيرا وفانيلة بيضاء) يشكل خدشا للحياء ويعتبر مدعاة للخجل خاصة وانهم يمارسون الالعاب في فناء المدرسة مما يجعلهم ـ كما تصوروا ـ «فرجة» لزملائهم في الفصول أو للمارة الذين يتجمعون أمام بوابة المدرسة لمشاهدة هذه المناظر الغريبة عليهم حينذاك. وقد استغرق تغيير هذه المفاهيم بعض الوقت وانتهى اثرها تماما بعد نجاح المدرسة عام 1937 في اقامة أول مهرجان رياضي في الملعب القبلي بمدينة الكويت حيث خرج طلاب المدرسة المباركية بالملابس الرياضية القصيرة في مسيرة من الطوابير مشيا على الاقدام. كما شاركت فرق الكشافة التي تشكلت في المدرسة المباركية في المناسبات الهامة والأعياد حيث كان الكشافون يصطفون أمام قصر «السيف» وهم يحملون الأبواق والطبول للترحيب بأمير الكويت وأفراد أسرته وأبناء الشعب عقب انتهائهم من أداء صلاة العيد. أول مسرحية في الكويت خلال العام الدراسي 19381939 وبعد أن أرست المدرسة المباركية قواعد جديدة لتحديث التعليم سواء في التحصيل العلمي أو المشاركة في المناسبات، أو اقامة المهرجانات الرياضية والكشفية، برزت فكرة اعداد عرض تمثيلي هو الاول في تاريخ الكويت وقاد عملية تنفيذ هذه الفكرة المعلم محمد محمود نجم الذي اختار نصا بعنوان «اسلام عمر بن الخطاب» وشكل فريقا للتمثيل من طلاب المدرسة كما قام هو نفسه بأداء دور البطولة في المسرحية الذي يتعذر ان يقوم به أحد الطلاب. ومع نهاية العام الدراسي تم عرض المسرحية في يونيو 1939 بحضور أمير الكويت حينذاك. محمود علام