النهي عن الحسد

النهي عن الحسد

ت + ت - الحجم الطبيعي

ليس بين آفات النفس ما هو أشد خبثاً من الحسد حيث إن كثيراً من الشرور لازمة، عنه «كالحقد والعداوة» وإذا شرب قلب الإنسان الحسد تباغض ورد الحق وابتعد أنفة منه أن يتبع المحسود وإن كان على حق حسداً ان ترتفع منزلته.

وليس الحسد عن العجب والكبر بمعزل فالمتكبر يأنف صاحبه ويزدريه فيورثه ذلك الحسد له ان يساويه في دين أو دنيا وقد حسدت قريش النبي صلى الله عليه وسلم فكفرت به وقالت: «لولا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم» «الزخرف: 31» وقالت: غلام يتيم عن ابن اسحاق قال: فلما جاءهم رسول الله بما عرفوا فيه من الحق وعرفوا صدقه.

فيما حدث وموقع نبوته فيما جاءهم به من علام الغيوب حين سألوه عنه فحال الحسد منهم له بينهم وبين اتباعه وتصديقه فتقولوا على الله وتركوا أمره عيانا ولجوا فيما هم عليه من الكفر فقال قائلهم: «لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون» «فصلت:26».

فالمشركون ملئت نفوسهم حسداً وحقداً أن تكون النبوة في سيدنا محمد بن عبدالله بن عبد المطلب لذا أصروا على كفرهم وعنادهم ولم يسارعوا إلى الايمان به كما فعل كثير من العرب منهم: سعيد بن زيد وفاطمة بنت الخطاب وأسماء بنت أبي بكر الصديق وعائشة وهي صغيرة. ثم دخل الناس في الإسلام إرسالا من النساء والرجال حتى فشا ذكر الإسلام وتحدث به فلما أسلم هؤلاء النفر وفشى أمرهم بمكة أعظمت ذلك قريش وغضبت له.

وعن المغيرة بن شعبة قال: «إن أول يوم عرفت فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أمشي أنا وأبا جهل بن هشام في بعض أزقة مكة إذ لقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي جهل: «يا أبا الحكم هلم إلى الله ورسوله إني أدعوك إلى الله فقال أبو جهل: يا محمد هل أنت منته عن سب آلهتنا؟

هل تريد إلا أن نشهد أن قد بلغت (إشارة إلى سورة الشورى ـ 40) حين ورد: (فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً إن عليك إلا البلاغ) فنحن نشهد أنك قد بلغت فوالله لو أني أعلم أن ما تقوله حق لاتبعتك فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبل علي ـ يعني أبا جهل ـ فقال: والله إني لأعلم أن ما يقول حق ولكن بني قصي قالوا: فينا الحجابة فقلنا نعم قالوا: فينا السقاية قلنا: نعم ثم أطعموا فأطعمنا حتى إذا تحاكت الركب قالوا منا نبي فلا والله لا أفعل».

إنه الحسد الذي يملأ صدر أبي جهل والذي حال بينه وبين صدق النبوة التي عرف حقيقتها كما قال للمغيرة فلم يهن عليه أن يكون محمد بن عبدالله نبياً لأنه يعرف أنه لا يدرك هذا الأمر لذا حقد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى دعوة الإسلام حيث حرك الحقد نفسه الدنيئة إلى أن يثور ويتوعد ويقف أمام الدعوة، إنها إفراط أنانيته وحبه لذاته هو وأقرانه كأبي لهب وعقبة بن أبي معيط والحكم بن أبي العاص وعدي بن حمراء الثقفي وابن الأصداء الهدلي.

راح هؤلاء المشركون وغيرهم يطلبون من رسول الله صلى الله عليه وسلم المستحيل شرطاً لاتباعه حتى بلغ من حسدهم ومكرهم وإعراضهم أنهم قالوا: (لن نؤمن لك حتى نؤتى مثلما أوتي رسل الله) (الأنعام: 124) أي لن نؤمن لك يا محمد حتى نعطى من الوحي والرسالة مثل ما أعطى رسل الله وأضافوا الإتيان إلى رسل الله لأنهم لا يعترفون بما أوتيه من الوحي والرسالة وقد رد الله على الحاقدين رداً حاسماً فقال: (الله أعلم حيث يجعل رسالته) الأنعام: 124.

قال الفخر الرازي: أي للرسالة موضوع مخصوص لا يصلح إلا فيه والعالم بذلك هو الله تعالى وحده.

وفي الآية الكريمة دلالة على وقعة أخرى وهي أن أقل ما لابد منه في حصوله النبوة والرسالة البراءة عن المكر والغدر والغل والحسد فكيف يعقل حصول النبوة والرسالة مع هذه الصفات.

يقول تعالى: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق) (البقرة: 109).

وقال تعالى: (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله، فقد أتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكاً عظيما) «النساء:54.

وقال تعالى : (سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم كذلك قال الله من قبل فسيقولون بل تحسدوننا بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا) «الفتح:15.

وقال تعالى: (قل أعوذ برب الفلق.. إلى قوله ومن شر حاسد إذا حسد) «الفلق: 1 ـ 5.

فهذه النصوص القرآنية بين الله عز وجل فيها ضرر الحسد، وأنه يوقع بين الناس الحقد والبغضاء بسببه، لذا ذمه الله عز وجل وطلب من المسلم أن يتعوّذ بالله من شره.

والحقد يعيش على حساب كثير من الفضائل وجوانب الخير داخل النفوس، إنه يأكل كثيراً من فضائل النفوس، فيربو على حسابها فهو مصدر الحسد وليس الحسد والحقد من صفات المؤمنين أن يحملوه في صدورهم.

قال تعالى: (.. ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم) «الحشر:10 تحدثت هذه الآية عن المهاجرين والأنصار وأثنت عليهم ثم تحدثت عن المؤمنين الذين جاءوا من بعدهم فوصفهم الله بأنهم يدعون بالمغفرة لأنفسهم ولإخوانهم الذين سبقوهم بالإيمان، ويسألون ربهم أن لا يجعل في قلوبهم غلاً للذين آمنوا. وقال تعالى: (ونزعنا ما في صدورهم من غل). «الأعراف: 43.

وعن الزبير بن العوام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء هي الحالقة لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين».

فالحسد داء قديم وهو عداوة دفينة في القلب والعداوة هي كراهية يصاحبها رغبة في الانتقام من الشخص المكروه إلى حد إفنائه أو إلغائه من الوجود.

ويظهر هذا جلياً في حسد المشركين وحقدهم الدفين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث دفعهم حسدهم إلى التكذيب والتنكيل وانتهى بهم الأمر إلى المؤامرة على قتله، وكذا فعل اليهود مرة بإلقاء حجر عليه وأخرى بتآمر بالسيف وثالثة بدس السم في طعامه.

كما في الشاة المسمومة. ولما خرج الرسول صلى الله عليه وسلم من بين المشركين الذين تآمروا على قتله أثناء الهجرة أرسلوا في طلبه وجعلوا لمن يأتي به حياً أو ميتاً مئة ناقة. إنهم قرروا القضاء عليه والخلاص منه وما دفعهم إلى الحقد الدفين المتأصّل في نفوسهم والحسد ما آتاه من النبوة والرسالة. إنه داء الحسد الذي أصيب به الأمم.

أخرج الحاكم وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سيصيب أمتي داء الأمم قالوا: يا نبي الله وما داء الأمم؟ قال: الأشر والبطر والتكاثر والتنافس في الدنيا والتباغض والتحاسد حتى يكون البغي ثم الهرج».

حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الحسد وأخبر أنه يذهب بالحسنات والخيرات التي يفعلها الإنسان حتى يقضي عليها، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والحسد فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب أو قال العشب» وفي رواية أخرى: «الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار».

وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تقاطعوا وكونوا عباد الله إخواناً» قال النووي: الحسد: تمني زوال النعمة وهو حرام.

وقال ابن رجب الحنبلي: لا يحسد بعضكم بعضاً، والحسد مركوز في طباع البشر وهو أن الإنسان يكره أن يفوقه أحد من جنسه في شيء من الفضائل. ثم ينقسم الناس بعد هذا إلى أقسام فمنهم من يسعى في زوال نعمة المحسود بالبغي عليه بالقول والفعل ومنهم من يسعى في نقل ذلك إلى نفسه ومنهم من يسعى في إزالته عن المحسود فقط من غير نقل إلى نفسه وهو شرهما وأخسها وهذا هو الحسد المذموم المنهي عنه وهو كان ذنب إبليس حيث حسد آدم عليه السلام لما رآه قد فاق على الملائكة بأن خلقه الله بيده وأسجد له ملائكته وعلمه أسماء كل شيء وأسكنه في جواره فمازال يسعى في إخراجه من الجنة حتى أخرج منها.

وقسم آخر من الناس إذا حسد غيره لم يعمل بمقتضى حسده ولم يبغ على المحسود بقول ولا فعل وقد روي عن الحسن أنه لا يأثم بذلك.

وقسم آخر: إذا حسد لم يتمن زوال نعمة المحسود بل يسعى في اكتساب مثل فضائله ويتمنى أن يكون مثله فإذا كانت الفضائل دنيوية فلا خير في ذلك كما قال الذين يريدون الحياة الدنيا: (يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون) القصص:79 وإن كانت فضائل دينية فهو حسن وقد تمنى النبي صلى الله عليه وسلم الشهادة في سبيل الله.

عن ابن عمر رضي الله عنهما قال عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل والنهار ورجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار» قال ابن رجب الحنبلي: وهذا هو الغبطة وسماه حسداً من باب الاستعارة.

وذلك إذا وجد من نفسه الحسد سعى في إزالته وفي الإحسان إلى المحسود بإسداء الإحسان إليه والدعاء له ونشر فضائله وفي إزالة ما وجد له في نفسه من الحسد حتى يبد له بمحبة أن يكون أخوة المسلم خيراً منه وأفضل وهذا من أعلى درجات الإيمان وصاحبه هو المؤمن الكامل الذي يحب لأخيه ما يحب لنفسه».

رجاء علي

Email