نساء مؤمنات

زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم (2-2

ت + ت - الحجم الطبيعي

)

جاء عام الحزن وتوفيت السيدة خديجة رضي الله عنها وتوفي عم الرسول أبو طالب وكان لوفاة هذين الشخصين العزيزين أثر عميق من الحزن في حياة نبينا الكريم وحزنت معه زينب حزنا كبيرا وواسته وأخواتها الثلاث رضي الله عنهن وقد وجهن كل حنانهن وحبهن للتخفيف عنه وكانت السيدة زينب تسمع في كل يوم عن مطاردة قريش لأبيها ومضايقتها له فما كان منها إلا أن تدعو له وتواسيه وكانت رضي الله عنها تمضي الليالي مضطربة القلب خائفة على أبيها ولم ترتح الا بعد أن وصل خبر وصوله وصاحبه إلى يثرب آمنين سالمين.

وبعد هجرة الرسول أمر بإحضار ابنتيه فاطمة وأم كلثوم إلى دار الهجرة بالمدينة، أما رقية رضي الله عنها فقد هاجرت مع زوجها عثمان بن عفان من قبل إلى الحبشة ولم يبق سوى زينب في مكة التي كانت في مأمن من بطش المشركين وتعذيبهم وهي في بيت زوجها الذي آمنها على دينها.

انتهت فترة المسالمة بين المسلمين والكفار وأمر الله تعالى نبيه بالقتال بعد أن اشتد الإيذاء من الكفار وبدأت المناوشات والسرايا بين المسلمين وكفار مكة حتى جاءت غزوة بدر..واستكرهت قريش أبا العاص كما استكرهت العباس بن عبد المطلب على الخروج لحرب المسلمين !

خرج أبو العاص حياء من أن يقولوا حبسته امرأته أن يخرج مع قومه .. وكانت المعركة .. معركة بدر الكبرى... ونصر الله رسوله والمؤمنين، وكما يقول سبحانه وتعالى في محكم آياته «ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون ».

وقتل صناديد قريش وأسر من أسر، وكان من بين الأسرى أبو العاص بن الربيع، وحين تقرر فداء الأسرى أرسل أهل مكة بالأموال لفدائهم، وأرسلت الزوجة الوفية ما قدرت عليه لفداء زوجها الذي لم يدخل في الإسلام بعد، وكان من بين ما أرسلته قلادة أمها التي أهدتها إياها يوم زفافها، وحين وضعت تلك الأموال أمام النبي صلى الله عليه وسلم ولما رأى نبينا الكريم قلادة السيدة زينب ابنته التي كانت قلادة أمها خديجة من قبل ... اغرورقت عيناه بالدموع ولاحت الذكريات أمام عينيه ورق رقة شديدة لم يستطع أن يخفيها، وساد الحاضرين من الصحابة صمت جليل وترقب ولهفة يكتنفه احترام وقور لمشاعر هذا النبي العظيم الذي قطع الصمت قائلا: «إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها، وتردوا عليها مالها فافعلوا».

أخلاق الرسول

وما أكرم خلق النبي الكريم الذي امتدحه الله سبحانه وتعالى فقال في سورة القلم « وانك لعلى خلق عظيم» فقد كان الله فوضه في القرآن في أمر الأسرى إما أن يقبل الفداء من الأسير وإما أن يمن عليه بلا فداء وفقا لقوله تعالى في سورة محمد: (فإما منا بعد وإما فداء )، ومع هذا التصريح من الله سبحانه وتعالى والتفويض في أمر الأسرى إلا أن النبي آثر أن يستشير صحابته ولا يفرض عليهم رأيه فرضا؛ وكان جواب الصحابة جميعا في حماس يهدئه جلال الموقف : نعم يا رسول الله نفعل ما أحببت، فقرروا إطلاق الأسير بغير فداء .. وأعادوا له الأموال والقلادة.

بعث الرسول في طلب صهره الأسير الذي من عليه بلا فداء فتكلم معه حديثا لم يعلمه إلا الله إلا أن الصحابة رأوا أبا العاص يحني رأسه ويهزه علامة الموافقة على ما قيل له، ثم انطلق إلى مكة حرا موفورا ومعه القلادة العزيزة، فلما خرج من المجلس وابتعد التفت النبي إلى أصحابه وأثنى عليه وكان مما قال «والله ما ذممناه صهرا ».

وصل الزوج والحبيب إلى زوجته و حبيبته وابنة خالته في مكة بعد ليال طويلة من الأسر والألم وما إن رأته السيدة زينب حتى عرفت من عينيه أن بالأمر شيئا فلما ألحت عليه بالسؤال أجابها واجما: «انه الفراق يا ابنة الخالة.... أجل انه الفراق المر وإنما جئتك مودعا ».

فأجهشت زينب بالبكاء وظنت أنه أطاع قريش في فراقها ! لكنه قال لها لا والله ما أطعت فيك قريشا وما كنت لأطيعها مهما ألحت ولكنني وعدت أبوك الكريم فقد شرط على أن أردك إليه وقال إن الإسلام فرق بيننا ولا يجوز في دينه أن تبقى عندي ولما قالت له زينب أولا تسلم وتأتي معي إلى المدينة، قال لها : أترضين أن تتحدث قريش أني أسلمت لأستبقيك ...أو لأني جزعت للأسر ... أترضين هذا لي .... لو كان الحال غير الحال لفعلت ولكن ليس عندي إلا الصبر فتجهزي للرحيل، وتهالكت زينب الوفية يائسة خاصة أن في أحشائها منه جنين ...كان أملها أن يسلم هذا الزوج الشهم النبيل..

فكل ما فيه من خلق ومروءة يرشحه ليكون خير من يسلم طواعية ...ولكن ما كل ما يتمناه المرء يدركه وبعد فترة صمت واستسلام سمعته يقول:

«إن أباك أرسل اثنين من أصحابه لمرافقتك في سفرك إليه إنهما «زيد بن حارثة» ورفيق معه من الأنصار ينتظران على بعد خطوات».

هجرة زينب

وخرج أبو العاص بن ربيعة من البيت مودعا حزينا يحبس دموعه ولا يكاد. خرجت الزوجة المسلمة مهاجرة إلى المدينة فما كان من أحد المشركين الحاقدين يقال له «هبار بن الأسود » ومعه رجل آخر أن تربصا بها في مكان يقال له «ذو طوى» وتجردا من كل معاني الرحمة والشهامة في حادثة قلما ما تحدث - في مجتمع يرى من العار أن تؤذى اِمرأة بأيدي الرجال- فروعاها بالرمح ثم قتلا الجمل الذي ترتاده، فسقطت رضي الله عنها على ظهرها سقطة مروعة أفقدتها جنينها؛ ووقف أخو زوجها وكان يصطحبها «كنان بن الربيعة» ونثر سهامه في وجه الجبناء حتى خرج له أبو سفيان طالبا منه أن يعيدها إلى دارها فإن أتى الليل أخذها سرا فألحقها بأبيها.

وكبر على كنانة أن يردها ليعود، لولا أنه سمع توجعها وتألمها والتفت

إليها فراعه أن رآها وهي الكريمة بنت الكريم تنزف دماؤها وقد طرحت على أثر وقوعها جنينها على رمال الصحراء فعاد بها إلى مكة مرة أخرى حيث علم زوجها بما حدث لها وتألم لها ألما شديدا ... وظل إلى جانبها بضعة أيام حتى استردت بعض قواها فخرج بها كنانة مرة أخرى حتى أسلمها إلى زيد بن حارثة وهي تعاني من الإعياء الشديد بسبب الإجهاض الذي حدث لها.

وصلت زينب إلى المدينة المنورة واستقبلها أبوها وأخواتها وغضب الرسول صلى الله عليه وسلم حين علم بما جرى لها غضبا شديدا وأمر بحرق من فعلا ذلك بابنته؛ ثم في صباح اليوم التالي وبعد أن هدأت نفسه طلب منهم أن يكتفوا بالقتل فقط ؛لأنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا الله.

وتمر الأيام ثقيلة على نفس السيدة زينب وهي بعيدة عن زوجها ومتأثرة بما حدث لها، إلا أنها كانت تجد في الصلاة سلواها وفي الدعاء والابتهال إلى ربها راحتها وفي حفظ ما نزل من القرآن الكريم مبتغاها فكانت رضي الله عنها عابدة زاهدة وكم كانت تدعو لزوجها بالهداية ولأسرتها أن يلتئم شملها من جديد، ولم تنس قول ربها جل وعلا: «ومن يتق الله يجعل له مخرجا» وفي الآية التي تليها، ومن يتوكل على الله فهو حسبه قد جعل الله لكل شيء قدرا»، فلكل شيء وقت ولكل ضيق فرج ومن المحال دوام الأحوال،وظلت السيدة زينب في كنف والدها حتى العام السابع من الهجرة.

ومضت الأيام وخرج الزوج إلى الشام في تجارة لقريش، ووقعت القافلة في أيدي المسلمين وفر الزوج هاربا.. وحين أرخى الليل أستاره تسلل إلى بيت زوجته مستجيراً بها، فآوته حتى أصبح الصباح، وخرج المسلمون لصلاة الفجر بالمسجد وتقدم النبي إلى المحراب وكبر للصلاة، فصرخت السيدة زينب من صفوف النساء قائلة قولتها الشهيرة التي تدل على شجاعة منقطعة النظير ووفاء بلا حدود لهذا الزوج الحبيب: «يا أيها الناس، أني قد أجرت أبا العاص بن الربيع ..

وبعد أن انتهى الرسول من صلاته، التفت إلى الناس قائلا أيها الناس، هل سمعتم ما سمعت!! فوالذي نفسي بيده ما علمت بهذا الأمر إلا بعد ما سمعت كما سمعتم، انه يجير على المسلمين أدناهم وقد أجرنا من أجارت ثم انصرف من المسجد ودخل على ابنته غير معاتب ولا مؤاخذ إنما رحيما مراعيا للعلاقة الخاصة بين ابنته وزوجها وعلى الرغم من أن زوجها مشرك ولا يحل لها إلا أن رسولنا الكريم يعلمنا الرفق واللين في كل الأمور فقال لها «يا بنيتي استوصى به خيرا ولا تدعيه يقربك فانه لا يحل لك».

ثم انصرف سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الى المسجد حيث وجد أصحابه فخاطبهم قائلا:

«إن هذا الرجل منا كما علمتم، وقد أصبتم له مالا فان تحسنوا وتردوه عليه، فانا نحب ذلك، وان أبيتم فهو فيء الله الذي أفاء عليكم، فأنتم أحق به، فأجابوا : يا رسول الله بل نرد عليه أمواله كلها حتى التافه واليسير وعاد الزوج بأموال قريش إلى مكة، وردها إلى أصحابها ثم نادى فيهم هل بقي لأحد منكم شيء : قالوا لا؛ فقال فأنا أشهد أن لا اله إلا الله وأن محمدا رسول الله ....

والله ما منعني من الإسلام إلا أن تظنوا بي الخيانة، ثم انطلق مسرعا إلى المدينة ودخل على رسول الله جاهزا بالشهادتين معلنا إسلامه وبيعته وانضم إلى زوجته الوفية الصابرة واستجاب الله لدعاء الصالحة الصبور، وبعد عام من التئام شمل الأسرة والزوجين المحبين في أعظم قصة للحب والوفاء وبعد أن عاشا حياة كريمة مع ولديهما امامة وعلي، بدأ المرض يزداد على السيدة زينب وظلت لازمة الفراش فترة طويلة من أثر ما تعرضت له في حادثة الهجرة وظل زوجها ملازما لها يحضر لها الدواء من كل البلاد التي يذهب إليها.

إلا أن الأدوية لم تخفف من مرض سيدتنا الكريمة فصعدت روحها الكريمة إلى بارئها في العام الثامن للهجرة، وحزن الرسول الكريم أيما حزن على ابنته وكبرى بناته وكذلك حزن عليها زوجها العاص بن الربيع ولم يتزوج بعدها وظل وفيا لذكراها ثم وافته المنية بعدها بأربع سنوات.

إعداد: جيهان محمود

Email