حكم باهرة ودروس وفوائد عظيمة للهجرة النبوية

حينما اختار المسلمون الهجرة النبوية مبدأ لتاريخهم المجيد كانوا موفقين كل التوفيق في هذا الاختيار، فلو اختاروا مولد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو بعثته أو وفاته مبدأ لتاريخهم لكان هذا الاختيار تقديسا لإنسان، والإسلام دين يهتم بتقديس القيم المثالية العليا لا بتقديس الأشخاص، ومحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو الذروة العليا للبشرية.

من هنا فإن الحديث عن الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة المنورة ليس بالذي يكتفي فيه بمقالة سريعة، وما أحسب واحدا من المفكرين مهما أوتي من الحكمة وفصل الخطاب قادر على أن يحيط بأحداث السيرة حكما تستفاد وعبرا تؤخذ، فسيرته ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا ينتهي الحديث فيها، فهي جزء من السنة النبوية، قسيم القرآن في وحيه، وهذا ما عبر عنه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقوله: «ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه» أو ما عبر عنه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ السنة وحي.

ومن المعلوم أن الدعوة الإسلامية دعوة عالمية والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مأمور بتبليغ هذه الدعوة للناس كافة بدءا من مكة والجزيرة العربية وانطلاقا إلى كل العالمين.

ولقد حاول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أول يوم في الدعوة أن يجعل مكة قاعدة الانطلاق لينطلق منها إلى ما حولها، لكنه لقي من أهلها أشد العنت، فقد قاموا بإيذائه وتعذيب أصحابه وسجنهم وأرادوا فتنتهم عن دينهم، وتحمل المؤمنون في سبيل دينهم ضروبا شتى وصنوفا عدة من الإيذاء.

وكادت الدعوة الإسلامية تختنق في شعاب مكة وهي دعوة عالمية موجهة إلى البشر أجمعين، لقد تعرض المسلمون لحصار اقتصادي عنيف كاد يميتهم جوعا، وتحمل بعضهم من التعذيب والتنكيل ما يكاد يفوق طاقة البشر مثل آل ياسر، وكابد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما كابد من ألوان الإيذاء وأيقن أنه إذا بقي في مكة فلن ترتفع راية الإسلام، حينئذ فكر في الهجرة إلى بلد آمن يتمكن فيه من أداء تأدية رسالته على الوجه الأكمل، وانتظر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمر ربه في الهجرة، وأذن لأصحابه بالهجرة وظل باقيا بمكة حتى يأذن الله له، وهو في موقفه هذا مثل ربان السفينة حينما تثور العواصف وتتلاطم الأمواج .

وتتعرض السفينة للغرق بمن فيها من الركاب، في هذه الحالة الخطيرة يأمر الربان بإعداد زوارق النجاة ويأمر البحارة بإنزال الأطفال ثم النساء ثم الرجال ثم يغادر البحارة السفينة إلى زوارق النجاة ويكون الربان آخر من يغادر السفينة، وقد لا يتمكن من النجاة فتهبط به إلى الأعماق . وهكذا سمح النبي - صلى الله عليه وسلم - للقادرين من أصحابه على الهجرة بأن يهاجروا، وظل بمكة حتى أتاه أمر الله بالهجرة فلحق بإخوانه المهاجرين .

والناظر في الهجرة النبوية يلحظ فيها حكما باهرة ويستفيد دروسا عظيمة ويستخلص فوائد جمة يفيد منها الأفراد وتفيد منها الأمة عامة، فمن ذلك على سبيل الإجمال ما يلي:

أولا: إن القائد الماهر هو الذي لا يورط أمته بل يحافظ عليها فلا يوردها موارد التهلكة، فنرى أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ هاجر خفية ووجه أصحابه إلى ذلك حتى لا يتعرض أحد إلى إيذاء المشركين إلا ما حدث من بعضهم حين هاجر علانية مثل عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـوكان هذا تصرفا خاصا به، أما الرسول - صلى الله عليه وسلم ـ فهو نبي يقتدى به، والحفاظ على حياة النبي والقائد أمر مهم؛ لان بالحفاظ عليه يكون الحفاظ على الأمة، وحتى لا يهاجر المستضعفون علانية فيتعرضون للإيذاء، ولذلك لما أمرهم بالهجرة سرا هاجروا أفرادا وجماعات في سرية تامة.

ثانيا: من دروس الهجرة: حب الوطن، فحب الوطن من الإيمان والدفاع عنه والتعلق به من صميم العقيدة، تجلى هذا في هجرة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ عندما ودّع مكة المكرمة بكلماته الحانية قائلا: «ما أطيبك من بلد وأحبك إليّ ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك».

وعندما هاجر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ من مكة لم يهجر قريشا ولا بني هاشم فلقد كان يحب المجتمع ويتمنى لهم الهداية والخير، كما أنه ـ وهو الوفي ـ لم ينس لبني هاشم - مسلمهم وكافرهم ـ مواقفهم معه عندما قادتهم عصبية الرحم فحموه من كل القبائل ودخلوا معه شعب أبي طالب يقاسمون معه ومع المسلمين الجوع والفاقة، ولا يمنون عليه بذلك مع أنهم على غير دينه، لكنه الولاء للأرحام.

ومن هنا نقول للمهاجرين من أبناء عصرنا لظروف مختلفة إلى أي بلد من بلدان العالم هذه هجرة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين أيديكم، وهي كتاب مفتوح فأمعنوا القراءة فيه لتدركوا منه أن هجرتكم من بلادكم - لأي سبب من الأسباب ـ لا تعني القطيعة مع أرض الوطن، ولا مع الأهل والعشيرة، ولا مع المسلمين في أي مكان مهما تكن الخلافات الطارئة معهم، بل يجب أن تبقى الصلة قائمة بينكم وبين الأهل والقوم تمدونهم بأسباب الإيمان إلى أكبر مدى ممكن لاسيما ووسائل التواصل الآن في أقوى مستوى عرفته البشرية وبالتالي تكونون قد وصلتم الرحم وجمعتم بين الثلاثية المتكاملة التي تمثل بأركانها الثلاثة وحدة لا تنفصم، وإلا فقدت الأمة مكانة الخيرية التي رفعها الله إليها عندما قال: «كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله».

الإيمان والهجرة

أجل في عصرنا هذا يجب أن يعود معنى الهجرة إلى منبعه النبوي، فليست الهجرة هجرا للوطن، وقطيعة تاريخية أو معرفية معه، بل هي هجرة موصولة بالماضي، تعمل على تعميق الإيمان فيه، وتبني قلاعا للإيمان في المهجر الجديد، وتصل بين الماضي الحاضر انطلاقا من دروس الهجرة.

ثالثا: من دروس الهجرة: البحث عن الصديق قبل الطريق.

وهذه ملمح طيب نراه في هجرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حينما تم اختيار أبي بكر ليكون صديق الرحلة، لماذا هو ولا يكون غيره؟ أمثال عمر بن الخطاب أو حمزة بن عبد المطلب أو على بن أبى طالب ؟

لماذا أبو بكر بالذات وما هي الأسباب التي بني عليها اختياره لأبي بكر؟

هذا ما سنعرفه من خلال قراءتنا لأحداث الهجرة، حيث يتجلى فيها شغف الصديق وطمعه بأن يكون مرافقا لصاحبه، فلما ألمح له النبي - صلى الله عليه وسلم ـ بذلك: «لا تعجل لعل الله يجد لك صاحبا» حين قال له ذلك قام فابتاع راحلتين فاحتبسهما في داره يعلفهما إعدادا لذلك، فبيت الصديق هم أهل ثقة في أمور خطيرة ويتمثل ذلك في رد أسماء على جدها حينما سألها ماذا ترك لكم ابن أبي قحافة ؟ قالت لقد ترك لنا الكثير وأخذت أحجارا مكان مال أبيها الذي أنفقه على الهجرة، ووضعته في كوة ثم وضعت فوقها ثوبا ثم وضع الجد الكفيف يده على الكوة فاطمئن أن ولده قد ترك لأولاده مالا. بل إن الذي قام بالخدمة في رحلة الهجرة أسماء بنت أبى بكر ـ ذات النطاقين ـ وعبد الله بن أبى بكر، وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر.

ومن الأسباب التي تم اختيار أبي بكر على أساسها ليكون صديق الرحلة: حرص الصديق على صديقه وتقديمه على نفسه خوفا عليه وحرصا على سلامته.

فمن خلال الهجرة نقدم نداء إلى كل صديقين: الإخلاص والصدق والأمانة والنصيحة والحب والفداء صفات الصديق لصديقه هكذا حال الصديق المسلم، فلا تنهار العلاقات لنزوة أو خيانة أو تعارض مصالح، إن من حق الصديق على صديقه في ضوء الإسلام أن يسعى جاهدا لإسعاده وراحته محافظا على أسراره وأهل بيته مشاركا له في السراء والضراء، هكذا تعلمنا من الهجرة أن الصداقة حب وتضحية وفداء.

رابعا: من دروس الهجرة الأخذ بالأسباب والتوكل على الله، حيث ضرب لنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام أروع الأمثال في الأخذ بالأسباب والتضحية بكل غال ونفيس، فمكنهم الله في الأرض ورد عنهم كيد أعدائهم فأقاموا دولة شامخة في الأرض أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.

والأمة الإسلامية في هذا العصر لن تفك أسرها من أيدي أعدائها إلا بالسير على الدروب التي سار فيها الأوائل بأن توّحد صفها وتجمع أمرها على قلب رجل واحد، وتمحوا عوامل التفرق التي فرقتها وشتتها وهونتها على أعدائها، وتأخذ جادة بالأسباب وطرق استثمار الطاقات، وفي فقه الدين تقيمه وتعمل به كما أراد الله لا كما أراد منهم أعداء الله المعاصرين، وأن يكون ولاؤها الخالص لله تبغي رضاه، وتخشى سخطه رغم أنف أعداء الله مهما كانت مواقعهم، فهم أمام الله إذا أصلحنا علاقتنا به تراب فوق التراب.

إن منطق الإسلام هو احترام قانون السببية؛ لأن الله تعالى لا ينصر المفرطين ولو كانوا مؤمنين بل ينتقم من المقصرين المفرطين كما ينتقم من الظالمين المعتدين.

وإذا تكاسلت عن أداء ما عليك وأنت قادر فكيف ترجو من الله أن يساعدك وأنت لم تساعد نفسك، وكيف ينتظر المرء من الله أن يقدم له كل شيء وهو لم يقدم له شيئا؟!

إذن فالإسلام يحترم قانون الأخذ بالأسباب غير أن المسلمين لم يكونوا على مستوى دينهم مع هذا القانون.

خامسا: التخطيط القائم على العلم والإحاطة بكافة الأمور:

في عالمنا اليوم يعرفون التخطيط بأنه يعنى الإجابة على أسئلة ثلاثة هي:

أين نحن ؟ وإلى أين نذهب؟ وكيف سنصل إلى هناك؟

ويقسمونه إلى تخطيط استراتيجي طويل المدى يعنى بالعموميات مثل: من نحن؟ وماذا نمثل ؟ وكيف يمكننا الاستمرار؟

وتخطيط تكتيكي قصير المدى يدعم التخطيط الاستراتيجي، ويعني بالتفاصيل وآلية التنفيذ والوقت المتاح للإنجاز.

فهل هذه المعاني كانت حاضرة في ذهنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو يفكر في الهجرة؟

نعم كانت رؤية الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ جلية وإستراتيجيته واضحة، وهي الذهاب إلى المدينة المنورة لإقامة دولة الإسلام؛ لأنه بدون دولة لن يكون هناك إسلام، ولن تكون هناك دعوة، وكان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ينتظر الإذن بالتنفيذ فجاءه الوحي بالإذن للخروج وبداية العمل، وكانت هذه هي اللحظة التي ينتظرها الرسول - صلى الله عليه وسلم ـ بفارغ الصبر.

جلس الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبو بكر ـ رضي الله عنه ـ ليرسما معالم خطة الهجرة، وما الخطة إلا هدف ووسائل لتحقيقه، ووقت لتنفيذه، فكانت معالم الخطة كالتالي:

أما الهدف فواضح بيّن، ولكن كيف السبيل والمشركون يتربصون؟

وكان القرار بمبيت عليّ ـ كرم الله وجهه- في فراشه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لإيهامهم بأنه النبي وإشغالهم بذلك حتى يتمكن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبو بكر ـ رضي الله عنه ـ من الابتعاد عن مكة والوصول إلى غار ثور .

تم الخروج من دار أبي بكر باتجاه الجنوب، وقد كان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعلم أن أهل مكة سيقلبون الأرض بحثا عنه، فاختار طريق اليمن جنوبا بدلا من الطريق الشمالي إلى يثرب.

وحددا غار ثور مكانا للمكوث فيه ثلاثة أيام حتى تخفّ حدة المطاردة، وواعدا الدليل أن يأتيهما هناك ومعه الراحلتان اللتان جهزهما أبو بكر.

وبعد ذلك يتم التوجه بصحبة الدليل الماهر عبر طريق وعر غير متوقع إلى المدينة.

هذه هي الخطوط العريضة للخطة التي رسمها ـ رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ مع أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ قبل خروجهما، وتم اختيار فريق العمل ووزعت المهام كالتالي:

أبو بكر الصديق: الرفيق والصاحب والمستشار والمدير المنفذ.

على بن أبي طالب: التمويه بأن ينام في فراش النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليلة الهجرة ليوهم المتآمرين بأنه النبي.

ثم رد الأمانات، فنحن أصحاب رسالة، وهيهات أن ننسى مبادئنا في حمأة صراعنا مع أعدائنا.

عبد الله بن أبي بكر: العين التي تعرف أخبار قريش وتوصلها إلى الرفيقين في الغار وكان يأتيهما بعد حلول الظلام ويبيت عندهما ثم يدلج بسحر.

عامر بن فهيرة: توفير الغذاء، بأن يأتي بالغنم فيريحها على مقربة من الغار فيحلب منها الرفيقان، ثم التغطية على أثار ابن أبي بكر بأن يتبع بغنمه أثره.

أسماء بنت أبي بكر: إعداد سفرة الطعام التي سيقتات عليها المسافران في الطريق الطويل.

عبد الله بن أريقط: الدليل الماهر الأمين الذي سيأتي في موعده بعد ثلاثة أيام ومعه الراحلتان.

ويلاحظ في هذه التشكيلة مدى الدقة في الاختيار والاعتماد على أصحاب الكفاءات والثقات، فقد تم اختيار كل فرد بعناية ووضع في المكان المناسب له تماما، فالأمر ليس هينا إنه أمر بقاء الإسلام أو فنائه.

خطة ذكية وتفصيل مدروس، وسرية تامة وفريق عمل ماهر، وحماسة للعمل وتنفيذ دقيق، فقد عرف كل شخص دوره وأدى مهمته، وكان التنفيذ محكما والأداء رائعا، ولم يترك شيء للصدفة، ولم يبق إلا أن تنزل رحمات الله.

ومع مطلع العام الهجري الجديد نسال الله عز وجل أن يجعله عام نصر وعزة وفلاح لأمة الإسلام.

د. محمد محمد محمد عيسى

كلية الشريعة ـ جامعة الإمارات

الأكثر مشاركة