لقد حبا الله عز وجل الناس ألواناً من الهدايات، هداية الفطرة وهداية الحواس وهداية العقل فلو أخذهم بذنوبهم إذا انحرفوا عن صراط الفطرة وعطلوا هبات الأسماع والأبصار والأفئدة لم يكن ظالماً لهم ولكن أبت رحمته إلا أن يرسل إليهم رسلاً مبشرين ومنذرين قال تعالى: «إنا كنا مرسلين رحمة من ربك» وقال لمريم في شأن ابنها عيسى عليه السلام «قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا».
ولما أراد الله أن يختم رسالاته إلى الناس ويكمل لهم الدين ويتم عليهم النعمة بعث خاتم المرسلين وإمام المهتدين فكان مولده رحمة للعالمين قال تعالى «وما أرسلناك إلا رحمة للعاملين» فهل رأيتم إنساناً يأمر بالعفو عمن ظلمه ويعطي من حرمه ويترك من أراد قتله ويحسن إلى من أساء إليه هل رأيتم إنساناً قوله رحمة وفعله رحمة بل إن حركته وسكونه رحمة انه الرحمة المهداة لقد أفاض الله عليه فكان رحمة للعالمين لم يكن للمؤمنين ولا للمسلمين إنما للعالمين لتشمل المؤمن والكافر والطائع والعاصي والإنس والجن والحيوان والنبات قال صلى الله عليه وسلم: إنما أنا رحمة مهداة.
إن هذه الرحمة التي انبثقت من الرسول انتفع بها العالمون، ونحن في ذكرى مولده لا نستطيع أن نتكلم عن رحمات الرسول «صلى الله عليه وسلم» إنما نأخذ قطرة من بحر رحمات الحبيب محمد «صلى الله عليه وسلم» فكان عليه الصلاة والسلام رحيماً بالمؤمنين. فلقد عاش المؤمنون بهذه الرحمة أخوة متحابين عاشوا في الدنيا كأنهم الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى حتى قال فيهم ربهم «محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم» فهو الذي يأمر أن يعين الأخ أخاه في كربته.
ويسانده في شدته ويفتح له من أبواب الخير ما يسر له حاله فعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله «صلى الله عليه وسلم» قال المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ومن فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة».
وقد عاش الكفار في حماية هذا الدين حتى أن اليهودي كان يقف أمام القاضي هو وأمير المؤمنين فيحكم القاضي لليهودي على أمير المؤمنين فكان رحمة حتى لأعدائه الذين كذبوه وتحدوه قائلين «اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم». غير أن الله لم يعاقبهم لوجود الرحمة بينهم «صلى الله عليه وسلم» فقال: وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم».
وتظهر مدى الرحمة عندما طرد من الطائف وأغروا به سفهاءهم فلما أراد الخروج اجتمع السفهاء يرمونه بالحجارة وبكلمات من السفه ورجموا عراقيبه حتى اختضب نعلاه بالدماء وفي طريقه إلى مكة أرسل الله إليه جبريل ومعه ملك الجبال يستأمره أن يطبق عليهم الأخشبين فقال له «صلى الله عليه وسلم» بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به فكان «صلى الله عليه وسلم» يعامل بالرحمة الصغير والكبير والمؤمن والمشرك وأن سيرته العطرة لا تحمل من حسن خلقه ورقة عاطفته الشيء الكثير
فقد روي أن اعرابيا جاء إلى النبي «صلى الله عليه وسلم» فقال يا محمد احمل لي على بعيري من مال الله الذي عندك فانه ليس مالك ولا مال ابيك ثم جذب الرسول من ثيابه جذبة عنيفة أثرت في عنقه الشريف فقال له الرسول المال مال الله وانا عبده ولكن يقاد منك يا أعرابي فقال إنك لا تفعل فقال الرسول «صلى الله عليه وسلم» لماذا؟ فقال: «لأنك لا تجزيء السيئة بالسيئة ولكنك تجزيء السيئة بالحسنة فعفا عنه الرسول «صلى الله عليه وسلم» وأمر بما يحتاج إليه.
رحمته للأطفال
فعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله «صلى الله عليه وسلم» أحسن الناس خلقاً وكان لي أخ يقال له أبو عمير كان فطياً فكان إذا جاء «صلى الله عليه وسلم» فرآه قال يا أبا عمير ما فعل النغير ـ عصفور صغير كان يلعب به ـ وفي يوم من الأيام مر النبي فوجد عميرا يبكي فقال ما يبكيك لقد مات النغير، فجلس النبي «صلى الله عليه وسلم» ساعة يلاعبه فمر الصحابة فوجوده يلاعب عميرا فنظر الحبيب إليهم وقال: مات النغير فأردت أن ألاعب العمير».
فهل تستطيع أن تغير معاملتك للأطفال وتجعلها هكذا بهذه الرحمة كما كان يرحم الرسول الصغار ويداعبهم. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قبّل النبي «صلى الله عليه وسلم» الحسن وعنده الأقرع بن حابس فقال الأقرع إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحداً نظر إليه الرسول «صلى الله عليه وسلم» فقال: من لا يرحم لا يرحم. فتعلم من حبيبك الذي نقل هذه الأمة من الظلمات إلى النور أما ما يفعله بعض الناس من الجفاء والغلظة بالنسبة للأطفال هذا مما نهى عنه الإسلام.
رحمته بالحيوان
لقد تجاوزت الرحمة عالم الإنسان إلى أجناس الحيوان فلقد أوصى بالحيوان البهيم وأمر بالرفق به قبل ألف وأربعمئة عام قبل أن تظهر جمعيات الرفق بالحيوان فالله عز وجل يثيب حتى على الرأفة بالبهائم قال «صلى الله عليه وسلم»: بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش فوجد بئرا فنزل فشرب ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش فقال الرجل لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ بي فنزل فملأ خفه ثم أمسكه بفيه فسقا الكلب فشكر الله له فغفر له، فقالوا يا رسول الله وان لنا بالبهائم أجرا؟ قال: في كل ذات رطبة أجر.
رحمته بالنبات
لقد كان «صلى الله عليه وسلم» يحمي النبات لأنه يريد النماء فهو الذي يحذر من قطع الأشجار وإتلاف النبات والعبث بما هو مفيد ويأمر بالغرس لينتفع به الحجر والمدر والبشر، قال «صلى الله عليه وسلم»: من قطع سدرة صوب الله رأسه في النار. أي من قطع سدرة في فلاه يستظل بها ابن السبيل والبهائم عبثاً وظلماً بغير حق صوب الله رأسه في النار.
شرعه رحمة
فلقد كان «صلى الله عليه وسلم» عزيز عليه أن يدخل على الناس مشقة فكان يخفف في الناس الصلاة مراعاة لأحوالهم وربما أراد أن يطيل في الصلاة فيسمع بكاء الطفل فيخفف لئلا يشق على أمه ولما بكت أمامه بنت زينب ابنته حملها وهو يصلي في الناس فإذا سجد وضعها وإذا قام رفعها وسجد مرة فصعد الحسن على ظهره فأطال السجود فلما سلم اعتذر للناس وقال إن ابني هذا ارتحلني فكرهت أن أرفع رأسي حتى ينزل أليس هو القائل من أم منكم الناس فليخفف فان فيهم الكبير والصغير والمريض وذا الحاجة. وقال لمعاذ: لما طول في الناس أفتان أنت يا معاذ؟
وقال لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة وربما ترك العمل خشية أن يفرض على الناس كل ذلك رحمة منه «صلى الله عليه وسلم» وكان يقول والقصد القصد تبلغوا.
وما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً وأنكر على الثلاثة الذين شددوا على أنفسهم في العبادة وقال: والله أني لأخشاكم لله واتقاكم له ولكنني أقوم وأنام وأصوم وأفطر فمن رغب عن سنتي فليس مني فهو «صلى الله عليه وسلم» سهل ميسر رحيم في رسالته ودعوته وعباداته وصلاته وصومه وطعامه وشرابه ولباسه وحله وترحاله بل إن حياته مبنية على اليسر.
شفاعته يوم القيامة
فكما أن رحمته في الدنيا فهي في الآخرة أيضاً حيث يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد وتدنو منهم الشمس مقدار ميل في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة فيستشفعون بآدم ثم بنوح ثم بإبراهيم ثم بموسى ثم بعيسى وكل واحد يقول لست هناكم أي لست أهلاً لذلك ثم يأتون الرحمة المهداة فيقول أنا لها ويسجد تحت العرش فيقول الله له: يا محمد أرفع رأسك وأشفع تشفع وسل تعطه فيشفع للخلق كلهم فيبدأ الحساب ثم يشفع لأهل الذنوب حتى لا يدخلوا النار ثم يشفع لأهل العصاة من أهل النار ثم لا يزال يشفع حتى يقول الله تعلى أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من الإيمان ثم يشفع لأهل التقى والصلاح فينالون الدرجات العلا من الجنة ولمثل هؤلاء أعد الله تعالى لهم مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
فهي اقتدي بالحبيب وطبق هذه الرحمات ستجد عجباً ألا وهو دمعة العين ستصبح قريبة جداً وقلبك سيصبح رقيقاً حساساً ولقد أمرنا النبي «صلى الله عليه وسلم» أن نبكي عند قراءتنا للقرآن فان لم نستطع البكاء فلنتباك وكذلك الرحمة المطلوب أن نفتعلها افتعالاً فالراحمون يرحمهم الرحمن.