أكد التقرير الصادر عن القمة العالمية للحكومات بعنوان «إدارة الواقع الجديد للتجارة العالمية» أنه بدا خلال العقدين السابقين للأزمة المالية العالمية التي بدأت في عام 2008 أن الاقتصاد العالمي أخذ يسير في مسار لا رجعة فيه نحو تحقيق العولمة.
وعلى الرغم من أن التجارة العالمية قد شهدت توسعاً بنحو ثمانية أضعاف قي تسعينات القرن الماضي والعقد الأول من القرن الحالي، كما تضاعفت كنسبة من الناتج الملحي الإجمالي العالمي، إلا أن الحكومات والشركات في جميع أنحاء العالم تواجه في الوقت الحالي شكوكاً جديدة بشأن النمو المستقبلي للتجارة.
محرك نمو
وعلى الرغم أن حجم ونسبة تجارة السلع والخدمات واصل الارتفاع في أعقاب الأزمة العالمية، إلا أن قيمة هذه التدفقات انخفضت خلال العامين المنصرمين، كما انخفضت التجارة كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، ومن غير المتوقع أن تسجل ارتفاعاً خلال الأعوام المقلبة وفقاً لتوقعات منظمة التجارة العالمية، وتثير هذه الاتجاهات تساؤلات بشأن الدور الذي يمكن أن تؤديه التجارة في المستقبل كمحرك للنمو الاقتصادي العالمي.
وأوضح التقرير أن هناك اتجاهين يحددان معالم مستقبل التجارة وهما تحويل التقنيات وتحول السياسات.
وأكد التقرير أن معالم مستقبل التجارة ستحدد على المدى الطويل بتغيرات عالمية كبيرة، بما في ذلك التوسع الحضري، وصعود الطبقة الوسطى المستهلكة في الاقتصادات الناشئة، والتعقيدات الجيوسياسية، وتطور التدفقات المالية الدولية، ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى اتجاهين على صعيد درجة عدم اليقين الذي يكتنف الأثر المستقبلي للتجارة، وهما التحولات التقنية المستمرة والتغيرات في مناخ سياسة التجارة الدولية.
كما ستواصل التقنيات المتغيرة إحداث آثار عميقة في وتيرة وتركيبة النمو التجاري، ففي حين أن التقنيات القائمة في الوقت الحالي مثل الرموز الشريطية والشحن بالحاويات قد حققت بالفعل معظم إمكاناتها، فقد بدأت مجموعة من التقنيات الجديدة نسبياً بما في ذلك الطباعة ثلاثية الأبعاد، والتشغيل الآلي، ومنصات التجارة الإلكترونية بالانتشار على الإنترنت، وهي تَعِد بإحداث آثار تحولية مساوية، إن لم تكن أكبر على التجارة.
تداعيات سلبية
ويُعدّ تطور بيئة السياسات العالمية مصدراً رئيساً آخر لحالة عدم اليقين، ففي ظل الاستفتاء على خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، والتداعيات السلبية على الشعور الشعبي تجاه العولمة في البلدان الغربية الأخرى، فقد تجاوزنا الأفق الواضح للاندماج الدولي المتنامي.
كما تتزايد في الوقت نفسه مستويات الحماسة تجاه تعميق العلاقات التجارية في العديد من الاقتصادات الناشئة، إذ تتطلع الصين وغيرها من بلدان الأسواق الناشئة إلى قيادة مبادرات طموحة جديدة للتعاون التجاري تكون قادرة على «حمل الشعلة» حتى لو تباطأت وتيرة جهود التحرير التي يقودها الغرب.
4 سيناريوهات
ويوضح التقرير هذه الاتجاهات، ويقيّم تأثيرها المحتمل على التجارة، ويبين كيفية الاستفادة منها لتحقيق الميزة التنافسية، حيث يسلط القسم الأول الضوء على أثر الاتجاهات التقنية بما في ذلك نضج التكنولوجيا القائمة والتغيرات الجذرية التي ستُحدثها الابتكارات الجديدة.
وينتقل التقرير في القسم الثاني إلى حالة عدم اليقين المتعلقة بالسياسات من خلال عرض أربعة سيناريوهات نمطية لتطور تحرير السياسات التجارية الإقليمية، مع تحليلات في إطار كل أثر من آثار التغيرات في السياسات على الصعيدين العالمي والإقليمي، أما القسم الأخير من التقرير فسيسلط الضوء على التدابير والاستراتيجيات الشاملة التي يمكن أن تطبقها الحكومات للتعامل مع السياق المتغير للتجارة العالمية.
وأشار التقرير إلى أنه سيتمّ تحديد مستقبل التجارة على الصعيدين العالمي والإقليمي بواسطة مجموعة واسعة من الاتجاهات التقنية، وهي التكنولوجيا التي تساعد في تمكين التجارة، والتكنولوجيا التي تؤدي إلى تقصير سلاسل التوريد، والرقمنة وارتفاع التدفقات الرقمية، والتكنولوجيا التي توفر نشر المعارف عبر الحدود.
فعلى مستوى التكنولوجيا التي تساعد في تمكين التجارة، يوضح التقرير أن عمليات الشحن بالحاويات والرموز الشريطية لعقود خلت أحدثت ثورة في التجارة العالمية، وقادت إلى تضخم النمو بشكل ملحوظ، وأتاحت التطورات في تكنولوجيا بناء السفن وكفاءة الطاقة وتسييل الغاز الطبيعي نقل كميات أكبر بكلفة أقل.
الازدهار التجاري
وأكد التقرير أنه يتم اليوم تطبيق عدد كبير من المحركات التكنولوجية الرئيسية للازدهار التجاري التي كانت سائدة قبل الأزمة في جميع أنحاء المراكز اللوجستية الأساسية والشركات الكبرى في قطاع النقل البحري العالمي، وعلى الرغم من أنه يمكن تحقيق بعض الإمكانات من خلال توسيع عمليات الشحن بالحاويات واستخدام الرموز الشريطية وغيرها من معززات الإنتاج نحو مراكز تجارة ثانوية وشركات خدمات لوجستية صغيرة بالأخص في الأسواق الأقل نمواً.
إلا أنه من غير المرجح أن يتطابق الأثر المستقبلي لهذه المحركات مع ما شهدناه في الماضي، ومن المحتمل أن تؤدي هذه الابتكارات دوراً متراجعاً في زيادة الإنتاج المستقبلي في مجال النقل البحري والخدمات اللوجستية، وتقليل وقت النقل وتكلفته.
وأوضح التقرير أنه على صعيد التكنولوجيا التي تؤدي إلى تقصير سلاسل التوريد سوف تشكل بعض التقنيات الناشئة تحدياً أمام التوفير في التكاليف الأساسية، وقد تؤدي إلى تقصير سلاسل التوريد بصورة مستمرة، ومن شأن هذا الاتجاه أن يسهم في انخفاض معدل نمو تجارة السلع، كما ستساهم زيادة مستويات الأتمتة في التصنيع بخفض مزايا الكلفة المرتبطة بالإنتاج في دول أخرى، مع التشديد في المقابل على أهمية الاعتماد على المواهب المحلية ذات المهارات العالية.
تدفقات رقمية
وفي اتجاه الرقمنة وارتفاع التدفقات الرقيمة أشار التقرير إلى أن الإنترنت والتكنولوجيا الرقمية، ستقوم بتحويل بعض التدفقات المادية إلى تدفقات رقمية، وعلى الرغم من أنّ التدفقات الرقمية مثل البريد الإلكتروني وتبادل الملفات، والاستهلاك الرقمي للأخبار والترفيه غير مدمجة بالشكل الصحيح في البيانات التجارية، إلا أنها قادرة على الحلول محل حصة كبيرة من التدفقات التجارية المادية.
وتشير الاتجاهات نحو تدفقات الرقمنة إلى أنّ تجارة الخدمات ستستمر في النمو كنسبة من التجارة الإجمالية، وأن النمو السريع في تجارة الخدمات ليس جديداً، فقبل الأزمة المالية العالمية كانت التجارة العالمية في الخدمات تنمو بمعدل % 13 سنوياً، أي بمعدل أسرع من معدل نمو تجارة السلع، وتضاعفت منذ عام 2000 قيمة التجارة العالمية في الخدمات 3 مرات.
وارتفعت حصتها من إجمالي التجارة العالمية من %19 إلى %22، كما بدأت الحكومات في جميع أنحاء العالم الإقرار فعلياً بأهمية هذا الاتجاه، مع إبرام أكثر من 100 اتفاقية تجارة حرة تتضمن أحكاماً بتوفير الخدمات منذ عام 2000، ومع ذلك فمن المرجح أن نشهد مواصلة وتكثيف هذا التحول خلال السنوات القادمة.
أما في الاتجاه الأخير «التكنولوجيا التي توفر نشر المعارف» أكد التقرير أن هناك عامل آخر يؤثر على نمو التجارة بنشر المعرفة والتقدم التكنولوجي في الاقتصادات الناشئة، وستشكل وتيرة ومدى هذا الانتشار عاملين رئيسيين في التنمية الاقتصادية العالمية وفي نمو التجارة، غير أن هناك فرصاً وتحديات جديدة في هذا المجال.
وتصل تدفقات التجارة العالمية إلى أحجام كبيرة تاريخياً، كما أنها بعيدة للغاية عن تسجيل انخفاض ملحوظ، ومع ذلك، أدى انخفاض أسعار السلع الأساسية إلى تذبذب القيم، كما انخفض مُضاعَف التجارة إلى حد كبير، ويبدو أن النتائج العكسية لمناهضة العولمة تعكس اتجاه بعض أوجه التقدم المحرز في مجال التجارة الحرة، وفي حال تمكنت البلدان والشركات من التغلب على هذه التحديات بهدف تعزيز النمو التجاري المتواصل واستغلال الفرص التي ترافقه، فإنها ستحتاج استطلاع نماذج ودعامات وشراكات استراتيجية جديدة، وتطوير قدرات جديدة لضمان أن تستند قرارات صنع السياسات إلى تحليلات دقيقة وقائمة على البيانات.
إعادة النظر في أنظمة التعاون التجاري الحر
أكد التقرير الصادر عن القمة العالمية للحكومات أن تطور التجارة سيتحدد بالإضافة إلى التغيرات التقنية من خلال خيارات السياسة التي يتخذها صانعو القرار في الحكومات حول العالم، ويتسم المشهد هنا كذلك بحالة من عدم اليقين، ويتزايد الضغط الشعبي المتعلق بإعادة النظر في أنظمة التعاون التجاري الحر، والناتج عن الاضطرابات الاجتماعية والاقتصادية المعقدة، والمتعلق بصورة جزئية وليست حصرية بالعولمة، وهو يتجمع في تحركات سياسية في عدة بلدان، ومع ذلك، فمن المستحيل أن نتوقع بشكل قاطع تغيرات السياسة التي ستنجم عن هذه التحركات.
محور جغرافي
وشهد مركز ثقل حجم التجارة العالمية خلال العقدين الماضيين تحولاً نحو الشرق، وقد يتبعه المحور الجغرافي للسياسات التحريرية في المستقبل، كما تغير الوزن النسبي للاقتصادات الغربية المتقدمة مقابل الأسواق الناشئة كمصدر للنمو التجاري، فعلى سبيل المثال انخفض مستوى التدفق التجاري بين الأسواق الغربية المتقدمة كنسبة من إجمالي التجارة العالمية من % 57 عام 1990 إلى % 30 عام 2016.
فيما ارتفع مستوى التدفق بين أسواق آسيا والشرق والأوسط وشمال أفريقيا وأميركا اللاتينية من % 6 إلى % 28 خلال الفترة عينها، وفي ظل هذا الاتجاه، وبالإضافة إلى بيئة السياسات المتطورة، فإنه من غير الواضح ما هي القوة أو القوى العالمية التي ستضطلع بالدور الريادي في مواصلة تحرير التجارة.
تدابير وسياسات
وأوضح التقرير أنه للوصول إلى فهم أوضح عن الأمور التي على المحك فيما يخص أوجه عدم اليقين المحيطة بالتعاون التجاري المستقبلي، فإن هذه الوثيقة تحلل سلسلة من السيناريوهات السياسية التي يتم فيه تطبيق أي تدابير لتحرير التجارة، وسيناريو تقود فيه كتلة «الشرق» تحرير التجارة في المستقبل، وسيناريو تقود فيه كتلة «الغرب» عملية التحرير، وسيناريو «متعدد الأقطاب» حيث تتولى كل من كتلة «الشرق» وكتلة «الغرب» تطبيق تدابير تحرير نشطة داخل الأقاليم.
ولأغراض وضع السيناريوهات، تم تحديد مجموعات من البلدان هي، «الغرب» وتشمل البلدان الموقعة على الشراكة العابرة للمحيط الهادئ «تي بيه بيه» والشراكة التجارية الاستثمارية العابرة للأطلسي «تي تي آي بيه»، و«الشرق» وتشمل البلدان التي يحتمل توقيعها على الشراكة الإقليمية الاقتصادية الشاملة «آي سي إي بيه» فضلاً عن بقية بلدان آسيا والمحيط الهادئ، ومجموعة «كالهما» وتشمل بلدان موقعة على الشراكة العابرة للمحيط الهادئ «تي بيه بيه».
وتشير هذه النتائج إلى أن تحسين الميزان التجاري من شأنه أن يؤدي إلى نتائج دون المستوى الأمثل فيما يتعلق بالناتج المحلي الإجمالي والاستهلاك الخاص، مما يشير إلى أن اتباع نهج تجاري قائم على التوازن في صياغة السياسة التجارية يمكن أن يخفض متوسط المستوى المعيشي للأسر في الأقاليم.
توصيات
استراتيجيات لصقل التحولات الاقتصادية طويلة الأمد
في سياق حالة عدم اليقين المحيطة بحجم وتكوين والتنظيم الجغرافي لنمو التجارة في المستقبل، يجب على صناع السياسات تعزيز مجموعة أدواتهم لتشكيل مسار التجارة المستقبلي، وتأثيره على الاقتصادات المحلية على حد سواء، وتتطلب الآليات المعقّدة والمتطورة للتجارة العالمية، وآثارها على الاقتصادات المحلية، استراتيجيات مصممة خصيصاً تأخذ بعين الاعتبار تباين السياقات في الأقاليم والدول.
ووضع التقرير عدة توصيات أولية مختصرة لصناع السياسات تتعلق بثلاث فئات من الأدوات الحكومية وهي تدابير للتخفيف من مخاطر التراجع القصيرة إلى متوسطة المدى فيما يتعلق بتحرير التجارة، واستراتيجيات لصقل التحولات الاقتصادية طويلة الأمد للاستفادة من الفرص المرتبطة بالتجارة، والتوجهات الاستباقية للدفع قدماً بالتعاون التجاري المستقبلي.
وبالإضافة إلى استراتيجيات وخطط التنمية الاقتصادية التي يغلب عليها الطابع التقليدي، تعمل الحكومات بشكل متزايد على تطوير استراتيجيات لتحفيز الأولويات الأضيق نطاقاً مثل الأبحاث والتطوير والابتكار، وعلى سبيل المثال، أطلقت الإمارات الاستراتيجية الوطنية للابتكار، واستراتيجية الإمارات للذكاء الاصطناعي، واستراتيجية الإمارات لاستشراف المستقبل.
تطوير
منهجيات جديدة للاستفادة من مصادر البيانات الضخمة
تعدّ الحاجة إلى تطوير النظرة من خلال الحقائق التي تتسم بمزيد من الدقة، والقدرات التحليلية وعمليات صنع السياسات أحد المواضيع المشتركة التي تتقاطع مع هذه المجالات الثلاثة، وهي حاجةٌ تنطبق على جميع المناطق والبلدان على الصعيد العالمي، ويتطلب إحراز تقدم في هذه الأولوية الرئيسية، تحسين قدرات جمع وتحليل البيانات الحكومية، واستحداث منهجيات جديدة للاستفادة من مصادر البيانات الضخمة القائمة، إضافة إلى إصلاح الإجراءات التشريعية والتنظيمية لتعزيز عملية صنع السياسات القائمة على الأدلة.
وهناك مجموعة واسعة من الأساليب الممكن اتباعها لتحقيق هذه الأهداف، وقد يكون لدى بعض الحكومات وكالات قائمة والتي يمكن أن تكون «مالكةً» منطقية لهذا الدافع، وقد يحتاج البعض الآخر إلى تطوير وظائف جديدة، ومؤسسات، أو بنى وعمليات للحوكمة.
وبالإضافة إلى ذلك، فبإمكان العديد من الحكومات أن تستفيد من إنشاء منصات مؤسسية للحوار والتعاون المستمر بين أصحاب المصالح في القطاعين العام والخاص، وفي حين يوجد نموذجٌ واحدٌ صحيح لهذا التعاون، فقد يكون إنشاء مجالس استشارية للوزارات أو اللجان المسؤولة عن وضع الاستراتيجيات الاقتصادية والتجارية خياراً متاحاً في بعض الظروف.