صناعة السفن واحدة من الصناعات التي اشتهرت في الدولة، وفي دول الخليج العربي، وشكّلت مورداً جيداً لأصحابها، وهي وإن أصبحت اليوم قليلة العدد، إلا أنها تُشكّل تراثاً بحرياً يفتخر به أبناء الإمارات، ومن خلال زيارة مواقع البناء في أم القيوين ورأس الخيمة والشارقة، غابت الورش التي كانت تعنى بهذه الصناعة، ولم يبق الا مواقع قليلة يتم فيها اجراء عمليات ترميم وصيانة بعض السفن او القوارب التي تعمل حالياً في نقل الركاب والبضائع الى الموانئ القريبة.
ومثل هذه الترميمات تتم في مناطق تكون قريبة من البحر، وذلك للمحافظة على طراوة الخشب وحمايته من التلف ولسهولة نقل السفينة من البر الى البحر، وتتميز الإمارات بهذه الصناعة منذ سنوات طويلة، بل من مئات السنين حين كانت الوسيلة الوحيدة لنقل البضائع والمسافرين، وكان لها روادها من الجلافين والنجارين والعاملين، وبالرغم من وجود سفن خشبية تعمل حالياً، الا ان بعضها اصبح في المتاحف مثل منطقة ساحة الآداب والمتحف البحري في الشارقة، حيث خصص جناح للتعريف بأدوات وأسماء السفن بحسب ترتيبها، وهناك افراد أقاموا متاحف خاصة بهم واحتفظوا بنماذج من السفن.
ذكريات البحر
في لقاء مع حمد بن حمدان المطروشي الملقب بالعود خاض تجربة البحر وهو صغير السن، يقول: كان عمري 8 سنوات عندما بدأت مشوار السفر للتجارة والغوص، وكنت أصغر اخوتي سناً، وفيما بعد علمت أن والدي رحمه الله كان من أبرع الصيادين في المنطقة، وانه كان كثير السفر في البحار، وسار إخوتي على نهج والدي ليصبحوا جميعاً ذوي خبرة في صيد اللؤلؤ والسفر إلى الجزر البعيدة، وعلى هذا الدرب سرت، بل وتمسكت بهذه المهنة بعزيمة واصرار، وكانت وجهتي الأولى إلى جزيرة سقطرة اليمنية التي مكثت فيها ما يقارب العامين، وتعلمت فيها فنون التجارة البحرية وأسرارها وهي من اجمل الجزر في البحر اليمني، حيث كانت هذه الجزيرة بوتقة للتجار العرب جميعهم، ولا أنسى الأحداث التي صادفتنا جراء رحلتنا إليها التي مازالت راسخة في ذهني إلى هذه اللحظة.
كما سافرت الى عدن والى ساحل عمان، كانت وسيلة السفر الوحيدة هي عبر البحر باستخدام السفن الشراعية، وكان في ذلك الوقت توجد عائلات اماراتية امتهنت صناع صناعة السفن او السفر بها لنقل البضائع والركاب، وكان لها دور كبير أيضاً في اصطياد الأسماك واللؤلؤ اللذين كانا مصدر رزق لهذه العائلات، واليوم ارى ان السفن اصبحت جزءاً من حياتنا، ومن ماضينا، فهي مهنة الآباء والأجداد وقد عمل فيها المسن والرجل والصبي والصغير، وهذه الرحلة الطويلة مع البحر تركت في نفوسنا بصمات جميلة في حياتنا.
تراث الماضي
وفي لقاء مع علي سعيد العماني والذي عمل في صناعة السفن منذ سنوات طويلة قال: في الماضي البعيد كانت المهنة وقف على ابناء المنطقة، ولم تكن الاستعانة بالعمالة الآسيوية الا فيما ندر، ومن هذه الصناعة عرفت عائلات اماراتية تحمل ألقاباً من البحر مثل الجلاف أو الجلافة، ومع تطور الحياة العصرية ودخول السفن العملاقة ووسائل النقل البحري والجوي المتطورة في مجال النقل، اصبحت صناعة السفن غير مجدية، الا في حالات قليلة مثل نقل البضائع الى الموانئ القريبة، ونقل الركاب من ضفتي الخور، لم يعد لها وجود مقارنة بما كانت عليه في السابق، ولكن بقيت ورش صغيرة متناثرة في الإمارات، تقوم بالترميم والصيانة للسفن التي مازالت تقوم بعملها في نقل البضائع في منطقة الخليج واليمن والقرن الإفريقي.
ألقاب ومعان ٍ
العاملون على السفن الشراعية حملوا اسماء تبرز دور كل واحد منهم وما الذي يقوم به من اعمال على ظهر السفينة، واول هذه الأسماء هو (السردال) وهو قائد أسطول السفن الذي يملك القرار النافذ، ويجب ان يكون خبيراً بالبحر، و(النوخذة) قائد السفينة الذي يدير الطاقم كاملاً، وهو المطاع فيها دون اعتراض من احد، و(المقدمي) وهو الذي يجلس أمام السفينة كمرشد لها، و(الغواص) الشخص الذي يغوص البحر لاستخراج المحار والأصداف من البحر، و(السيب) وهو المساعد المباشر للغواص، وتقع عليه مسؤولية سلامة الغواص، وهو الذي يمسك بحبل متصل بينه وبين الغواص، فإذا حرك الغواص الحبل سحبه السيب الى الأعلى.
و(السكوني) الممسك بدفة السفينة، و(الرضيف) ويطلق على الصبية الذين أعمارهم بين العاشرة والرابعة عشرة، ويقومون ببعض الأعمال ومنها مساعدة السيب في سحب الغواص، و(التباب) الصبي الحدث ومهمته مساعدة من على ظهر السفينة، و(الجلاسة) وهم الرجال الاحتياط الذين يحلون في أي طارئ يحدث لأحد الغواصين، و(النهام) وهو المنشد في السفينة الذي ينشد الأشعار بصوت شجي، و(الطباخ) الذي يعد الطعام، و(الكيتوب) الذي يرصد كل شيء يدور على السفينة، وكمية اللؤلؤ التي يحصلون عليها.
انقراض المهنة
بدأت مهنة صناعة القوارب تنقرض تدريجياً وأصبح العاملون فيها من جنسيات غير العربية، ولم يعد احد من ابناء الإمارات يعمل فيها، إما لكبر السن أو للعمل في اعمال اخرى اقل تعباً واقل جهداً، كما أن الأبناء تركوا تراث آبائهم وأجدادهم من بناء السفن الخشبية الى بناء اليخوت وغيرها من القوارب السريعة.
حكاية نوخذة من الزمن البعيد
حرفة صناعة السفن هي حرفة الكثير من الاسر الاماراتية، ومن هذه الاسر التي عملت في هذا المجال، اسرة الختال التي عملت في صناعة القوارب منذ بدايات القرن العشرين، ومن أفرادها سعيد الختال الذي نزل البحر منذ كان عمره 12 عاما، واصبح (نوخذة) وهو يافعا، وصارع الامواج وهو رجلا، واخيرا استقر به الحال في السهر على بناء القوارب، والانطلاق بها الى موانئ الخليج وعدن وجيبوتي والصومال والهند وباكستان وغيرها من الموانئ التي ترك بصمته فيها، ومع اول سفينة صنعها في دبي وابحر بها صوب الصومال، رافقه فيها ابنه سالم وذلك كي يعلمه اسرار المهنة وكيف يواجه المخاطر والتألقم مع البحر وكشف اسراره، حتى يصبح نوخذة كما كان عليه الحال مع آبائه واجداده.
وفي الرحلة الثانية التي كانت وجهتها كراتشي الباكستانية، اصر الابن سالم ان يكون هو النوخذة لوحده رغم صغر سنه، ورغم تحذيرات الاخرين للاب الذين نصحوه بعدم تركه يسافر وحيدا، الا ان اصرار سالم على السفر ترك الاب يوافق على خوض هذه التجربة الفريدة، معتبرا بانها سوف تكون تجربة ناجحة تعوده على تحمل الاخطار، وبعد خمسة وعشرين يوما من السفر بحرا عاد سالم وقد حمل لقب اصغر نوخذة في العالم، اذ قاد السفينة وعمره ثلاثة عشر عاما، وتعتبر عائلة الختال، من الاسر العريقة التي عمل معظم افرادها بالبحر منذ سنوات بعيدة، لكن البداية الاولى التي وثقت العلاقة بالبحر أكثر، كانت من خلال الغوص وتجارة اللؤلؤ.
وكانت اول سفينة تملكها هذه العائلة سفينة اطلق عليها اسم (موافق)، بينما اول سفينة بنتها كان في بداية السبعينات من القرن الماضي، عندما عرض على سعيد الختال شراء نصف سفينة في الهند بمنطقة (كيرلا) غير مكتمل بنائها، اشتراها من احد الهنود، واكمل بناءها في الهند، وابحر بها الى دبي، مطلقا عليها اسم (الباز)، والسفينة الاخرى التي صنعها اطلق عليها اسم (داؤد) وهو اسم عامل اسيوي عمل مع سعيد الختال اكثر من 40 عاما، وفاء وتقديرا لجهوده واخلاصه وبقائه معه طيلة هذه الفترة الطويلة.
«البوم» للتجارة و«الشوعي» للؤلؤ و«الصمعا» للركاب
تتنوع سفن الخليج الخشبية القديمة، في أشكالها وأنماطها وأغراض استخدامها، وتعد سفن (البوم) هي الأشهر والأفضل من حيث كفاءتها وحجمها، وكانت تنقل السلع والبضائع عبر موانئ الخليج العربي وموانئ الهند وباكستان وإفريقيا، ويصل طولها إلى 150 قدماً، وتتراوح ما بين الـ 300 و 750 طناً، وهناك نوعان لسفن البوم، منها ما يبحر إلى البعيد ويعرف باسم (السفار)، ونوع آخر يعرف باسم (القطاع)، ويستخدم في الإبحار لوجهات قريبة من موانئ الخليج العربي.
وهناك العديد من السفن القديمة المصنعة من الخشب الصلب، تشق عباب البحر ومنها ما يعرف باسم (الشوعي)، وتستعمل للبحث عن اللؤلؤ وصيد الأسماك، وكذلك سفن (الكونية) تستخدم للأسفار البعيدة، ومن أنواع السفن والمراكب التقليدية التي اشتهرت في المنطقة (الصمعا)، وهو قارب خشبي يتراوح طوله بين 25 قدما و80 قدما، وعرضه بين تسع أقدام و20 قدما فيما يصل ارتفاعه بين ثلاث أقدام و10 أقدام، ويستخدم من قبل الغواصين بحثاً عن المحار وفي نقل الركاب، ويعتبر من القوارب المحلية الأصل، ويشبه إلى حد ما قارب (السنبوك).
ويختلف عنه في شكل المقدمة الذي يطلق عليه (الميل)، وقارب صيد الأسماك يسمى (السنبوك) الذي يتراوح طوله بين 25 قدما و100 قدم، وعرضه قد يصل إلى 20 قدماً، أما ارتفاعه فيتراوح بين ثلاثة و10 أقدام، والسنبوك أحد القوارب التي تستخدم في نقل الركاب داخل وخارج منطقة الخليج، وكذلك قارب (البقارة) يتراوح طوله بين 20 قدماً و60 قدماً وعرضه بين تسع أقدام و13 قدماً، ويصل ارتفاعه إلى ثلاث أقدام، وقد استخدم في الغوص وصيد الأسماك فقط، أما (الغيرب) فهو أصغر من قاربي (البتيل) و(البقارة)، ومن السفن القديمة والكبيرة الحجم (البغلة)، وتستخدم في التنقل بين موانئ الخليج العربي والهند وباكستان، وكانت مخصصة للأسفار قبل ظهور سفينة (البوم).
مهنة الأسرار والخبايا
عرف صانع السفن باسم (القلاف) أو (القلافة)، وتوجد أسر معروفة في المجتمع الإماراتي تحمل اسم (القلاف)، وهذه الحرفة تعد من أصعب المهن، ولها أسرار وخبايا لا يعرفها سوى سكان المكان الذي تصنع فيه السفن، وكانت قديما تصنع يدويا باستخدام الماء والنار ودهن الحوت، ويستغرق العمل فيها عاماً كاملاً أو اكثر، قبل أن يستخدم في صناعتها الآلات الحديثة والخشب المستخدم من الهند وتنزانيا، ومن أدوات صناعة السفن (المنقر) المستخدم لنقر الخشب وتنظيفه، و(منقر كلفات) وهو عبارة عن قطعة حديدية يتشعب أحد طرفيها إلى شعبتين لإدخال الخيوط بين الأخشاب، و(الجدوم) وهي أداة يستخدمها عامل السفينة لنحت الخشب،إضافة إلى المنشار المعتاد الذي يستخدم في قطع الأخشاب، وغالباً ما يكون بأحجام متنوعة بحسب استخداماته، ويحتاج صانع السفن إلى (الشبا) وهي أداة تمسك الأخشاب.
و(المجدح) ويستخدم في ثقب الأخشاب بواسطة القوس الذي هو عبارة عن خشبة أسطوانية مستطيلة يربط بطرفيها (وتر) رفيع يستخدم في تشغيل المجدح لثقب الأخشاب التي تصنع منها السفن، إضافة إلى ذلك يستخدم (الرندة) أو الفارة لتنعيم الأخشاب، و(الشاكة) هي طباشير يستخدمها الصناع في وضع علامات على السفينة، إضافة إلى استخدام (البلد) وهو عبارة عن كتلة من الرصاص لها عروة يربط فيها حبل به علامات للقياس، ولصناعة السفن في الدولة تقاليد وطقوس تناقلتها الأجيال والأيدي التي مارست تلك المهنة الشاقة.