دبي الإمارة، والمنطقة الشندغة، التي تمثل التاريخ والماضي، والقرية قرية التراث، وهي تجسيد حي للمجتمع في دبي، في زمن اعتمد فيه الإنسان على نفسه، قبل أن تأتي هذه النهضة الشاملة، والتي شملت كل مجالات الحياة، لكن قرية التراث هي اليوم تجسد لحياة ما قبل النهضة، وهي نموذج للفريج والسوق والحرف المختلفة، بل هي القرية التي أعادت للجيل الجديد، شكل حياة الآباء والأجداد، وذكرتهم بالماضي البعيد، وبالحياة الصعبة الذي كان يعيشها المجتمع آنذاك، إذاً لقرية التراث حكاية قديمة، يرويها أشخاص من ماضٍ بعيد.
مدخل قرية التراث الرئيسي
عبق الماضي
منطقة الشندغة القديمة (الفريج)، تشكل نموذجاً مصغراً لقرية، تعكس حياة الماضي بكل ما فيها من حياة اجتماعية، وعادات وتقاليد، ومبانٍ ومساجد، بل وأشخاص يحكون بلهجة سلسة تاريخ تلك الحقبة من الحياة، ويعرفون بمهن وحرف الآباء والجدود، وتم إنشاء قرية التراث عام 1997م في منطقة الشندغة بجوار قرية الغوص، حيث تمثل مكونات الحياة البرية والنشاط البري في الماضي، وتتميز بمدخلها التقليدي كأحد العناصر المعمارية الجميلة، حيث تتكون القرية من مبنى للإدارة، ومطعم تراثي، ومبنى للمعارض المفتوحة، وقاعات للعرض الداخلي ومقهى تقليدي مبني من جريد النخيل.
السياح يزورون المكان للتعرف على عادات أيام زمان
كما تحتوي على ساحة مخصصة للمهرجانات التراثية، ومجموعة من النماذج للمباني السكنية التقليدية والسوق الشعبي، ويأتي هذا الاهتمام بالتراث حفاظاً على تاريخ مجتمع وإرث عربي أصيل، وعلى عادات وتقاليد أصيلة، مازال مجتمع الإمارات محافظاً عليها حتى اليوم، بالرغم من الخطوات الكبيرة، والنقلة النوعية في الانتقال من حياة الماضي إلى حياة عصر التطور الحديث، ومواكبة التقدم الحضاري العالمي.
المستخدمات القديمة
تنتشر في أرجاء القرية التراثية القديمة، الكثير من اللمسات التي تعيد ذكريات الماضي، ومنها الفوانيس الصغيرة التي كانت تستعمل في تلك الفترة، قبل أن تنعم الإمارة بالكهرباء وبكل الخدمات، وعلى ضوء هذه الفوانيس، عاش الإنسان القديم معتمداً ومكتفياً بما لديه، كذلك نماذج القوارب التقليدية التي ترمز إلى اعتماد صياد الأسماك واللؤلؤ على هذه السفن الخشبية، التي قام بصنعها بنفسه، ونموذج السوق الشعبي القديم، وهي محلات تقوم ببيع التحف والتذكارات القديمة، ويوجد في القرية مقهى شعبي، وأشكال هندسية لبيوت ومحال وأماكن، عكست بيئة المجتمع القديم، الذي عاش في هذه المنطقة، منذ أكثر من مائتي عام، وفي أجزاء كثيرة من قرية التراث، يظهر العارضون من أصحاب المهن والحرف.
وكل يقدم تعريفاً مبسطاً عن حرفته أو مهنته، وهذه الحرف كانت الوسيلة الوحيدة التي يعتمدون عليها في معيشتهم، فالصياد والنجار والحداد وصانع القراقير والسفن، جميعها حرف شكلت في تلك الفترة مصدر رزق، وفي الوقت نفسه يتم الاعتماد عليها في استمرارية الحياة ظروف صعبة، إذاً قرية التراث هي الصورة الأكثر تجسيداً، لحياة الإنسان في السنين الغابرة، وهي النموذج الأقرب إلى رسم الماضي بكل أبعاده، ولذلك وضعت بلدية دبي خطة، لإعادة الإنشاء والقيام بأعمال الترميم، وتأهيل المباني لتمارس فيها الحياة الطبيعية بشكل اعتيادي، ففي عام 1996م بدأت أعمال المرحلة الأولى، التي شملت إحياء الممر الساحلي الواقع عليه مجموعة من المباني ذات القيمة التاريخية، وإعادة تأهيلها لوظائف معاصرة، منها بيت الشيخ سعيد آل مكتوم، وقريتي الغوص، والتراث، وبيت الشيخ عبيد بن ثاني، والعديد من المساجد التقليدية، وفي المرحلة الثانية ومنذ عام 2005، يتولى قسم المباني التاريخية، تنفيذ مشاريع الترميم للمباني، ومن أهم هذه المشروعات السوق التقليدي، إلى جانب تصميم مشروع الحديقة التراثية.
مساجد شاهدة
في منطقة الشندغة، عالم فريد من الحياة في الزمن البعيد، فإلى جانب قرية التراث وقرية الغوص، وهم نموذجان للحياة في تلك الفترة، أيضاً كان هناك المساجد التي يتعبد فيها الإنسان، ويعود تاريخ إنشاء المساجد في منطقة الشندغة إلى بداية القرن العشرين، وهي عبارة عن مجموعة تتكون من ستة مساجد تاريخية موزعة في جميع أنحاء المنطقة، وهي مسجد بن عتيبة (العتيبات) والمر بن حريز، وزايد والشيوخ، والملا، وأحمد بن حارب، وكان لهذه المساجد دور بارز في تطوير ونشر الوعي، في الحياة الدينية والاجتماعية للسكان، مما أضفى على المنطقة نوعاً من التوازن العمراني والثقافي التراثي، وقد تم ترميمها وفق أساليب البناء التقليدية، وتتشابه جميعها في تكوينها المعماري، بل إنها تتميز بثرائها من خلال العناصر المعمارية التقليدية، كما تشكل الفن المعماري القديم، الذي عكس حياة المجتمع في ذلك العهد.
مدينة عريقة
دبي ذات التراث العريق، هي مدينة الماضي بكل عبقه والمستقبل بكل سحره، كانت دبي القديمة تنقسم إلى ثلاثة أقسام رئيسية، الشندغة وبر دبي وديره، ويفصل الخور بين بر دبي وبر ديره، والشندغة تقع على الجهة الغربية للخور، ويفصل بين الشندغة وبر دبي، حاجز رملي يدعى الغبيبة، وتطل منطقة الشندغة على مدخل خور دبي من جهة الجنوب، وتشرف على منفذ المدينة البحري وشريانها الحيوي، ويعود تاريخ إنشاء المنطقة.
كما ذكر بعض المؤرخين إلى حوالي عام ١٨٦٢م، وظهرت الأهمية التاريخية للمنطقة أواخر القرن التاسع عشر، عندما أدت زيادة السكان في المدينة، إلى ظهور الحاجة لتخطيط جديد للمدينة، وإنشاء أحياء بيوت أهرى، وأصبحت منطقة الشندغة، تضم سكن العائلة الحاكمة، وعدد من الشخصيات، كما شهدت اهتماماً رسمياً وحكومياً كبيراً، خلال السنوات الماضية، إضافة إلى مشاريع عدة لترميم مبانيها التاريخية، وإعادة إنشاء المباني التاريخية، على مراحل عدة، بلغ عدد مباني المنطقة 226، موزعة على 62 استخداماً بين المساكن والمتاجر والأسواق وغيرها.
بيت الشيخ سعيد معلم تاريخي في الشندغة
يعد بيت الشيخ سعيد آل مكتوم، الكامن في منطقة الشندغة التراثية، ويرجع تاريخ إنشائه إلى عام 1896 من أهم معالم العمارة التقليدية في الإمارة، نظراً لقيمته التاريخية، باعتباره مقراً لسكن الحاكم المغفور له، بإذن الله، الشيخ سعيد آل مكتوم، حتى وفاته في عام 1958م، ومن اهم الأشياء التي يتميز بها البيت الأثري، أبراجه الهوائية الشاهقة (أربعة براجيل)، وزخارفه الجمالية، وكلها من العناصر المعمارية، التي أكدت الأصالة التراثية والتاريخية لهذا المبنى، وتتفاوت ارتفاعاته بين طابق وطابقين، وقد تم ترميم المبنى عام 1986م، وأصبح متحفاً للصور والوثائق التاريخية لإمارة دبي، وبعد إعادة ترميمه، حاز جائزة المحافظة على التراث المعماري، من منظمة المدن العربية عام 1988م، كما أصبح البيت مزاراً للكثير من المقيمين والسياح والوافدين من مختلف دول العالم.
كما يمثل رمزاً للبناء المعماري التقليدي في إمارة دبي، التي تتنوع مبانيها القديمة، منها بيوت أنشأت من سعف النخيل كالعريش، وبيوت أنشأت من الصخور البحرية، كالتي وجدنا منها في قرية التراث، كما توجد في منطقة الشندغة التراثية، بيوت قديمة، منها بيت عبيد بن ثاني، الذي يعود تاريخ إنشائه إلى عام 1916م، وهو من أوائل البيوت السكنية، ويكتسب أهميته من خلال موقعه المتميز في وسط المنطقة، وبكبر مساحته، وهو ذو قيمة تاريخية وفنية كبيرة، لاحتوائه على مجموعة كبيرة من العناصر المعمارية والتقليدية المختلفة التشكيلات، التي أظهرت القيم الجمالية في واجهات المبنى، وتم ترميمه عام 1999م، لدعم النشاط السياحي في دبي، ولإبراز فن العمارة الخليجية.
كذلك يوجد بيت الشيخ جمعة آل مكتوم، الذي يعود تاريخ إنشائه إلى عام 1928م، ويقع بجوار بيت الشيخ سعيد آل مكتوم، وبيت عبيد بن ثاني، ويتميز المبنى بتنوع مفرداته المعمارية التراثية، التي تدل على أصالته التاريخية، وبوجود هذه البيوت التقليدية، فقد أصبحت مكاناً مفضلاً لدى السائح العربي والأجنبي، كما يقوم بزيارتها المقيمين والوافدين، وطلبة المدارس والجامعات، لمشاهدة فن العمارة، وللتعرف على المنطقة التراثية بشكل عام، حيث أصبحت الشندغة، من المناطق التاريخية التي تجسد الماضي، بكل أشكاله الإنسان والأرض.
السوق الشعبي.. ثقافة الحياة اليومية
تضمنت القرية التراثية، السوق الشعبي والذي تعرض فيه نماذج من الحرف والمهن القديمة، مثل الحداد والنجار وبائع الأعشاب وصانع القراقير والدخون والأكلات الشعبية، وعدد من المهن الأخرى، ويقدم في السوق تعريف بالمهن القديمة من قبل العارضين، الذين لهم خبرة في مجالهم الى جانب المرشدين، وفي جانب صناعة البخور، قالت منيرة يوسف، لا يخلو بيت إماراتي من رائحة الدخون والعطور، بل أصبح الدخون شيئاً أساسياً في حياتنا اليومية.
كما انه أصبح يصنع في البيوت، وهناك عدد كبير من السيدات والفتيات اللاتي لديهن رغبة صادقة في تعلم طرق البخور والدخون بشكل عام، ومن الأنواع التي اعرضها في السوق الشعبي، العود بالعنبر، والعود المعطر، والعود بالمسك، والعود المبخر، والدخون الأسود، والدخون الملون، والمخمرية، ومخلط بدهن العود، والعطور البخاخة، ودقة العود المعمول بالطريقة القديمة، كما توجد خلطات مختلفة يتم تركيبها حسب ما يناسب كل شخص.
ومن جناح الأكلات الشعبية، والتي تعرض فيه هاجر علي حسن «أم علي»، طريقة الإعداد والتجهيز والطبخ، تقول عن نوعية الأكلات وإعدادها، نحن هنا ليس فقط نعرض الأكلات الشعبية، ولكن أيضاً نعرف زوار القرية التراثية، بنوعية هذه الأكلات، حيث تعتبر من تراثنا الغذائي، أنا هنا أعد العيش المحمر، الذي يمتاز بلونه الأحمر الفاتح، بسبب إضافة مادة الدبس له، والدبس هو سائل التمر الذي ينزل منه عند التخزين، أو بسبب إضافة عصارة التمر المنقوع في الماء بواسطة قطعة من القماش، أو بإضافة السكر المحروق وأحسن ما يكون معه السمك الصافي والجش المقلي، والخبيص وهو مادة من الرز المطحون والحنطة المقلية التي يسكب عليها الدبس والسكر، وتحمص على النار ويضاف إليها قليل من الماء حتى يسهل تحميصها .
ويضاف إليها كذلك قليل من السمن الخالص المتحضر من دهن البقر، واللقيمات وهي أقراص صغيرة مستديرة تشبه خف الحوار «ابن الناقة الصغير» تعمل بالدهن والعسل والدبس، لكن هناك أكلات لا نستطيع تجهيزها هنا، وإنما تعتبر من الأكلات الشعبية في المطبخ الإماراتي، مثل البثيث الذي يتكون من بودرة الرز أو الحنطة والتمر، يحمس ويقلى ثم يضاف إليه التمر والدهن ويخلط الجميع مع بعضه بعضاً، وهذه الأكلة ترافق القناص والمسافر والغواص، وهي لا تتأثر ولا تفسد إلا بعد مدة طويلة، والهريس وهو من حب الحنطة المهروسة والممزوجة باللحم، يغلي جميعه على النار حتى يذوب اللحم وتختلط بحب الحنطة، ثم يدخل القدر إلى داخل التنور أو الموقد ويطمر لمدة ساعتين أو ثلاث ساعات، وبعدها يتم إخراجه ثم يضرب ويخفق مع إخراج كبار العظام منه.
ثم يصب في أطباق ويسكب عليه الدهن، والهريسة وهي تتكون من الحب أو من بودرة الرز مع لحم الدجاج، تغلى على النار حتى تصبح خليطا ويذوب فيها اللحم ، ثم تضرب وتخفق ويستخرج منها عظام الدجاج، وتقدم في أطباق مثل الهريس والعصيدة، والخبيص وهي من الرز المطحون المحموس وبودرة طحين القمح، يضاف إليها الدبس والسكر تطبخ على النار وهي من الأكلات السريعة، والخبز الخمير وهو من الطحين يضاف إليه البيض والخميرة ويعجن ويستغرق عجنه ساعات حتى يختمر، والخبز المحلى يضاف إليه البيض والسكر والدهن الخالص.