يحكي التاريخ عن امارة دبي، انها مركز التراث القديم، والعمارة التقليدية التي بناها الانسان القديم، في كثير من احياء الامارة، وكما هو الامر في منطقة الشندغة التاريخية التراثية، كذا الامر في منطقة الراس القديمة، التي تزينها العمارة التقليدية والاحياء ذات الأزقة الضيقة، والمباني التي سكنها تجار المنطقة، الذين أرسوا مشهد العمارة او البيت التقليدي، وكل ما في هذه المنطقة التي هي اقرب إلى اللوحة التشكيلية التراثية، تتمثل في بيت التراث، الذي احتوى على كل شيء قديم، من العادات والتقاليد وطريقة المعيشة، وتوزيع الغرف بشكل انسيابي، تطل على الفناء الواسع «الحوش»، فكل ما في هذا السكن القديم، يدل على حياة كان التواضع اساسهم والبساطة معشرهم، وفي بيت التراث هذا البيت العريق، والذي تعاقب عليه عدد من تجار المنطقة، نقرأ قصة لواقع قديم، رسمه لنا من سكن هذا البيت، عبر حارسته امينة الغفاري مديرة المدرسة الاحمدية وبيت التراث، وبعد جولة شملت ارجاء بيت التراث، بدأت امينة الغفاري حديثها:

 

تعاقب الملاك

سكن منطقة الراس عدد من التجار ومن افراد المجتمع في امارة دبي، وكان هؤلاء من ارسوا بداية البناء التقليدي لمساكنهم، واذا عدنا إلى التاريخ القديم، والى صفحات الماضي، نرى ان اول من بنى بيت التراث، هو مطر بن سعيد بن مزينة في عام 1890، وكان حينها مكوناً من حجرتين للنوم تطلان على حوشٍ فسيح، ثم اتسع البناء، ليضم بعد ذلك عدداً من الحجرات الصغيرة المشيدة من جريد النخيل، وفي عام 1910 انتقلت ملكية البيت، إلى أحمد بن دلموك، من أشهر تجار اللؤلؤ في دبي واحد الشخصيات المهمة في المجتمع، والذي قام بتوسعة مساحة البيت، وأضاف عدة غرف في الجهتين الشمالية والغربية، ليأخذ البيت شكلا جديدا، الا انه لم يخرج عن نمطه القديم، وفي عام 1920 وكما ذكر بعض الشهود على هذه المرحلة، ان ابن دلموك أهدى البيت لسعيد بن حمدان والبعض قال انه بيع.

واستمرت ملكيته حتى عام 1935، وبعده جاء إبراهيم السيد عبدالله، الذي اشتراه، وهو الذي أضفى على البيت صبغة جديدة بإعادة تصميمه وهندسته، من خلال بنّائين مهرة استخدموا مواد جيدة في البناء وعناصر تجميلية ونقوشاً من الجص، وعملوا على تغيير مكونات البيت وأجزائه المختلفة حتى اصبح على الشكل الذي نشاهده اليوم، وهو البيت التقليدي للأسرة، والذي ما زال محتفظا بكل ادواته وفرشه وهناك مجسمات لأفراد كما هو حاضر في غرفة العروس، وبمعنى اخر ان قصة بيت عمره 117 عاماً تحول من حجرتين مشيدتين من جريد النخيل إلى مزار أثري يخطف القلوب والأبصار، ويرسم قصة تاريخ وتطور حياة، كما يجسد بتقسيماته المتنوعة نموذجاً حياً للبيت التقليدي للأسرة الإماراتية، مراعياً خصوصيتَها وعاداتِها الإسلامية.

تقاسم البيت

وتضيف أمينة الغفاري قائلة: من هنا يبدأ المجلس الرئيسي الذي يعد أهم وأوسع غرفة في البيت، وهو المكان الذي يستقبل فيه الضيوف والزوار والمسافرين، سواء كانوا من داخل الدولة أو خارجها، ويقع المجلس ويوجد عند المدخل الرئيسي للمنزل ويطل على الخارج لمراعاة خصوصية الأسرة وعاداتها الإسلامية، وهو معزول تماماً عن بقية الأجزاء الداخلية للمنزل، ولا يربطه بها إلا باب صغير خصص لخدمة الضيوف، وقد تم تجهيز المجلس بالسجاد الفارسي الفاخر، والمطارح والمساند المزخرفة (التكى).

فيما خصص ركن منه لأدوات القهوة وتحضيرها، وتزين جدرانه بلوحات قرآنية وانواع مختلفة من الأسلحة كالبنادق والسيوف والخناجر، ومن ضمن تقاسيم البيت التراثي مجلس النساء، وهو عبارة عن قاعة لاستقبال النساء من الأقارب ونساء الجيران والصديقات، والنساء المرافقات للمسافرين، وتبيت النساء في مجلس الحريم، الذي يطل بشرفاته ونوافذه على فناء المنزل الداخلي، وهو معزول تماماً عن الخارج (السكيك)، ولا يسمح للرجال بدخوله حتى ولو كانوا من أفراد الأسرة عدا الصبية والأطفال.

فناء البيت

يعد الفناء القاسمَ المشتركَ في بناء وتشكيل البيوت التقليدية في منطقة الخليج بوجه عام، حيث لا يخلو منه أي منزل، ويعتبر المتنفس والرئةَ لكل مرافق المسكن من غرف معيشة وغرف خدمات وأروقة، وتفتح جميع الأبواب والنوافذ على الحوش، ما عدا الفتحات الخاصة بمجلس الضيوف، فهي تطل على الخارج، والحوش مفتوح على الفضاء الخارجي، ويوفر الإنارة الطبيعية نهاراً لجميع غرف المنزل ومرافقه، كما يوفر التهوية اللازمة لأقسام المنزل، ويجعل أجواءها صحية بالقدر المطلوب، حيث يتميز الحوش باتساعه ورحابته فهو حديقة المنزل وتزرع فيه أشجار النخيل واللوز والسدر.

ويعد مكاناً مناسباً للهو الأطفال وممارساتهم الألعاب الشعبية، كما يحتوي على غرفة المعيشة الرئيسية، وتستخدم طوال العام، حيث يجتمع فيها أفراد الأسرة للجلوس والأكل، وتحوي مستلزماتهم الرئيسية من ملابس وعطور ومجوهرات، ويضم بيت التراث ضمن حجراته (المخزن) وهو عبارة عن حجرتين لتخزين المؤن السنوية، والمطبخ بالإضافة إلى بئر الماء (الخريجة) وهي بئر للماء المالح ويستخدم في غسل الأواني والصحون، أما الماء العذب فكان يجلبه بائع الماء (المروي) من الآبار العذبة في جرار كبيرة يحملها البعير.

 لوحة تشكيلية من العمارة التقليدية

الزائر الى منطقة الراس، يخيل له انه يدخل منطقة تجارية، من شدة الازدحام في شوارعها، وهي وان كانت كذلك، الا ان المتوغل في داخل احيائها القديمة، سوف يجد نفسه، امام لوحة تراثية تشابكت وتمازجت بها العمارة التقليدية، المتمثلة في بيت التراث البديع، وفي الهندسة المعمارية ذات النقوش الاسلامية، وهذه تتمثل بالمدرسة الاحمدية العريقة، وكلما توغلت اكثر وتمعنت في محلاتها التجارية، لوجدت بانها مطلية بالجص، وكتابة يافطاتها زينت بالحروف العربية الاسلامية، اننا امام مشهد يحكي تاريخا اصيلا في امارة دبي، التي اصبحت متاحفها ومواقعها التاريخية والتراثية، مزار المواطنين والمقيمين والوافدين والسياح الأجانب، الذين يزورون متحف دبي، قرية التراث بالشندغة، وبيت التراث، والمدرسة الاحمدية في منطقة الراس، والمنطقة يعود تاريخها إلى عام 1841، حسب ما ذكره المؤرخون.

وهي صاحبة الإطلالة المباشرة على الخور التي جعلتها من أشهر المناطق السياحية في دبي، وتضم منطقة الراس المدرسة الأحمدية، ومسجد بن لوتاه اللذين يمثلان مركز المنطقة وواسطة عقدها، من حيث النمط المعماري الهندسي الفريد، وكذلك تلك المباني التقليدية لكبار التجار، مثل بيت بن دلموك، وبيت الحاي، وبيت الشاعر العقلي، وبيت التراث وغيرها، هي اليوم معلم سياحي، ومحط أنظار المهتمين بالتراث، كما عرفت في المنطقة اشهر الأسواق التي اصبحت من معالمها.

ومن الأسواق الشهيرة المستمرة حتى يومنا، سوق مرشد وسوق نايف وسوق الذهب والسوق الكبير في منطقة ديرة، الذي شيد في عام 1850 ويمثل جزءاً من المركز التاريخي للمدينة، ويطل بواجهة عريضة على الضفة الشمالية لخور دبي الشهير، ومحال تجارية من الدكاكين التي تبيع السجاد والمنسوجات والأدوات المنزلية إلى جانب البهارات والأعشاب الطبيعية، ان إحياء منطقة الراس القديمة، قد اعيد ترميمها بالشكل الذي لا يغير من معالمها واشكالها الهندسية، فقد كان الترميم للحفاظ على المباني التقليدية المحيطة بالمدرسة الأحمدية مع المحافظة على الملامح التخطيطية العامة للمنطقة التقليدية، ومراعاة التكوين التصميمي للأزقة «السكيك» التقليدي، والحفاظ على النسب الفراغية من حوله.

غرفة العروس

 

من أهم الغرف التي يحتويها بيت التراث، غرفة العروس «الحجلة»، حيث تعد النسوة ممن لهن خبرة ودراية في «الزهبة»، وهي تحضير غرفة العروس وملابسها وزينتها، قبل موعد الزفاف بأيام قليلة، ويفرشن الغرف بالمطارح «الدواشق»، والمساند المزركشة، وتعلق بعض المرايا والزينة على الجدران، وتفرش أرضية الغرفة بالسجاد الفارسي، فوق طبقة من الحصير، كما تتضمن الغرفة الأثاث وصندوق «الزهبة» وكل ما يهم العروسة، من ملابس ودخون وعطور، وقد تم إعداد هذه الغرفة، بالشكل الذي كانت عليه منذ تلك الفترة.