«لك الحمدُ يا ربي» ثناء نهل من مِداد كوني لا ينفد

في ابتهالية شعرية ربانية، زادها الحمد والثناء ونهلت من بحر الشكر لعطاءات نِعم الله، ومدادها الكوني الذي لا ينفد، جاءت يوم أمس ابتهالية »لك الحمدُ يا ربي«، لصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، وفق دالية شعرية، جمعت فرادة النظم، وعمق الأسلوب.

وانسيابية الشعر، فكانت هذه الابتهالية الشعرية لؤلؤة فريدة، ضمن لآلئ ابتهاليات خاصة، جادت بها قريحة سموه الرمضانية، اتحفت سُمّاره، وصيادي الدرر الشعرية، وما يحفل به بحر القريض الزاخر من أفكار وخيال وتهويمات لا ساحل لها.

تناص شعري

وكما الشعر صوتُ الروح، والكلمات رسولها، حمل هذا النص الشعري، يقيناً راسخاً بعظمة الخالق، تجلت قدرته تعالى، ومنْ جوده الجودُ المضاعفُ والمَدُّ، كتب مطلعها، وفق توجه مباشر استدعى صفات من يستحق الحمد والثناء، بمدده ومداده يجود، فلا يدركُ له علو ولا شان..

واختار رويها دالياً، فكان موفقاً في ذلك الإيقاع الذي يتركه هذا الحرف في حالة الضم، يستجيب له السامع فيسرح مع المعنى في ملكوت الله، وجاء تكرر الكلمات لتأكيد ذلك المعنى، مثل »لكَ الحمدُ..« و»لكَ العزُّ والمجدُ«، وفي تناص شعري تشبه قصيدة صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد ابتهالية الشاعر شرف الدين محمد بن سعيد البوصيري، التي يقول فيها:

إلهي عَلَى كلِّ الأمورِ لَكَ الحمْدُ

فليس لما أوليت من نعمٍ حدُّ

لك الأمرُ من قبل الزمانِ وبعدهِ

ومالكَ قبلٌ كالزمانِ ولا بعدُ

بديع التجانس

يوظف في ثنائه حمولات عديدة، ومن ذلك هذا البيت، الذي وظف الآية القرآنية في سورة الكهف:»قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً«، ويقتبس من بلاغة القرآن في صورها وبديع تجانس ألفاظها، مثل ما ورد في كلمتي »مداد« و»مدد«، حيث تعني الأولى السائل الذي يُكتب به ويقال له حِبر، وتعني الثانية العون والغَوْث، ويقول صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد في »لك الحمدُ يا ربي«:

وما المَدُّ إلاَّ منهُ جوداً ورحمةً

فمنْ جودهِ الجودُ المضاعفُ والمَدُّ

في الحمد والثناء العديد من القصائد الشعرية، لأنها باب من أبواب الفضائل التي يحب ولوجها العارفون، لما فيها من فضل وخير، ووعد بالزيادة الربانية المضمونة، فالشكر خصلة فريدة من خصال الأنبياء والصالحين على مر الدهور، يجدون فيها سعة من الله، على نعمه التي أسبغها ظاهرة وباطنة على عباده، فحق له الشكر والحمد، كما من فضل هذا الباب ترغيبه، جلت وحدانيته للشاكرين، فالله يحب الشاكرين، ويحب المتدثرين بالثناء، ومن ما يأتي به المقام في هذا الباب أبيات للإمام والخليفة الراشد علي بن أبي طالب، يقول فيها:

لك الحمد يا ذا الجود والمجد والعلا

تباركت تعطي من تشاء وتمنع

إلهي وخلاقي وحرزي وموئلي

إليك لدى الإعسار واليسر أفزع

إلهي لئن جلت وجمَّت خطيئتي

فعفوك عن ذنبي أجل وأوسع

منهاج قويم

في رحاب ملكوت الله وعليائه، يختار سموه في ابتهاليته صنوف الصور، التي تمد حبال الوصل مع الله، يثبت العهد وفق منهاج قويم، هو الكتاب البين والملة الغراء، والتي يهتدي بها الناس إذا زاغوا عن درب الحق السديد:

لهُ العهدُ منِّي أنْ أوَحِّدَ ذكرهُ

بتوحيدهِ ما عشتُ قدْ ثَبَتَ العهدُ

لكَ الحمدُ ربيِّ عنْ كتابٍ وملَّةٍ

بها يهتدي إنْ زاغَ عنْ نَهجهِ العَبْدُ

وحدة موضوعية

وفي استخدامه لكلمة »زاغ« براعة واستحضار شعري، في تقديم الصورة المناسبة في سياقها ومكانها، وهي أيضاً من المعين القرآني المبارك وبلاغته الخالدة، ووظفت دوماً في آياته للدلالة على نفس المعنى، حيث البعد عن طريق الهداية والرشاد. كما عزز سموه في الأبيات اللاحقة بناءه الأساسي ووحدة القصيدة الموضوعية، فجاء توارد الخواطر والأفكار ليدعم فكرة الثناء والحمد، التي تتكرر وفق متوالية انبنى عليها النص:

لكَ الحمدُ والشُّكْرُ المضاعفُ كُلَّما

بدا شارقٌ يا منْ لهُ الحَلٌ والعَقْدُ

عليكَ رجائي واتِّكالي ومرجعي

أبوءُ بذنبي حينما الأمرُ يشتدُ

فهو الله ومن علا عنِ الوصف، جل جلاله ومن لا شيءَ يدركُه، كما جاء في قصيدة الشاعر لسان الدين بن الخطيب، التي يقول فيها:

الحمدُ لله مَوْصُولا كما وجبا

فهو الذي برداء العِزّة احْتَجَبا

الباطِن الظّاهرِ الحق الذي عَجَزَتْ

عنه المدارِكُ لما أمْعَنَتْ طَلَبا

متانة السبك

والقارئ لقصيدة »لك الحمدُ يا ربي« يدرك ما لهذه الابتهالية من متانة في السبك، ورشاقة في الأسلوب، انتهجت خاصية ابتهاليات الحمد، التي خطها أساطين هذا الفن، ويحفل به من رجاء بين يدي الله وتلذذ بمناجاته وشكره، وهذا الشاعر عبد الرحمن البرعي، الذي ترك تراثه الشعري مقطوعات وقصائد من أجمل وأعذب الأشعار في فن الابتهالات يقول في إحدى قصائده:

لكَ الحمدُ حمداً نستلذُّ به ذكراً

وإن كنتُ لا أحصي ثناءً ولا شكرا

لكَ الحمدُ حمداً طيباً يملا السما

وأقطارها والأرضَ والبرَّ والبحرا

وهذا صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، كما عودنا في أشعاره عموماً وفي ابتهالاته الرمضانية شاعراً أريباً قريباً، يختار من الألفاظ أجملها ومن الأفكار أبهاها، تحركه أحاسيسه الشعرية المرهفة وفطرته الإيمانية العميقة، يقف بها عند باب الله، وكفى به وكيلاً:

فلاَ تُبعدنِّي عنكَ يا سامعَ الدُعا

إليكَ مفَرِّي منكَ نَحوَكَ أرتَدُّ

فكنْ لي مُجيراً أنتَ حَسبي وليسَ لي

سوىَ بابكَ المفتوح إنْ جَهِدَ الجُهدُ

وما عملي إلاَّ بتوحيدِ خالقي

كفاني إيماني بهِ وكفىَ الحمدُ

ومنْ يَتَّكلْ يلقَ التَّوَكُلَ عِصمَة

ومنْ يتواكلْ فاتَهُ الخيرُ والوَعدُ

الأكثر مشاركة