لم تزد الأعوام السبعة والعشرون على رحيل الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، طيّب الله ثراه، إلا رسوخاً في سجل القادة العظماء، الذين تعيش أوطانهم قروناً بفضل إنجازاتهم وما حققوه لمواطنيهم.
قليلون هم أولئك القادة الذين يُخلدهم التاريخ بالنظر للأثر الذي تركوه في رفعة أوطانهم وسعادة شعوبهم، ومن هؤلاء العظماء الذين بنوا أمة حققت في جيل واحد ما لم تحققه أمم أخرى في قرن من الزمان، الشيخ زايد والشيخ راشد اللذين قدما نموذجاً تفخر به الأجيال بعدهم.
السابع من أكتوبر، يصادف يوم رحيل راشد عن هذه الدنيا جسداً وخلوده فيها روحاً وإنجازاً وعطاءً، لم يعرف راشد من مُتع الدنيا إلا سعادته بما كان يستمتع في أيامه بخدمة شعبه ونهضة وطنه.
هذه السطور ليست لسرد أعماله وإنجازاته، وما أكثرها وما أعظمها. والتي هي بالتأكيد بحاجة إلى دراسات مستفيضة تحلل عظمة هذه الشخصية القيادية وصفاتها الاستثنائية.
لكن يكفي الشيخ راشد أنه مع أخيه المغفور له الشيخ زايد قد بنيا هذا الكيان الوطني الرائع، والنموذج الاتحادي الأنجح في عالمنا العربي. من الضروري أن يعرف الجميع وخاصة أبناء هذا الجيل الذين لم يدركوا البدايات، أوضاع بلادهم وظروفها قبل أن يبني زايد وراشد هذا الصرح الحضاري والإنساني العظيم، ومن الضروري أن يعرفوا كيف تحقق ذلك الإنجاز العظيم. من الضروري.
كذلك، أن يدرك أبناء الوطن أن ما ينعمون به من خيرات، ويتمتعون من ثمرات، لم يكن ليتحقق لولا فضل الله، ثم بنية صادقة، وجهود مُضنية، وحكمة بالغة، بذلها القادة المؤسسون في سنوات ما قبل الاتحاد وفي سنوات التأسيس والبناء والتنمية.
يدرك المعاصرون لتلك الحقبة أن طريق البناء كان مليئاً بالصعاب والتحديات، بل واعتبر كثيرون أن حلم الدولة الاتحادية كان في عداد المستحيلات، وتنبأ هؤلاء -حتى بعد قيامها- بأنها لا محالة إلى التفكك والزوال! ولكن أحلام القادة المؤسسين وعزيمتهم كانت أكبر وأقوى من تلك التحديات. ويكفي أن يشير المرء بكل فخر واعتزاز بأن هذه الدولة التي بناها المؤسسون ويرعاها القادة الحاليون أصبحت نموذجاً لمشروع عربي، بل وعالمي ناجح. لا نجد لها نظيراً في منطقتنا.
وأصبح هذا المشروع الناجح والقائم على هذه الأرض نموذجاً ملهماً للشباب العربي، وذلك بالنظر إلى تميزه وإبداعه، وإمكاناته الإنسانية الجاذبة للبشر من جميع العالم، حيث التطور الحضاري والرخاء الاقتصادي، والتعايش والتسامح والسعادة الإنسانية.
وإذا نظرنا إلى دور الشيخ راشد في بناء دبي الحديثة، فتلك قصة ملهمة أخرى، وما نشاهده اليوم من تحول هذه المدينة الرائعة إلى نموذج يُحتذى بها عالمياً، لم يكن ليتحقق لولا الرؤية التي امتلكها راشد لإمارته ومستقبلها.
والأمثلة والشواهد على ما قام به في سنوات حكمه الممتدة من 1958 إلى 1990 تبعث على الإعجاب والتقدير. حيث لا مجال للصدفة والعشوائية في قراراته ومبادراته، بل هي مرتبطة بالحاجة إليها، وأهميتها في صناعة حاضر المدينة ومستقبلها.
وكانت مشاريعه تدل على بصيرة نافذة، وخطط مدروسة، ومنهج عمل، فيه درجة عالية من الجدية والمتابعة والالتزام. فمن تعميق خور دبي للسماح بمرور البواخر الكبيرة، إلى المنطقة الحرة بجبل على والميناء العالمي فيه والبنية الأساسية الراقية، كانت كلها مرافق ضرورية لنجاح أي مدينة تسعى للتميز في خدماتها.
أسلوب الشيخ راشد في الإدارة مدرسة في حد ذاتها، حيث تنعدم البيروقراطية، ويتخذ قراراته الرئيسة بالتشاور مع أهل الخبرة والاختصاص ومع قطاع الأعمال ورجاله الذين وفر لهم راشد مناخاً مريحاً ومشجعاً لممارسة الأعمال وتنفيذ المشاريع. وهذا الأمر من أسرار دبي في نجاح القطاع الخاص فيها، بل وحيويته وإسهامه في مسيرة التنمية.
وبذلك أصبح القطاع الخاص شريكاً مهماً ورئيساً للحكومة في دفع عجلة التميز في الإمارة ووصولها إلى العالمية في كل المجالات. إن ما تراه اليوم في دبي هو رؤية وضعت منذ ثلاثة أرباع القرن، والآن يضع ابن الشيخ راشد، صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد رؤية مشرقة لهذا الوطن في استمرار لذلك النهج المبارك.
هذا هو إرث راشد الحقيقي؛ استمرارية في القيادة على نهجه مع طاقات وقدرات ورؤية تناسب عصرنا وتحدياته، ورؤية لا تعرف المستحيل وتسابق الزمن وتحقق ريادة المستقبل، لذلك نحن كشعب نملك القدرة على القول إن قادتنا مازالوا بيننا أحياءً في أبنائهم، خلفاؤهم الذين يسيرون على نهجهم، فنحن دولة لا تعرف الانقطاع في القيادة، بل تعرف فقط الاستمرار المتصاعد، والتقدم المستمر. في هذا اليوم، نذكر الشيخ راشد، ونذكر أعماله الجليلة، وبصماته الخيّرة، وآثاره الخالدة، رحمه الله وجزاه عن شعبه خير الجزاء.