نشر صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، على حسابه في موقع إنستغرام، أمس، قصيدة جديدة لسموه بعنوان «ما تاب»، حفلت بالمعاني والدلالات التي تحثنا على ضرورة التمسك بالمبادئ والقيم..
وعدم التفريط بالصدق والصداقة، مشيراً سموه في مضامين أبياتها، إلى قيمة الصديق الصدوق وأهمية أن نحرص على أن نقابل الخير بمثله، ولا أن نرده بأفعال سيئة، ذلك كما يفعل كثيرون في وقتنا الحالي. كما شدد سموه في رائعته الشعرية، وفي الوقت نفسه، على أن البعض محال أن يغيّر ويكون في مسار سوي في هذا الخصوص، ذلك لأن طبعه يشده نحو اقتراف الغدر والشرور، مهما فعلنا معه من جميل ومهما قدمنا له من عون ومساندة.
وتبدو قصيدة سموه الجديدة، مفعمة بالحكم والمواعظ.. ومضمخة بالعبر التي توجهنا إلى كيفية التعامل الأمثل مع من لا يحفظون الود. إلا أنها تبقى، أيضاً، وفي الأساس، بمثابة بوح شاعري مؤثر يبثه شاعر نبيل، طالما اعتاد وحرص على أن يكون وفياً لأصدقائه ومحباً لمن حوله، حتى ولو كان بعضهم لا يصون هذا الود أو يقدر قيمته ويقابله بالفعل الحميد.
سيدي صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، من الصعب أن يقترب أحد منك ليشبهك في جانب من جوانبك، أو أن يقترب ليختبر قدراتك، فأنت أنت وليس يشبهك إلا أنت.
في قصائدك يا سيدي فيما مضى، كنا نقرأ بيتاً واحداً من هذا النوع من القريض، لكنني اليوم أجد نفسي أمام قصيدة تكاد تكون أبياتها كلها متشابهة في سبكها ورصد كلماتها كأنها خرزات «المسباح....؟»، وكل بيت بالطبع له مدلول مختلف عن البيت الآخر، وإن كان كل بيت يتخذ حرفاً من حروف الهجاء محوراً له ليصنع منه فعلاً ماضياً وربما مضارعاً أيضاً ومصدراً واسم فاعل وصيغ مبالغة ومصدراً ميمياً واسم مفعول وجمع تكسير وفعلاً مضعّفاً ..وهكذا.
والقصيدة هذه ذكّرتني بالأبيات التي حفّظني إياها والدي في طفولتي، وكان رحمه الله، يستشهد بها في المحافل إذا أراد أن يفحم أحداً أو أراد أن يطلب منه فهماً تعجيزياً، وهي:
كفاك ربك كـــــم يكفيك واكفة
كفـــــكافها ككمين كان مــــن كلــــكا
تكر كرا ككرّ الكــرّ في كبد
تحكي مشكشكة كانت لك اللككا
كفاك ما بي كفاك الكاف كربته
يا كوكــباً كان يحكي كوكـــــب الفلكا
هذه الأبيات حوت أربعين كافاً. وتعود قصتها إلى أن والياً أمر باستدعاء أحد الشعراء وإيداعه في الحبس، فبقي هذا الشاعر مدة من الزمن في السجن حتى ضاقت عليه نفسه وألقت الكآبة على حياته ظلال اليأس من الحياة .
فبعث إلى الوالي كتاباً يستنجده فيه ويطلب منه الصفح والعفو، فأمر الوالي الجند بإحضاره مصفّداً، حتى إذا مثُلَ بين يدي الوالي قال له الوالي : اسمع إني لا أخرجك من السجن حتى تنظم لي ثلاثة أبيات فيها أربعون كافاً، فإن فعلت ذلك أطلقتُ سراحك، وإلا بقيت في السجن حتى يخلّصنا عزرائيل من روحك. فما رأيك ؟
قال الرجل في نفسه : أربعون كافاً في ثلاثة أبيات طلب قاس جداً لكنه مقابل الحرية والخروج من السجن، فمضى وهو يقول في نفسه :
وإذا كانت النفوس كباراً
تعبت في مرادها الأجسام
ففكر الرجل ثم فكر، ثم ارتجل هذه الأبيات الثلاثة التي ذكرناها، وهي بمجملها تعني:
أيها الوالي يكفيك أن معك رب العالمين الذي يكفيك من المصائب والمحن. وإنك إن عفوت عني، فإنك ستهدي إلى نفسك معروفاً، وإنك ستنال أجر ما صنعت بي وهو العفو.
ويكفيك أيضاً أن ما بي من كربة فإنك إن فرﱠجتها فإن الكافي هو الله سبحانه سيفرج عنك كربتك. وفي النهاية، أراد أن يرفعه عالياً فشبهه بالقمر.
ارتباط وقيمة
وأما قصيدة الشاعر الكبير صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، التي بعنوان «ما تاب»، فتوحي إليّ بأن لها علاقة بقصيدة سابقة، وقد كانت بعنوان «مشبهك»، اقرأوا معي :
شبت وشاب القلب م اللي شبابه
شب بحشايه من لظى الشوق شبّاب
إمعذبني غير عذب عذابه
وأعذب عذابي من ثناياه لعذاب
روحي وروحه واحده في تشابه
متشابهه والشبه للشبه جذاب
صوّب وصوّبني بصايب مصابه
مصيوب من عينه ورمشه والأهداب
وكتبت له مكتوب كاتب كتابه
أن هوّه لي مكتوب لأجلي في لكتاب
به مكتفي وكافي كفاني مثابه
وبه الكفايه عن محبين وأحباب
لو أمعنت في ثنايا هذه الأبيات، ثم قرأت أبيات قصيدة «مشبهك» :
أذكرك في نفسي من أعوام وأعوام
يا ليت تذكرني ف نفسك دقيقة
بي شوق منك يزلزل الروح هدام
حتى الجبل من شدته ما يطيقه
وأنا بشر عندي أحاسيس وأحلام
لو بي عزوم ترى المشاعر رقيقة
لو قرأت هذه القصيدة وتلك، لوجدت أن الصور متشابهة، فالشاعر في قصيدة «مشبهك» منصدم أو مصدوم من الذي حصل فجأة وفرق بينه وبين صاحبه، في حين أنهما كانا كالجسد الواحد قريبين من بعض، وبالرغم من الفراق القسري فإنه لا يزال يحمل في داخله حب الصديق الذي جفا صديقه الشاعر.
معزة دائمة
وإني ألاحظ أن القصيدة الجديدة هذه تكاد تعبر عن المعنى نفسه، فالشاعر يرى أن النفس أو العمر رغم أنه تقدم وأيام الوصال مضت وانقضت، إلا أن القلب ما زال الحب فيه أخضر ويشتاق لصاحبه أو صديقه كما كان في الماضي. ويعتقد الشاعر أن كليهما يشعر هذا الشعور رغم تباعد الأجسام، فالقلوب لم تتباعد، وكل منها ينتظر صاحبه الآن أن يبدأ بالتصالح، ثم يقول سيدي صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم:
والطيف لي طايف يطوف هلا به
يا طايف الأطياف لك طيف مرتاب
وما كان في اللي كان كاين حسابه
من كون كوّنته وتكون بلا حساب
أطيب من أطيب طيب طاب بمطابه
طيبه بليا طيب به تطيب الأطياب
سري وسره سر ما ينحكي به
إبره ف ظلام اليل في بحر عباب
ومن غالب المغلوب يغلب غلابه
ومن غالب الغلاب يغلبه غلاب
ظبي يقود السرب وأتبع سرابه
يبعـد وأنا له كلما لاح طلاب
يا هاجري هجرك هجير ومهابه
ومن حر هجرك هاجري ذقت الأنشاب
أرويتني منك الريا يرتيا به
وما أرويتني والري في إيديك سكاب
محجوب عني في خدور بحجابه
متخدر في خدور وتخدر أعصاب
وفي هذه الأبيات، يصف الشاعر حاله مع صاحبه. والله أعلم، أنه لم ينسه ولا يزال يمر في خياله، ولكنه يظل يشك هل هذا الشخص الذي كانت له في قلبي مثل هذه المعزة، هل هو نفسه الذي صدر منه ما كدر الخاطر وعكر صفو المشاعر.
على كل، حصل منه ما حصل وما أظن أنه فكر يوماً ما أنه يتحول إلى جرح عميق يصعب علاجه، وكيف صدر منه مثل هذا الفعل وهو من هو ؟ كانت بيننا أسرار وكل واحد منا كان الحصن الحصين لصاحبه.
لكن يبدو أنه ما حسب حسابه وغلب هواه بدلاً عن عقله، ولم يفكر أن الذي مكّنه من قلبه ليس بإنسان عادي، وكان من واجبه أن يعرف أن البحر بحر مهما يكن هو سباحاً ماهراً فإن أهوال البحر تغلب شجاعة الأشجع.
عتاب وأسباب
على كل، فإن الشاعر رغم عتابه للصديق المجافي فإنه يجد في نفسه من حر الشوق ما لا يطيقه، ويعاتبه أكثر عندما يعتقد أنه كان بإمكانه أن لا يتسبب في هذه القطيعة، وأنه لو اتبع أسلوب الأدب والاحترام وحفظ المقام، وعدم التعدي على حِمى الحكام لكان أفضل.
ويقول الشاعر بعد ذلك :
ولي غاب عني غايب الغيب جابه
ومن عقب غيبه وغيبته دق على الباب
باجيه بطحا سيل هادر عبــابه
وبطويه طيه ما طووها هل الناب
وبابيع نفسي والعمر في طلابه
ومن باع نفسه هان له قطع لرقاب
لا تعتذر عذرك ما يعذر ولا به
سبب على بعدك تسبب لك أسباب
طبعك ما يتغير وما من غرابه
وما هي غريبه أن تسمع للأغراب
قالوا يموت اللي يجر الربابه
وأصابعه تلعب على القوس ما تاب
نعم .. غاب صاحبنا عن الشاعر وانقطع، لكنه ما استطاع أن يعيش من غير صديقه الشاعر، فبقي يصبح ويمسي ويشرّق ويغرّب وهو يقول في نفسه :
يا من يعز علينا أن نفارقهم
وجداننا كل شيء بعدكم عدم
فقرر عندئذ أن يعود إليه منكسراً متذللاً متندماً، واقفاً بالباب لعل الشاعر الصديق يرق لحاله.
وبالفعل، نظر الشاعر إليه ولكن بما أنه يعرف صاحبه وخبير بتصرفاته وتقلباته، فإنه لم يستطع أن ينسى ما صدر منه أو أن يغفر له زلته، فقال له بشكل صريح: ومن الذي يضمن لي أنك صرت الآن تحفظ الود والعهد ولا تعود إلى طبعك.
وذكّره بمثل شعبي جميل، وهو أن راعي الربابة يموت ويديه على أوتار الربابة، أو يموت المغني ويده على الوتر من شدة تأثره بالعزف على العود، وهذا المثل يشبه المثل الذي يقول: تموت الدجاجة وعينها في السبوس.
خلاصة القول، إن صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم في هذه القصيدة، يغوص في الأعماق، فينبغي أن لا يغتر قليل البضاعة مثلي فيقول: أدركت ما قصده سموه بهذه القصيدة، وما أدراك، لعله يقصد شخصاً معيناً أو يقصد أشخاصاً، ولكنه في كلتا الحالتين يذكر المعني بأسلوب التورية.
لأنه لا يريد أن يضحي بأصدقائه ومن عاشوا معه منذ الطفولة، فهو إن عاتب أو كشف عن بعض تلك الأسرار، فلأنه مندهش ومصدوم مما حصل، ويحصل من أناس يقربهم ويمكنهم ويغدق عليهم حتى الشبع، وبعضهم يوصلهم إلى أعلى المناصب ظناً منه بأنهم أهلٌ لتلك المناصب.
وسرعان ما ينكشف له أن الطبع يغلب التطبع، ومما ذُكر في مساوئ اصطناع المعروف أن قوماً ما خرجوا لصيد فطردوا ضبعة حتى ألجأوها إلى خباء أعرابي فأجارها، وجعل يطعمها ويسقيها، وبينما هو نائم ذات يوم إذ وثبت عليه فبقرت بطنه وهربت، فجاء ابن عمه يطلبه فوجده ملقيا فتبعها حتى قتلها وأنشد يقول:
ومن يصنع المعروف في غير أهله
يلاقي كما لاقى مجير أم عامر
أعد له لما استجارت ببيته
أحاليب ألبان اللقاح الدوائر
وأسمنها حتى إذا ما تمكنت
فرتــه بأنياب لها وأظافر
فقل لذوي المعروف هذا جزاء من
يجود بمعروف على غير شاكر
شكراً سيدي صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم؛ فمنك نتعلم حسن انتقاء الأخبار، ومنك نتعلم أيضاً طريقة استخدام الحزم مع الأشرار، فمن أمن العقوبة أساء الأدب.