(كتابُ زايدْ): سِفْرٌ شِعريٌّ ثمينٌ مِنْ أروع القصائد التي خلّدتْ ذكرى المغفور له الشيخ زايد بن سُلطان آل نهيان، رحمه الله، صانعِ مَجد الإمارات، وباني الوطن، والمرتقي به إلى الذُّرى العالية في التقدّم والأمان والكرامة، كتبه صاحبُ السموّ، فارسُ السيف والقلم، الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء حاكم دُبيّ رعاه الله، تعبيراً عن أعمق معاني الوفاء والانتماء للشيخ زايد:
إنساناً وقائداً ومُلْهِماً، وبدراً طالعاً في سماء المجد، وروحاً نقيّةً تركتْ أعظمَ الآثار والذكريات التي لا تزدادُ مع مرور الأيام إلا تَوهُّجاً وإلهاماً (وفي الليلة الظَّلْماء يُفْتَقدُ البَدْرُ).
وهو سِفْرٌ بديعٌ يشتملُ على سبعٍ وثمانينَ قصيدةً هي عُمرُ الشيخ زايد رحمه الله، الذي عاش سبعة وثمانين عاماً فيّاضةً بالحُبِّ والخير والعطاء، وكانت منذورةً في سبيل مجد الإمارات والعرب والمسلمين والإنسانية بمعناها الشامل، ضارباً بذلك أروع الأمثلة في القيادة الرشيدة، والنزاهة الروحية، والسماحة الأخلاقية، والتخلّق بأزكى المناقب والشمائل التي هي جوهرُ الفروسية والحكمة.
و(كتابُ زايدْ) أيضاً هو تعبيرٌ عن حفاوة القلب بالقلب، وبقدر ما هو حفاوةٌ بالراحل الجليل فهو المرآة الصادقة الدالّةُ على أخلاق صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد الذي جعل من قلبه عرشاً لشيخه لا يغادره.
ولا يسمح لِطَيْفِ النسيان أن يقترب من حِماه، فهو دائم الذكرى لشيخه ومُلْهمه، وأبيه الروحي والمعنوي الذي لم يفتخر بأحدٍ افتخاره بهذه الأبوّة الفريدة، مع خفضِ الجناح، والإنصات بسَمْعِ القلب والروح لتعاليم أُستاذهِ، شأنَ الولد البارّ والمريد المُحبّ لمنهج شيخهِ في بناء الوطن والزَّهوِ بإنجازاته.
وببصيرةٍ نافذة، وإحساسٍ شعريٍّ مُرهف، يفتتح صاحب السموّ هذا الديوانَ الفخم ببيت من الشعر يُلخّص كل شيءٍ حين يقول:
لمْ يكُنْ زايدْ فينا واحداً
بلْ هو الأُمّةُ حينَ النُّوَبِ.
ولا أظنُّ أنّ أحداً من القُرّاء يخفى عليه أنّ هذا البيت البديع هو استلهامٌ ذكيٌّ لتلك الأبيات الخالدة التي قالها الشاعر عَبدةُ بن الطبيب في رثاء قيس بن عاصم سيّد بني تميم والتي اعتبرها النقاد أفضل ما قيل في الرثاء والثناء على الرجال الراحلين:
عليك سلامُ الله قيس بنَ عاصمٍ
ورحمتُهُ ما شاءَ أنْ يترحّما
تحيّةَ مَنْ أوْلَيتَهُ مِنكَ نِعمةً
إذا زار عن شحطٍ بلادَكَ سلّما
وما كان قيسٌ هُلْكُهُ هُلْكَ واحدٍ
ولكنّهُ بُنيانُ قومٍ تهدّما.
وأشهدُ أنّ الشيخ زايد رحمه الله كان أُمةً بين زعماء زمانه، فقد اجتمعت القلوب على حبّه، والاقتباس من أنوار حكمته، والانتهاء عند رأيه، فقد كانت العرب تثق بأصالته، وترى فيه شيخها الحكيم، ووجهها العربي الأصيل الذي يواجه الأوضاع بشجاعة ويسمّي الأشياء بأسمائها، لا يخذل ولا يُخلف الوعد، بل كان بحراً من بحور السماحة والكرم، ونسراً من نسور اليقظة الفطرية التي ورثها عن أجداده وآبائه الذين ارتضعوا لَبان الفروسية والحكمة.
في مئتين وستٍّ وتسعين صفحةً، كتب (بو راشد) كتاب (زايدْ) هكذا دون ألقاب، لأنّ الشيخ الجليل كان فوقَ الألقاب، وأكبر من النياشين، فإنسانيته العالية هي جوهرُ شخصيته، وحكمته العميقة هي خيط النور المتبقي من إرْثه الخالد، فهو (زايدٌ) وكفى.
وقبل الشروع في إضاءة هذه القصائد وما اشتملت عليه من اللآلئ الفريدة لا بدّ من التوقّف عند المقدّمة النثريّة التي صدّر بها صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد كتابه، وضخّ فيها من دماء وَريده كلماتٍ هي قطعةٌ من قلبه، وقبسٌ من نور رؤيته لشيخه الذي وضعه في حنايا روحه، وتغنّى بمناقبه وافتخر على غيره بقُربه منه، والجلوس بين يديه، والارتواء من منابعه الصافية في الحكمة والإدارة وكرم الأخلاق، فكانت هذه المقدمة المَهيبة الدالّة على شأن الشيخ وعلوّ مقامه في نفس بو راشد فقال:
87 عاماً غيّرت التاريخ، وكتبتْ صفحة جديدة في تاريخ الدول اسمه دولة الإمارات العربية المتحدة.
87 عاماً هو عمر زايد.. فيها عَمَّر للخير دولة، وأضاف لأعمار شعبه عمراً جديداً، عنوانه: الرخاء بعد الشدة، والراحة بعد التعب، والسعادة إلى الأبد.
87 عاماً لم يكن زايد فيها واحداً.. بل هو الأمّةُ حينَ النُّوَبِ.
87 قصيدة إلى زايد ومن أجل زايد، وفي حبّ زايدْ
لم ننساه.. ولن ننساه:
أستِظِلْ باسمْ زايِدْ كِلْ ليلِهْ
وكِلْ ليلِه في مَنامي لِهْ حُضُورْ
يا اسِمْ زايدْ لَوْ لزايدْ وسيلِهْ
لوُ دِقيقهْ بَسْ وحدهْ في الشعور ْ
ألْمِسْ إيدينِهْ وفي عيني أشيلِهْ
هوُ أبويهْ وخالي وشيخْ العصورْ
على هذه الرّقّة القلبية الباهرة، وهذا الحبّ النادر يتأسّسُ كتاب (زايد)، فهو مكتوب بحروف لا كالحروف، وبمِدادٍ لا كالمِداد، إنها حروف القلب ومِدادهُ الذي يغترف من بحر الصدق، ولن يجد القارئ عُسراً في اكتشاف هذا الفيض القلبي الذي يطبعُ جميع القصائد.
ويرتقي بها إلى مدار الصفاء النبيل الذي ينعقد بين قلوب الرجال الفرسان الذين يعشقون المناقب، ويحتفظون بالمجد في حنايا القلوب، ويؤدّونه إلى الأجيال اللاحقة كي تكون هذه القصائد مُتوناً في تاريخ الوطن، وعُقوداً في جيد الأبناء الذين لا يعرفون تضحيات البُناة وصبرهم حتى وصلوا بالبلاد إلى هذه المنازل الرفيعة بين الأمم.
من بين هذه القصائد السبع والثمانين تحتلُّ قصيدة (عام زايدْ) موقع الطليعة: معنىً ومبنىً، فهي تتصدّر الديوان، وتقع في ثمانين بيتاً هي خُلاصة الخُلاصات في الحب والوفاء والإشادة بمناقب شيخ الوطن وفارسه الجليل الشيخ زايد رحمه الله.
وقد سبق لكاتب هذه السطور أن توقّف عند هذه القصيدة وبعض القصائد الأخرى من شعر صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد في مدح الشيخ زايد رحمه الله، وأطال الوقوف عند هذه القصيدة تحديداً، نظراً لِما اشتملتْ عليه من الاحتفاء الاستثنائي بشخصية الشيخ زايد رحمه في (عام زايد) المبارك الميمون الذي جعلته الإمارات عام وفاء وتكريم وذكرى خالدة لشيخها وباني نهضتها الشيخ زايد رحمه الله، تعبيراً عن أصالتها ووفائها لقادتها، ضاربة بذلك مثالاً صادقاً للتلاحم بين أزمنة الدولة وأجيالها.
وأن الأجيال اللاحقة مَدينة بالحب والوفاء للجيل الذي أسّس وصبر وصابر حتى وصل بالبلاد إلى مرفأ الأمن والازدهار، فكان للدولة برنامجها في الاحتفاء بذكرى قائدها الجليل، وكان للشيخ محمد بن راشد برنامجه الخاص به كشاعر فارس يختزن في قلبه أعمق الذكريات لشيخه ومُلهمه وأبيه، فكتب هذه المَلحمة الشعرية الدالّة على عمق الارتباط القلبي بينهما، فضلاً عن سرد تاريخ الإمارات من خلال الإنجازات المتميزة لعهد زايد المبارك الميمون الذي كان عهد سكينة ورخاء وسلام.
ذِكرتْ زايد وابتدى الوقت يرجع
وشافت عيوني بوجه زايد مِناها
وجهِهْ مشَرّب بالشرف ما تِقنّعْ
عن حِرّ كاشف صيدته ما خطاها
لتندفع القصيدة بعد ذلك في رصد دقيق لملامح المجد في سيرة الشيخ زايد رحمه الله: بانياً للوطن، وراعياً لمسيرته، وفارساً شجاعاً لا يُشقّ له غبار، وساعياً في جمع شمل الأمة، ومؤسساً لدولة الإمارات العربية المتحدة.
وناشراً للعلم والتعليم، ومنصفاً للمرأة في حقها في الحياة اللائقة بها مع كمال الوقار والحشمة الجديرة بها، ووقوف طويل عند أخلاق الرحمة والعطاء في شخصية الشيخ زايد الذي كان أباً عطوفاً على الفقراء والمساكين والمحتاجين، لا تنام له عين ولا يهدأ له قلب حتى يطمئنّ أنّ أبناء شعبه في عافية وأمان، ولا تراه يردّ سائلاً عن سؤاله، بل يده مبسوطة بالخير والندى، ووجهه ضحّاك في السلم، عابس كالأسد في حومات النزال، قد اجتمع فيه ما تفرّق في غيره من مناقب الفرسان وكمالات الرجال.
وإن ضاقت الدنيا على الناس وسّعْ
وإن شحّت الأيام زايد كفاها
متواضعٍ للناس والربّ يرفع
لِهْ من تواضع للبشر ما إزدراها
ملاك في إنسان وأنبل وأروع
من كل رايع والروايع حواها
وإذا كانت بعض الأبيات مفتاحاً لبعض القصائد، فإنّ هذه القصيدة هي مفتاح الديوان كله، ففيها سيرة الشيخ والوطن، وفيها الحب النادر الذي تتفجر ينابيعه في قلب الشاعر، فهي لا تقرأ على أنها حروف وكلمات بل هي دفق من القلب يسطّر تاريخ الوطن من خلال شخصية قائده، ويجعل الأجيال اللاحقة ترفع رأسها بهذا القائد الهُمام الكبير الذي لن تضيع ذكراه ما دامت حروف بو راشد تسجّل أدقّ ملامح المجد والسؤدد في شخصية شيخ البلاد وحكيم الجزيرة، ذلك الرجل الذي لم يُفارق سَنن الفطرة، ومعدن البساطة والأصالة بل ظل وفيّاً لتعاليم دينه السمح، وتقاليد حياة العرب الأصيلة التي تقوم على الوفاء والعطاء والشجاعة:
صنع وطن مهيوب ما فيه مطمع
له جيش يحمي حدودها مع سماها
وزايد ما يخدع كانها الناس تخدع
وزايد ما يغدر بالعدى مِن وراها
الناس له تتبع ولأمره إتسمع
عينه ما تشبع لأجلنا من كراها
ويصعب جداً على قارئ هذا الديوان الفاخر مبنىً ومعنىً أن يغادر هذه القصيدة تحديداً، فهي أمُّ الديوان وأبوه، وسيأتي يومٌ على الأجيال الذي تحفظ فيه هذه القصيدة كما تحفظ متون العلم؛ لأنها تحكي قصة وطنهم وتاريخ مجدهم من خلال إنسانٍ أحبّهم من صميم قلبه، وبسط لهم يده، وفتح لهم ديوانه ومضاربه، ورحم صغيرهم وكبيرهم، وساعد محتاجهم، وعلّمهم كرم الأخلاق ونُبل العطاء، فكيف ينسونه وهو اللواء المرفوع لوطنهم، وكيف يتنكرون لذكراه وهو أحلى ذكرياتهم، وسراج ليلهم، وفارسهم وشيخهم، والحامل بصدق نادر لقيم الإسلام السمح سلوكاً وسياسة وعدالة:
إذا سمع لآيات له قلب يخشع
ودمعه يبلّل وجنته من بكاها
صحيح زايد كان يسجد ويركع
بس العبادة في التعامل يراها
بعد ذلك تأتي قصيدة (سيرة المجد) وهي قصيدة قد طابق اسمها معناها، فهي سيرة مجد للشيخ زايد رحمه الله، أبدع بو راشد حفظه الله في التحليق عالياً وهو يقصّ علينا سرّ ذلك الحب العجيب الذي تحمله جوانحه الطيبة لشيخه الكبير، يكاد يرقّ رقّة تقف على تخوم الدمع وهو يعبّر عن أعمق مشاعر الحب والصفاء التي تسكن قلبه تجاه شيخه.
ولولا طول القصيدة لكانت جديرة بإثبات أكبر قدر منها هنا في هذه المقالة، ولكن كما قالت العرب قديماً (يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق)، ولعلّ أروع المقاطع في هذه القصيدة ذلكم المقطع الشجي الفوّاح بعطر المحبة الذي تمّ فيه ترديد اسم الشيخ زايد كثيراً نظراً لأصالة الشعور وصدقه وغلبة العاطفة على صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد:
وزايد وداده بنى في القلب بنياني
وزايد قصيدي وأبياتي وتلحيني
وزايد أبويهْ الذي ما ارضى معهْ ثاني
وزايد عيوني وشوفي لي يدلّيني
أفديه بالروح وأولادي وأعواني
وأفديه بالعمر لي باقي من سنيني
لو توزن الخلق مع زايد بميزاني
زايد على الناس راجح في الموازيني
لينتقل صاحب السموّ بعد ذلك إلى عنوان القصيدة (سيرة المجد) ويخاطبها قائلاً:
يا سيرة المجد هل شاهدتي إنساني
يزيد زينه ومعروفه على الزيني
ويا سيرة المجد ما تبغين عنواني
يكفيك زايد عن كبار العناويني
هو الزعيم المُفدّى شيخ الاوطاني
وبلادنا به زعيمه عَ البلاديني
إنّ من أجمل ما اشتمل عليه هذا الديوان البديع (زايد) هو تلكم المواقف التي تحتفظ بروح زايد وملامح إنسانيته الرائعة، فلم يشأ صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد أن تغيب تلك الذكريات عن الأجيال اللاحقة، فاحتفظ بها، وسجّلها في ديوانه هذا الذي يصدق عليه قول العرب القدماء: (الشعر ديوان العرب).
ويعنون به أنه السجلّ الحافل الذي يحتفظ بمفاخرها وموقف رجالاتها، ولعمر الحقّ إنّ ديوان أبي راشد هو (ديوان الإمارات العربية المتحدة) بل هو (ديوان الوطن)، ففيه نجد ملامح شخصيتنا الوطنية، وفيه نجد مسيرتنا المظفّرة، وفيه نجد حبّات العَرَق التي سالت من جباه آبائنا وأجدادنا، فكان فيه نبضنا وملامح حياتنا ومباهجها ومسرّاتها وأشجانها وأحزانها.
وإنّ من بين أجمل تلكم المواقف القصيدة الثالثة في الديوان بعنوان (قصة محمد ومحمد) حيث تحكي موقفاً طريفاً للشيخ زايد مع المحمّدين: محمد بن راشد ومحمد بن زايد، ويحكيها لنا بوراشد بلغته العذبة قائلاً: (كنتُ أنا وأخي صاحب السموّ الشيخ محمد بن زايد برفقة المغفور له بإذن الله الشيخ زايد في اجتماع قمّة من قِمم مجلس التعاون، وكُنا إذا رأيناه منشغلاً بالاجتماعات المتتالية نبتعد قليلاً ثم نعود عندما يتمّ إبلاغنا بأنه غير مشغول لنُسامره ونُخفف من تلك الأجواء عليه، ولكنّه لاحظ غيابنا فأرسل إلينا هذه الأبيات الثلاثة التي يقول فيها مُمازحاً:
إختفى محمد ورا محمّد
حدْ يِحضر وأحد يغيبي
والسبب ما ظنّ مِتعمّدْ
السبب حبّ الغراشيبي
كم بانخفي وبَنْيَوِّدْ
مِنْ فِعلهم راسك إيِشيبي
فكان ردّي بعد تشاوري مع أخي صاحب السموّ الشيخ محمد بن زايد بالأبيات التالية:
سيدي يِشرحْ لك محمد
عن أمورٍ عنْك ما تغيبي
الخبر لي لافك وعوَّدْ
يا بَعَدْ شبّاني وشيبي
لك تركنا الجوّ يتجدّدْ
حُولكْ تحومْ الرَّعابيبي
والحرار اللي تِبا تِصعدْ
في القنص تِقنص ولا تخيبي
قاصرهْ عن صيدها تبعدْ
عن عقابٍ لهْ مخاليبي
وصيدةْ الشبل الذي مِبرَدْ
تِختِلفْ عن صيدة الذيبي
وبعد أن أسمعته الردّ ضحك رحمه الله، وصفّق فصفّق معه كل الحاضرين وعلّق قائلاً: (إنتهْ ومحمد ما دمتوا على قلب واحد ما بتنغلبون) لمْ أُدرك وقتها أنه رحمه الله كأنما كان ينظر بلحاظ الغيب لوقتنا هذا، وكان يُشجعني أن أكون أنا وأخي صاحب السموّ الشيخ محمد بن زايد كما نحن الآن إخوةً وعلى قلب رجل واحد).
ولا يستطيع قارئ الديوان أن يتوقّف عند جميع القصائد ولكنني مضطر إلى الوقوف عند بعض القصائد ولا سيّما تلك التي تحكي بعض المواقف مع الشيخ زايد رحمه الله، فهي خير تاريخ يحكي سيرة تلك الروح المعطاءة، وهي الجانب المجهول الذي لا يعرفه الناس من حياة شيخهم الذي كان يظلّلهم بطيفه الوديع مثل سحابة ماطرة تمطرهم بالخير والغيث.
وتراقبهم بهدوء وابتسامة تعلو المُحيّا، فلا شيء يُسعد الراعي مثل أمان الرعية، ولا سعادة تغمر القلب مثل الشعور بالحب للشعب الطيب الذي يبادل قادته الحب بالحب والوفاء بالوفاء، وما عام زايد، وما كتاب (زايد) إلا التعبير الجليّ عن عمق هذا الشعور وأصالته وتجذّره في قلوب أبناء الإمارات الطيبين.
من بين هذه القصائد العذبة تلك القصيدة التي عنوانها (يا سحابة) حيث يحكي صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد قصة كتابتها وأنها جاءت تعبيراً عن الشعور العميق بالامتنان لذلك الشيخ الطيب المهيب الذي يفيض كرماً وندىً على شعبه، ويبسط يده بالخير والمعروف ولا يبخل عليهم بشيء مهما كان غالياً، فحين تألمت هذه اليد المعطاءة وتعرّضت لموقف أوجب علاجها تألّم بوراشد لذلك، وكتب هذه القصيدة الرائعة الدالة على عُمق المحبة، والتي نقتطف منها بعض الأبيات الدالة على تلك اللحظات الحميمة بين الشيخين الكبيرين:
يا سحابهْ قدرها فوق السحاب
لايصيبك باس يا بحر الندى
تحت غيثك كل أنواع الشراب
الحيا لأهلك وموت لمن عدى
يا يدٍ فيها الشجاعه ما تِهابْ
كل غالي لاجلها يعلهْ فدى
تحملين الضرّ عنا والصعابْ
وتدفعين الضيم لين آخر مدى
في سطور المجد خطيتي كتابْ
كل حرف فيه بالعزّ ابتدى
كم مسحتي دمعةٍ تشكي مصاب
وكم رحمتي من له الضر اهتدى.
إنّ التفسير الأوحد لطبيعة شعر صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد في الشيخ زايد بن سلطان رحمه الله هو الحب، والحبّ الصادق لا غير، فهو لا يكتب إلا بإحساس عجيب عن شيخه وملهمه، ويكاد كل حرف ينطق بحجم الحب والودّ الذي تنطوي عليه جوانح بو راشد، فهو يبهر القارئ بهذه الرقة العجيبة حين يتكلم عن حبه للشيخ زايد رحمه الله، بحيث تلمس نور الصدق والوفاء تسري بين حروفه مثل خيوط النور التي تضيء القصيدة بكاملها، فإذا كان الشعر يرفع الناس ويخفضهم فإن الشعر مع الشيخ زايد هو الذي يرتفع حين يجري بذكره ويشدو بمناقبه الرائعة الفريدة:
إنت زايد إنت الأول والمجابْ
وإنتهْ الحامي إذا خوفٍ بدى
الشعر يرفع لذي ما له جناب
والشعر يخفض عزيزٍ سيدا
بس مع زايدْ تغيّر في الحسابْ
أن بإسمه الشعر عزّ ولَهْ شدا
ومن لطائف هذا الديوان اشتماله على كثير من القصائد التي تقوم على الردّ والمجاراة، حيث كان المغفور له بإذن الله الشيخ زايد يقول بعض الأبيات، فينتدب للرد عليها ومجاراتها صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد تأكيداً على عمق المحبة وطبيعة العلاقة الخاصة التي تجمع بين قلبيهما الصافيين.
ولا يتسع المقام لأكثر من الإشارة إلى هذا النمط من القصائد الدالة على عفوية الشيخ رحمه الله وكرم أخلاقه وقربه من أحبابه، فهو كما ذكرت في مقالة سابقة يستمدُّ هيبته وقوته وبسالته من تواضعه وسماحته وشجاعته، وشتّان شتّان بين الهيبة السموحة وبين الجبروت والظلم، فقد كان رحمه الله على مناقب الأخيار، سليم الطويّة، نقيّ السريرة، مضمراً للخير فاعلاً له، مقداماً لا يهاب، وفيّاً لا يغدر.
فلذلك كان قريباً من الناس بأخلاقه العالية وقلبه الكبير، ينظر إليهم بعين الوالد الرحيم، ويسوسهم سياسة الشيخ القائد الحكيم، فكان شجرتهم الظليلة، وبحرهم الزاخر جوداً وعطاء ورحمة وسخاء.
من بين هذه المواقف الدالة على تواضعه الجمّ وقربه من أبنائه ومُجالسيه ما ذكره صاحب السموّ من قيامه بطرح لغز عليهم عن القلم، وكيف أنّ الشيخ محمد بن راشد هو الذي أجاب عن سؤاله شعراً بهذه الأبيات التي تحكي لنا قصة المسامرة الوادعة الأنيسة بين تلك القلوب الصافية:
أبتدي بالنون واللي يسطرون
رايعات الشعر وعيون القصيد
طاعني بوزون للي يفهمون
كلما خطيت به معنى جديد
لغزكم يا شيخ خافي وإمخزون
وإنت في الأشعار لك أكبر رصيد
حتى يصل إلى قوله إجابة عن سؤال الشيخ زايد رحمه الله:
به ملوك الأرض لله يقربون
في الكِتب ذكره من الدهر البعيد
كان في التوراه من ماضي القرون
وكان في الإنجيل والذكر المجيد
هو قلم م الريش لي به يكتبون
ريشة الكُتّاب هو نعم الشهيد
في يد أملاكْ السما وبه يسجلون
ما نِقوله من رقيب ومن عتيد
وكم يحار القارئ لهذا الديوان العابق بالعطر والمحبة، ماذا يترك وماذا يختار، فلكل قصيدة حكاية، ولكل قصيدة دلالة، وشخصية الشيخ زايد رحمه الله رحبة فيّاضة بالمعاني والمواقف، وصاحب السموّ قد أبدع أيّما إبداع في رصد جميع ملامح المجد في شخصية شيخه وملهمه، فهو لا يكتب لمجرّد الكتابة، بل يكتب من نبعة الحب الصافية، ويختار ألفاظه بعناية فائقة بحيث تكون فوّاحة بالعطر والندى، ولا يرضى لشيخه ولا لنفسه إلا كل بديعة من الصور والمعاني، واستمع معي إلى هذه الترنيمة العذبة الساحرة التي يليق بها المجد من جميع الجهات:
نسايم المجد وأنفاس الرياحينا
طيّبْ شذاها لِفا في طيّب أبياتك
شرّفتنا بالمقاله يوم تِهدينا
أبيات جزلة جميله من هديّاتك
حامي حِمانا ووالدنا ووالينا
نسمع نداك وتكفّينا إشاراتك
نِخلص لك الودّ وإنحطّك معالينا
كالنجم منزلك في عالي سماواتك
يا سيّد الناس قاصينا ودانينا
مِصغين فَ أمرك على ما تبتغي ذاتك
زايد أبونا وحاكمنا وراعينا
ما حدّ مثلك وما في الناس شرواتك
هذا هو الشيخ زايد رحمه الله في نظر صاحب السموّ (زايد أبونا وحاكمنا وراعينا) ونِعمَ الأب ونعمَ الحاكم الراعي، وكم هي محظوظة بلادي بهذه القلوب الطيبة النبيلة التي لا تُغيّرها الأيام (وإذا تتبدّل الأيام حِنّا ما تِبدّلنا).
وفي قصيدة (زعيم الرجال) يصوّر صاحب السموّ المكانة العالية الفريدة للشيخ زايد بين زعماء الدنيا عموماً، وزعامته المستحقّة لأبناء شعبه على وجه الخصوص، حيث أبدع في الاحتفاء به والإشادة بمناقبه الصافية وشمائله الرفيعة:
باسم الإله اللي على العرش عالي
باسط أراضيها ورافع سماها
الحمد له دايم على كل حالي
قدّر وبالطافه عباده جزاها
يا مرحبا يا حاضرين احتفالي
ترحيب بابيات جديد امعناها
صوت البشاير عن زعيم الرجالي
سرى بأفراح التهاني صداها
غالي الخبر إن كان بشّر بغالي
ومن مثل زايد في قلوبٍ رعاها
يا من نعدّه للأمور الثقالي
يا أول العليا ويا منتهاها
إذا سِلمت إنتهْ فلا ما نبالي
في بذل أرواحٍ لأجلك فداها
إن من معالم الإبداع في هذا الديوان الجميل (زايد) هو هذه العناوين الرقيقة للقصائد بحيث تُشكل نقطة جذب يصعب التخلص من بريقها وجاذبيتها، فأنت حين ترى هذا العنوان اللطيف (سرب المعاني) تشعر بأنك أمام شاعر يختار ألفاظه بعناية فائقة وإحساس بالغ الرهافة، فإذا جئت إلى الموسيقى والإيقاع تشعر بأنك أمام نهر ناعم الصوت يغريك بالاستماع والترنّم والدخول في قلب القصيدة شئتَ أم أبيتَ، فاستمع معي إلى هذه الأبيات العذبة الرقراقة التي تتراقص مثل سرب الطيور في سماء الربيع الصافية:
سرب المعاني تعلّت في السما طيورهْ
وحلّت على ديرةٍ فيها الحيا (زايد)
ويوم الليالي تسائل عن سنا نورهْ
أشرق عليهن بوجه المصلح الرايدْ
الجود يهوى كفوفهْ طايعٍ شورهْ
يعطي ومن عقب يعطي للعطى عايد
أنهار عشرٍ جرت بالخير مذكوره
ودارٍ بها أنهار عشر خيرها وايد
شعبه هم أهله وماله في العرب جوره
حامي حمى المجد عزّ الدولة القايد
في يوم عيده جميع الناس مسروره
وكلٍّ لزايد بيوم الفرحه ايعايدْ
إن هذه القصائد البديعة ليست مختصة بموقف شخصي فقط لصاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد من الشيخ زايد رحمه الله، بل هي تعبير عن الوجدان العام لشعب الإمارات تجاه قادته الذين يحبونه ويحبهم، وهل يريد الشاعر شيئاً أعظم من الوصول إلى منطقة الوجدان العام للشعب.
فإنه إذا وصلها كان ضميراً لشعبه، ومرآةً لعصره، يرى الناس في شعره صورتهم وعواطفهم ومواقفهم، وأشهد أن شعر صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد قد بلغ الذروة العليا في التعبير عن وجدان الشعب وملامح شخصيته الوطنية، وفي كتاب (زايد) تتجلّى هذه الملامح الإبداعية لصاحب السموّ، ويرتقي إلى أعلى مكانة يريدها الشاعر وهو يكتب شعره النابع بصدق وإخلاص من صميم قلبه.
إنّ للشيخ زايد رحمه الله حضوراً قوياً في قلب الشيخ محمد بن راشد، طيفه لا يكاد يفارقه فهو يستلهم منه الحكمة، وهو إذا خلا بنفسه استحضر ذلك الطيف الجميل وسامره على هدأة النار، واسترجع تلك الذكريات الجميلة التي جمعته بالمغفور له، ليكون ذلك كله تعبيراً صادقاً عن عمق المحبة وتمكنها من القلب النبيل.
وفي قصيدة (نارين) يسترجع صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد صورة شيخه الحبيب، ويستعرض بإحساس الوفاء الكامل لذكرى شيخه تلك الإنجازات الرائعة التي تمّت في عهده المبارك الميمون، ويكتبها بهذه السطور الرائعة كي يحتفظ للأجيال القادمة بالصورة الناصعة لقائدهم الرمز الذي بنى لهم وطناً يُفاخرون به الدنيا، وترك لهم مجداً وكرامة تغبطهم عليها شعوب الأرض جميعاً، فرحم الله تلك الروح الطيبة المعطاءة، وأطال الله في عمر سيدي صاحب السموّ صقر البلاد الساهر مع أنجال الشيخ زايد على أمنها ورفعتها، واستمع معي إلى هذه القوافي الساحرة في هدأة الليل وطيوف الذكرى تعبق طيوبها بذكرى الأحباب الراحلين:
مِن جرّب الوقت يدري مزحهْ وجدّهْ
ويْعَرْف قبل البدايه ْ كيف ينهيها
وقت الرخا الناس واحد لكن الشدهْ
اتميّز الناس عاليها ودانيها
سهرتْ والليل له جنحان مسودّهْ
أدير فكري بها الدنيا ومعانيها
وآقول لو كان زايد ما سمح مجده
للناس من كان من هالناس يغنيها
وآقول لو كان زايد ما عطى عهدهْ
يحمي بلاده فمن هو كان يحميها
وآقول لو ما بنى صرح العلا وحده
من كان يقدر صروح العزّ يبنيها
ثمّ وصف أخلاقه العالية الرفيعة رحمه الله، وأنه كان رجلاً يصطلي الناس منه بنار الكرم والجود، ونار السيف للمعتدي، فقال بهذا الشعر البديع:
إيمدّ مدّات جودٍ ما لها مَدّهْ
مديمة بالكرم فاضت مغانيها
ويْردّ ردّات والعادين ما تردّه
وتْردّ عنه ذليله ضاع واليها
نارين عنده لمن وَدّهَ ومن حدَّهْ
نار لضيوفه ونار لمن يعاديها
وقد يخطر في بال القارئ أنّ هذا الديوان مقتصر على المواقف الشخصية لصاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد مع الشيخ زايد بن سلطان آل نهيّان رحمه الله، والحقيقة أنّ هذا الديوان هو بعثٌ لجميع معالم الحياة التي كان الشيخ زايد رحمه الله يسعى في سبيل ترسيخها في بلاده، فهو احتفاء بإنجازاته وآثاره وبصمته الخالدة على جبين الوطن.
فزايد ليس شخصاً عادياً بل هو (راية ولواء) سار في ركبه ومعه وخلفه مجموعة من فرسان البلاد، وأسهموا معه في النهضة بالوطن، ورأوا فيه القائد الحكيم، والسياسي الصادق في زمن أصبحت فيه السياسة رديفاً للنفاق والمجاملة وربما الكذب، فلهذا أحبوه وخلّدوا ذكراه، ويأتي في طليعة هؤلاء الفرسان الأوفياء لذكرى الشيخ زايد ؛ صاحب السموّ، فارس السيف والقلم الشيخ محمد بن راشد الذي ما زال قابضاً على جمر الذكريات الطيبات مع شيخه الجليل ولم يسمح للنسيان أن يطرق بابه، وللحياة وضجيجها أن تُنسيه ذكرى شيخه وأستاذه ومُلهمه رحمه الله.
في قصيدة (تحيا يا وطن) تعبير بليغ عن هذا الانتماء لمدرسة الشيخ زايد رحمه الله، وإصرارٌ على الامتداد في الماضي الجميل الذي كان الشيخ زايد بدره وشمسه، واعتراف صادق وشجاع بأنّ هذه الأجيال التي تربّت في مدرسته لن تزداد إلا صوناً للأمانة، وسيراً على ذات النهج، نهج السماحة والإدارة الحكيمة الحازمة التي تُعطي من قلب فيّاض بالحب، وترعى أمانة الشعب وثروة البلاد، وتصون استقلالها وتحمي سماءها، وترفع لواء مجدها، تخليداً لذكرى فارسها الذي شقّ أعماق الصحراء، وأسرج حصانه وتلثّم وغامر في الليالي البيض والسود من أجل مجد شعبه، فكان حقّاً واجباً على هؤلاء الفرسان أن يكونوا عند حسن ظن ذلك الفارس الباني الذي ترجّل عن صهوة جواده وهو يلهج بحبّ الوطن والسلام عليه:
بالعمل والجدّ نبني والكفاح
صرح دولتنا على مرّ الزمن
تحت راية زايد بعزم وفلاح
يا وطنّا صاينينك م المحن
حاملينك من نجاح إلى نجاح
ما تريينا على حبك ثمن
ما يِحرّك هامتك عصف الرياح
ولا تغيّرك الخطوب إذا جرَنْ
وبالسعاده يا وطن فيك إستراح
شعبك الغالي وتحيا يا وطن
كان الشيخ زايد رحمه الله حكيم العرب وصاحب نظرة صادقة في مصالحها، وما زال العرب يذكرون موقفه الشجاع في مساندته للكويت الشقيق في وجه الغزو العراقي الغاشم، ولكنهم يذكرون أيضاً كيف أنه دعا الرئيس العراقي للمجيء إلى الإمارات في وقت الحصار لحلّ القضية وإعادة الحق إلى أصحابه، لكنه لم يستمع لصوت العقل والحكمة.
وظل على موقفه الذي أدّى في النهاية إلى ضياع العراق وخراب البلاد وتشريد العباد، وقد سجّل صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد هذا الموقف الخالد في قصيدة بديعة قوية التأثير والسبك عنوانها (حصار ودمار) لخّص فيها القضية، وتوقّف فيها عند شجاعة الشيخ زايد وحكمته وبصيرته رحمه الله، وكيف أنه كان سنداً للعرب وساعياً في حلّ مشكلاتهم وجمع صفوفهم وتوحيد كلمتهم:
كان طير المجد واقف في مكانْ
يسمع اخبار الخطوب المذهلهْ
وكان زايد معه حكام الزمان
يبحثون أمر القضية المعجلة
والشجاعه والشهامه في إمتحان
ما لها إلا زعيم المرجله
شيخها وجيدومها وقت الرهان
ادرك بحسه الخِطر من أوله
ثم ذكر حفظه الله ظروف الموضوع وكيف أن النتيجة كانت هذا الخراب الرهيب حين أدار حاكم العراق ظهره للنصيحة ودخل في لعبة الموت والخراب:
ما سِمعْ زايد وعاند وإستهان
بالخطر دمّر وِطَنْهْ بأكمله
لو تِبعْ زايد وبالعقل إستعان
كانت بلاده نجت مِ الزلزله
وكما كان الشيخ زايد رحمه الله وفيّاً لبلاده وشعبه، كان وفيّا للأقصى السليب، أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، فقد غادر هذه الدنيا، ولاقى وجه ربه وهو يوصي أولاده بالأقصى وأهله، فالشيخ زايد رحمه الله كان مسكون القلب بهاجس الأقصى وفلسطين، وكانت فلسطين وأهلها محطّ رعايته واهتمامه دعماً لصمودهم، مواساة لجراحهم، وعناية بهم، ووقوفاً معهم في الشدائد والمحن، وإنّ من بين أجمل القصائد التي توضّح هذه المواقف الطيبة للمغفور له بإذن الله قصيدة (الأقصى) حيث أبدع صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد في نقل النبض الصادق للشيخ زايد تجاه فلسطين وأقصاها الأسير:
يا الطايرْ الميمون بلّغْ وهاتِهْ
خبرك عن الأقصى ودولة فلسطين
اللي نذر زايد لأجلها حياتهْ
ووصّى على الأقصى عيالهْ بتعيين
ولي ما عرف زايد وكثر إلتفاتهْ
إلى القِضيهْ ما عرف زايدٍ زين
يدعي لأجلها مجتهد في صلاتهْ
ويحطّها دايمْ على الراس والعين
والقدس حلمِه لين حزّة وفاتهْ
يا ما طراها وحبّها سنين ومنين
ما حدْ بذل بذله وضحّى شراته
بأموال ما تحصى بميات الملايين
ولم يقتصر موقفه رحمه الله على الدعم المادي والروحي بل تعدّى ذلك إلى نصرتها بكل ما يستطيع، بل غادر الدنيا وهو يحلم بتحريرها من الغاصب المحتل ويوصي أولاده والسائرين على نهجه بضرورة العمل على تحريرها مهما طال الطريق وكانت التضحيات.
ما خاف ما جامل وكِلّ إخطواتهْ
تحريرها مِ الغاصبين المضلين
ولنا بها وصّى وحرّص بذاته
من أجلها لازم نناضل ولا نلين
ونحنْ على نهجه ننفّذ وصاته
لازم نحرّرها وترجع فلسطين
ولأن الكلام لا بدّ له من نهاية، فإنّ نهاية هذه القراءة ستكون عند قصيدة (إلى روح زايد) حيث يشعر القارئ بأن قلب صاحب السموّ (بو راشد) قد ذرف الدمع تحناناً لذكرى شيخه وطيفه المَهيب الجميل، فالقصيدة مثل جمرة على القلب المحزون يستمع لأحزان الربابة وهي تبثّ الشكوى، وتبوح بأوجاع الوجد والذكرى الطيبة:
ضَمّيتْ طيفك وكنت إنتهْ محلّ الطيف
محال أني أضمّ الطيف وآضمّك
لو كان بيني وبينك مثل حدّ السيف
باحطّ عنقي عَ حدّ السيف وآشمّك
يا بوي يا ضيف عَ الرحمن وأغلى ضيف ْ
آشوف زولك ولكن ما اقدر آلُمَّكْ
سمّوك زايدْ وكان اسمك قصيد وكيفْ
واكرمت شعبك وأهديت الوطن دمّكْ
ما ردّني عن لقا وجهك شتا أو صيفْ
البرد بِعْدِكْ وكم كان الدفا يَمّكْ
ضحّيت بالعمر إلنا تَصرِفِهْ تصريفْ
لو شفت طول التعب ضرّك ولو سمّكْ
وهنا يكاد صاحب السموّ يمسك بيده على كبده من حرارة الذكرى، ثم ينادي بصوت ملؤه الحزن والأسى قائلاً:
يا وين زايد ومن للضيف... من للسيف
راس الرجال الكبار وفاتني ضمّك
عظيم في الناس مثلك سيّدي ما شيفْ
في طيب نفسك وفي صبرك وفي عزمك
يا رب أسألك عنا الصبر والتخفيف
وأن تسكنه في الجنان ويِشمله حِلمك
هذا هو كتاب زايد ..... ذَوْبُ قلبٍ، وصفحةُ مجد، وتاريخُ رجلٍ وحكايةُ وطن.