جميعنا يقرأ القرآن الكريم، غير أن تعاملنا معه بالتأكيد مختلف، فالبعض يغوص مباشرة في تأمل آيات الله تعالى وينسى المصحف، والبعض ينبهر بزخرفة المصحف من دون أن يتوقف عندها، بينما البعض يتعامل مع الأمر بشكل مختلف تماماً.
بين يدي مصحف بديع، تصدره دار «الخيرات للنشر» التركية، ويعرض حالياً في الجناح التركي بالقرية العالمية في دبي.
هذا المصحف الفريد يطلق عليه اسم «مصحف التوافقات»، والذي بدأت هذه الدار في طباعته وتوزيعه حول العالم منذ العام 1983، حيث وزعت منه أكثر من عشرة ملايين نسخة حتى الآن، فما قصة هذا المصحف الذي كتبه أحمد خسراو ــ رحمه الله ــ والذي يبهر كل من يطلع عليه، ويكشف جانباً مهماً من جوانب الإعجاز القرآني؟.
تعود قصة هذا المصحف إلى أيام بديع الزمان سعيد النورسي، ذلك العالم التركي الجليل، الذي يقول الأتراك إنه كان يعد خدمة القرآن والعمل من أجله أعظم غاية وهدف له في الحياة.
النورسي ــ كما يبدو ــ كان ممن يولون التفاصيل أهمية كبيرة، ولذلك فلم يكن يكتفي بفتح المصحف، وقراءة كلام الله تعالى والتأمل في معانيه ومقاصده فحسب، بل إنه كان يولي المصحف بحد ذاته أهمية خاصة، فيقف كثيراً أمام كلماته والخط الذي كتبت به والزخارف التي تزينه. ونتيجة لذلك فقد اكتشف النورسي عندما كان يقرأ في المصحف الخاص به، والمكتوب بخط الحافظ عثمان، علامات معجزة في خط المصحف، هذه العلامات هي توافق ألفاظ الجلالة وألفاظ الربّ بعضها مع بعض، أي ورود بعضها تحت بعض، أو وجهاً لوجه، أو ظهراً لظهر بحيث تشكل انتظاماً بديعاً عجيباً.
يحكي النورسي قصة اكتشافه هذه فيقول: «لقد دققنا في المصاحف المكتوبة بخط الحافظ عثمان، فرأينا توافقات غيبية ذات معنى في الكلمات، ولاسيما ألفاظ الجلالة، وقد وضعت بعض العلامات على تلك التوافقات فاختلت لعدم انتظام الفواصل بين السطور والآيات، ولكن علمنا أن التوافق مطلوب».
طلب النورسي من عشرة من تلاميذه الكبار أن يظهروا خاصية التوافق الموجودة في القرآن الكريم، وطلب منهم أن يكتبوا ألفاظ الجلالة والرب بلون أحمر، وأن يتخذوا نظام الصفحة المكونة من خمسة عشر سطراً من مصحف الحافظ عثمان، الذي يبدأ بآية وينتهي بآية مقياساً لهم، لأن الحافظ عثمان كان قد أخذ نظام الصفحة من القرآن الكريم كأثر إلهام رباني له، حيث جعل آية المداينة مقياساً للصفحات، وسورة الإخلاص مقياساً للسطور.
وفي النهاية ظهرت التوافقات في الأجزاء التي كتبها تلميذ الإمام النورسي السيد أحمد خُسراَو، حيث توافقت جميع ألفاظ الجلالة البالغة ألفين وثمانمئة لفظ جلالة في المصحف في هذا المصحف، بشكل بديع مع غيرها من ألفاظ الجلالة الأخرى، فإما تأتي تحت بعضها البعض في صفحة واحدة، وإما تأتي وجهاً لوجه في صفحات متقابلة، وإمّا في ظهر بعضها البعض في صفحات أخرى.
ويشير النورسي إلى أن هذا الترابط في المصحف ليس في صفحاته وترتيبها فحسب، بل إن كل حروفه أيضاً فيها الترتيب، وفوق هذا وذاك فإن التوافق موجود حتى في نقش خطه، وهذا دليل قوي على أن القرآن كلام الله.