لم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول إلا حقا وصدقا، حتى في مزاحه مع أصحابه ودعابته لهم، ومن ذلك تلك المرأة العجوز التي جاءت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم تسأله أن يدعو لها بدخول الجنة، في الحديث الذي يرويه الحسن رضي الله تعالى عنه وأرضاه، فقد سألته صلى الله عليه وآله وسلم أن يدعو الله لها بأن تدخل الجنة، فما كان من النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن قال لها: "لا يدخل الجنة عجوز، فقال الحسن رضي الله عنه: فولت العجوز وهي تبكي، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أخبروها: ليست يومئذ بعجوز، وأنها يومئذ شابة. إن الله عز وجل يقول: "إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً" سورة الواقعة آية 35".
ويفهم من هذا الحديث إلى أي درجة كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوجه بتحرّي الصدق، فهو وعلى الرغم من أنه كان يلاطف تلك المرأة العجوز، فإنه مع ذلك لاطفها بعبارة صادقة، توهمت منها أنها لن تدخل الجنة، لكن رحمته صلى الله عليه وآله وسلم عاجلتها بالجواب الشافي بأنها عندما تدخل الجنة إن شاء الله تعالى فإنها لن تكون عجوزا، بل شابة، وذلك كي يسرّي عنها، ويذهب عن قلبها ما حل به من حزن بعد سماعها لجوابه الأول صلى الله عليه وآله وسلم.
وجاء في رواية أخرى عنه صلى الله عليه وآله وسلم، قال محمد بن إسحاق: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر، خرج هو ورجل آخر تبعه، فرأيا رجلا، فسألاه عن قريش وعن محمد وأصحابه، فقال الشيخ: لا أخبركما حتى تخبراني من أنتما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أخبرتنا أخبرناك"، فقال الشيخ: بلغني أن محمدا وأصحابه خرجوا يوم كذا، فإن كان صدق الذي أخبرني فهم اليوم بمكان كذا، وبلغني أن قريشا خرجوا يوم كذا، فإن كان صدق الذي أخبرني فهم اليوم بمكان كذا. ثم قال: ممن أنتم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نحن من ماء". وكان العراق يسمى ماءً، فأوهمه أنه من العراق، وإنما أراد صلى الله عليه وسلم أنه خلق من نطفة.
ولا يخفى على عاقل أن هذين الحديثين يوجهان توجيها عمليا إلى وجوب تحرّي الصدق حتى في المزاح بين الزوج وزوجه، والصاحب وصاحبه، والرفقاء والخلان، وأن الكذب لا مكان له في دين الإسلام إلا عندما تحضر الضرورة، وقد قدرها الشرع في ثلاثة مواضع: حين الحرب، وفي إصلاح ذات البين، وأن يكذب الرجل على زوجته ضمن حدود تأليف القلوب كأن يقول لها إنها جميلة رغم أنه يراها غير ذلك، أو أن طهيها لذيذ والحقيقة خلاف ذلك.