ما من شر أو داء في الدنيا والآخرة إلا وسببه الذنوب والمعاصي، والمتأمل في كتاب ربنا سبحانه يجد أن الله قص علينا ما حل بالأمم السابقة من أنواع العقوبات جزاء معصية الله ومخالفة أمره، فما الذي أخرج الوالدين من الجنة، دار اللذة والنعيم إلى دار الآلام والأحزان.
وما الذي أخرج إبليس من ملكوت السماء وطرده الله ولعنه ومسخ ظاهره وباطنه وبدله بالقرب بعداً، وبالرحمة لعنة، وبالجنة ناراً، فهان على الله غاية الهوان وحل عليه غضب الرب، فمقته أكبر المقت، كل هذا بمخالفة أمر الله وارتكاب نهيه، وتأمل ما حل بالأمم المخالفة لرسل ربها كيف كان عذاب الله لها أليماً شديداً. فانظر ما حل بقوم نوح من الغرق، قال تعالى: (فكذبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوماً عمين).
وانظر ما حل بعاد قوم هود حيث سلط عليهم الريح العقيم ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم، وانظر ما حل بقوم صالح عليه السلام حيث أرسل عليهم الصيحة فأخذتهم الرجفة، فأصبحوا في دارهم جاثمين، وانظر ما حل بقوم لوط حيث قلبت عليهم قراهم وأمطروا حجارة من السماء، قال تعالى: (وأمطرنا عليهم مطراً فانظر كيف كان عاقبة المجرمين).
وتأمل ما حل بفرعون وقومه حين كذبوا وكذا ما حل ببني إسرائيل، وهكذا تتوالى نذر الله على عباده الذين خالفوا أمره بأنواع العقوبات، قال تعالى: (فكلاً أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون)، ما أهون الخلق على الله إذا هم خالفوا أمره، فكم أهلك من القرون بسبب عصيانهم وتكذيبهم.
فالمعاصي سبب كل عناء، وطريق كل شقاء، فما حلت بديار إلا أهلكتها، ولا فشت في مجتمعات إلا دمرتها، وما هلك من هلك إلا بالذنوب، وما نجا من نجا بعد رحمة الله إلا بالطاعة والتوبة، وإن ما يصيب الناس من ضر وضيق في أبدانهم وذرياتهم وأرزاقهم وأوطانهم إنما هو بسبب معاصيهم وما كسبته أيديهم، قال تعالى: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير).
إن ضرر المعاصي وشؤمها عظيم وخطير على الفرد والجماعات، لمن تأمل وأنار الله بصيرته، دل على ذلك النصوص الشرعية والواقع المشاهد. فمن آثار خطورة الذنوب والمعاصي:
1 ـ أنها تذهب العلم وتضعف الحفظ، وتحرم صاحبها من نور العلم: فالعلم نور يقذفه الله في القلب والمعصية تطفئه، قال الإمام مالك رحمه الله للشافعي لما رأى فطنته وذكاءه: «إني أرى الله قد ألقى على قلبك نوراً فلا تطفئه بظلمة المعصية». وقال الشافعي رحمه الله:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال اعلم بأن العلم نور ونور الله لا يعطاه عاصي
وقال أحد السلف: نسيت القرآن بذنب عملته منذ أربعين سنة.
2 ـ أن المعاصي سبب لحرمان الرزق: كما في الأثر: (إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه). رواه أحمد.
3 ـ ومن آثار المعاصي وحشة يجدها العاصي في قلبه، بينه وبين الله، وبينه وبين الناس: وكلما قويت هذه الوحشة بعد العاصي عن مجالسة أهل الخير وقرب من حزب الشيطان وأهله.
4 ـ ومن آثار المعاصي أنها سبب لتعسير الأمور، فكما أنه من يتق الله يجعل له من أمره يسراً، فالعاصي لله بسبب معصيته يجعل الله له من أمره عسرا.
5 ـ ومن آثار المعاصي ظلمة يجدها العاصي في قلبه ووجهه: فتقوى هذه الظلمة حتى تظهر على الوجه يراها كل أحد، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (إن للحسنة ضياء في الوجه ونوراً في القلب، وإن للسيئة سواداً في الوجه وظلمة في القبر والقلب).
6 ـ ومن أضرار الذنوب والمعاصي أنها تضعف وتبعد صاحبها عن العبادة: كما قال رجل للحسن: يا أبا سعيد! إني أبيت معافى، وأحب قيام الليل، وأعد طهوري، فما بالي لا أقوم؟ فقال: «ذنوبك قيدتك». وقال الحسن أيضاً: «إن الرجل ليذنب الذنب فيحرم به قيام الليل».
وقال الثوري: «حرمت قيام الليل خمسة أشهر بذنب أذنبته». وقال بعض السلف: «كم من أكلة ـ يعني من حرام ـ منعت قيام ليلة، وكم من نظرة ـ يعني حرام ـ منعت قراءة سورة».
7 ـ ومن شؤم المعصية أنها تمنع القطر من السماء: ففي سنن ابن ماجه عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القِطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا). وقال مجاهد في قوله تعالى: (وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ)، قال: «دواب الأرض تلعنهم، يقولون: يمنع عنا القطر بخطاياهم». وقال عكرمة: «دواب الأرض وهوامها حتى الخنافس والعقارب يقولون: منعنا القطر بذنوب بني آدم». وقال أبو هريرة رضي الله عنه: «إن الحبارى لتموت في وكرها من ظلم الظالم».
8 ـ ومن أضرار المعاصي والذنوب كره وبغض العباد والبلاد للعاصي: فالعاصي يبغضه الله تعالى ومن أبغضه الله تعالى ألقى البغض في قلوب الناس له، روى البخاري ومسلم من حديث أبي قتادة رضي الله عنه أنه مُر على النبي صلى الله عليه وسلم بجنازة فقال: (مستريح ومستراح منه) قالوا: يا رسول الله ما المستريح؟ وما المستريح منه؟ فقال: (العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا، والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب).
9 ـ أن المعاصي سبب لفساد الدنيا: فشؤم المعصية قد يبلغ البر والبحر، كما قال تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).
10 ـ ومن خطورة المعصية وشؤمها فعل السيئة بعدها: قال تعالى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا). وقال أبو الحسن المزين: «الذنب عقوبة الذنب».
ما من ذنب إلا وله بعده أخوات، فهذه خطوات الشيطان، ولذا فإن المؤمن العاقل يجتهد في البعد عن هذه الذنوب و المعاصي، حتى لا تصيبه أضرارها ولا آثارها.
عادل مباشري المرزوقي
رئيس قسم الرقابة والتوجيه بدائرة الشؤون الإسلامية والعمل الخيري بدبي