لا تزال الفجوة بين سوق العمل ومخرجات التعليم واسعة وملحوظة، بل إن الواقع يقول إنها في طريقها إلى مزيد من الاتساع، ولا تزال معاناة البحث عن الوظيفة الهاجس الذي يشغل بال الخريجين أو من هم على أبواب التخرج، هذه المعاناة قد يطول أمدها ما لم يتم تدارك الأمر، وإسعاف الميدان بخطط خمسية أو عشرية على الأقل، يتم من خلالها تحديد المهارات والخبرات التي يحتاجها سوق العمل في السنوات المقبلة، لتنعش المؤسسات التعليمية منهاجها وتواكب توجهات الدولة بتخريج أجيال تخدم معرفتها العلمية ومهاراتها سوق العمل وترتقي به، خصوصاً وأن التطور الذي تشهده الدولة في قطاعاتها المختلفة حكم على التعليم الأحادي «التقليدي» بالفشل، وفرض على من يريد البقاء بأن يخرج بجيل متعدد المهارات والخبرات.. ولكن كيف يمكن للمؤسسات التعليمية أن تسلح مخرجاتها باحتياجات سوق العمل في ظل شح البيانات وندرة المعلومات التي يمكن أن تستند عليها لتطويع مناهجها حول وظائف المستقبل.
هذه المشكلة دفعت كثيراً من الطلبة في مراحل التعليم الثانوية وحتى الجامعي إلى التأكيد على أن التردد باختيار المناسب يهدر كثيراً من سنوات أعمارهم، لا سيما في غياب قاعدة بيانات باحتياجات سوق العمل، ولا عجب أن تجد طلبة يتنقلون من تخصص إلى آخر بحثاً عن المستقبل المضمون، كما أوضح أولياء الأمور والطلبة أن تغيير التخصصات هدر للعمر واستنزاف للجيوب.
بدورها أكدت وزارة التربية والتعليم أنها تعتزم إنشاء قاعدة بيانات لاحتياجات سوق العمل، وتضم مختلف التخصصات التي يحتاجها وتساهم في إمكانية توجيه الطلبة نحو المسار الصحيح لحاجة سوق العمل، وذلك بالتعاون مع جهات حكومية وخاصة للوقوف على احتياجاتهم المستقبلية من تخصصات تحقق أهداف الدولة، كما تعتزم إعداد منظومة متكاملة تضم كل بيانات الطلبة في مختلف الجامعات، ومتابعة تطوير الطالب في التخصص الذي سجل فيه.
إرشاد أكاديمي
وقال معالي الدكتور أحمد بالهول الفلاسي وزير الدولة لشؤون التعليم العالي، إن عمليات الدمج بين الوزارتين للتعليم العام والعالي أفرزت دمج إدارتي الإرشاد الأكاديمي، وتتولى توجيه الطلبة في جميع المراحل الدراسية نحو التخصصات المستقبلية التي يحتاجها سوق العمل، وذلك في ظل التطورات التي تشهدها قطاعات الدولة وتحتاج إلى تخصصات جديدة قد لا تكون موجودة حالياً، بالإضافة إلى الاهتمام بالتدريب العملي خلال فترة الدراسة وانخراط الطلبة فيه سواء داخل أو خارج الدولة، إذ أصبح دور الإدارة أكثر شمولية، وذلك لالتحاق الطلبة بالمسار الصحيح الذي يناسب إمكاناتهم وتخصصات تناسب سوق العمل.
وقال معاليه أن المنظومة التي تعتزم الوزارة إنشاءها سوف تساعد في رفع كفاءة انخراط الطلبة في المسار التعليمي الصحيح، وربط تطور وتقدم الطلبة خلال دراستهم الجامعية لنوجههم نحو الوظائف المتاحة لهذه التخصصات.
ولفت معاليه إلى أن الإرشاد الأكاديمي، أصبح يحتل حيزاً كبيراً في خطط وزارة التربية باعتباره نقطة الوصل بين المرحلة الجامعية وسوق العمل، عبر ربط المعرفة النظرية بالخبرات ومتطلبات الواقع العملي والمساهمة في تطوير آفاقه، ومدى مساهمتها في تحقيق رؤية وزارة التربية والتعليم، بما يتماشى مع مؤشرات الأجندة الوطنية ورؤية الدولة 2021. وشدد معاليه على ضرورة تعميق الفهم برؤية الإمارات 2021 ومدى ارتباطها بالطالب الإماراتي، للمساهمة بشكل إيجابي في إعداد الطلبة للمستقبل، بحيث يكونوا قادرين على تحمل المسؤولية، ويتمتعون بالمواطنة الصالحة، ويؤدون واجباتهم تجاه المسؤوليات المجتمعية، فضلاً عن إدراك قيمة التعلم والعمل مدى الحياة.
وذكر أن المنظومة المتكاملة للإرشاد الطلابي تهدف إلى تحقيق النمو المتكامل بين التعليم الجامعي واحتياجات سوق العمل، وستوفر على أولياء الأمور التقديرات المالية المهدورة التي يتكلفونها بسبب تغير المسار الدراسي.
وحول تغيير الطلبة للتخصص الدراسي عقب التحاقهم به، أوضح الفلاسي أن تغير التخصص له جانبان، الأول يتمثل في عدم وجود رؤية واضحة لمحتوى التخصص، والجانب الثاني هو عدم فهم احتياجات سوق العمل، وهذا يحتاج إلى أن يكون الطالب على دراية كافية من المرحلة الثانوية بتوجهات الدولة، ويقوم الطالب باختيار تخصص متعارف عليه.
ويرى الفلاسي أن الإرشاد الأكاديمي له شقان، الأول توضيح التخصصات والمتطلبات التي تتناسب مع اهتماماتهم الشخصية وقدراتهم، والشق الثاني هو مدى حاجة سوق العمل للتخصص.
تحولات جذرية
بدوره، أكد مروان الصوالح وكيل وزارة التربية والتعليم للشؤون الأكاديمية، أن التحولات الكبيرة والجذرية التي تشهدها الدولة في مسارات التنمية وقطاعات التوظيف، تتطلب بذل مزيد من الجهود التي تصب في اتجاه تعريف الطلبة بالحاجات والتخصصات الوظيفية المتنوعة، لاسيما تلك المستحدثة التي تواكب هذا الحراك التنموي، ومن أجل ذلك سعت وزارة التربية نحو بلورة تصور واضح للطلبة يساعدهم في رسم ملامح مستقبلهم وفق رغباتهم، وما يتطلبه سوق العمل.
وأوضح أن إدارة الإرشاد الأكاديمي والمهني في وزارة التربية، تضطلع بدور مهم ومحوري في تعريف طلبة الصف الثاني عشر في قطاعات العمل بالدولة والمؤسسات التي تقدم فرص التعليم والتدريب والتوظيف، بما يسهل على الطالب عملية معرفة متطلبات سوق العمل والوصول إلى آفاق جديدة في تخصصات العمل، وتنويع الخيارات المهنية المتاحة أمامهم.
وأضاف: برزت الحاجة إلى تحقيق أقصى الدرجات الفعّالة في عملية الإرشاد الأكاديمي بهدف تمكين الطالب من اختيار التخصص أو المسار الدراسي الملائم في ضوء قدراته وميوله وإمكانات وحاجة المجتمع بما يحقق له التوافق الشخصي والدراسي والمهني، ومساعدته في التعرف إلى الخدمات المجتمعية المتاحة من حوله والمهن والبيئات المهنية المختلفة ومتطلباتها واكتساب مهاراتها، وبناء وتنمية اتجاهات وقيم إيجابية لدى الطلبة نحو المهن والأعمال بوجه عام، فضلاً عن زيادة وعيهم بالمؤسسات التعليمية والمهنية المختلفة التي يمكنهم الاستفادة منها ومتطلبات الالتحاق بها.
البحث عن الوظيفة
ولا شك أن التعليم الجامعي يعد مرحلة انتقالية جديدة في حياة الطالب، حيث ينتقلون إلى مرحلة تعليمية تختلف في معلمها ونظامها وأسلوب تعليمها عن المراحل الدراسية السابقة، وعند الانتقال إلى هذه المرحلة فإن الطلاب يختلفون فيما بينهم في درجة التكيف والتوافق مع هذه المرحلة الدراسية الجديدة.
وفي هذا الإطار اتفق عدد من الطلبة على أن غياب المرشد الأكاديمي الفاعل منذ المراحل الثانوية، فضلاً عن عدم وجود قاعدة بيانات توضح احتياجات سوق العمل المستقبلية، يعتبران السبب الرئيس في تخبط الطلبة خلال المرحلة الجامعية بشكل يجعلهم لا يستطيعون اختيار التخصص الأمثل، وإنما تترك المسألة أحياناً إلى الأهواء الشخصية أو رغبات الأهالي.
الطالبة فاطمة الحمادي قالت إن مرحلة البحث عن الوظيفة تكشف الحاجة لوجود الوظائف والمهارات التي يتطلبها سوق العمل، خصوصاً بعد ما يصطدم الشخص في كل مقابلة وظيفية بحاجز الخبرة أو المهارات التي تفرضها بعض الوظائف ولم تكن في الحسبان عند اختيار التخصص.
وأوضحت أن ليس كل طالب لديه طموح وإصرار لدراسة تخصص معين يتشكل لديه من الصغر أو بتشجيع من الأقارب، بل هناك أعداد كبيرة من الطلبة يدرسون سوق العمل من خلال المعلومات القليلة المتوفرة، والتي غالباً لا يمكن من خلالها توقع احتياجات السوق لفترة طويلة.
بيانات ومعلومات
وفي السياق ذاته قال محمد الشوملي طالب جامعي إن سوق العمل بحاجة إلى قاعدة بيانات ومعلومات توضح توجهاته ومساراته في المستقبل، لكي يحصل الخريجون على أفضل الخيارات عند انخراطهم في سوق العمل، لافتاً إلى أن الطالب الجامعي يعتمد على ثقافة معينة عند اختيار التخصص يأتي أحد أشكالها في طموح الوالدين ورغبتهم في أن يصبح الابن ذا شأن كطبيب أو مهندس، دون إدراك منهم باختلاف سوق العمل الذي تنامت فيه الخيارات وخصوصاً القطاع الخاص الذي سجل فيه العديد من الخريجين المواطنين نجاحات باهرة.
وقال محمد عبدالله طالب في الثانوية إن الجزء الأكبر من أقرانه في المدرسة لا يملكون رؤية واضحة نحو دراستهم الجامعية أو الوظيفة التي يطمحون الالتحاق بها، ويبرز ذلك في إجاباتهم المتناقضة عند سؤالهم عن المرحلة الجامعية والتخصص الذي سوف يقدمون عليه، لافتاً إلى أن العشوائية في التفكير الذي يعيشه البعض يمكن أن تتلاشى في حال وجود إرشاد أكاديمي يمتلك أرقاماً وتوقعات موثقة لمسار الوظائف، ناتج عن دراسات وأبحاث تضمن وضع المخرجات التعليمية في مكانها المناسب.
صعوبات دراسية
بدوره يقول الطالب عبدالله خميس: نحن الطلبة نواجه العديد من الصعوبات الدراسية تنجم عن عدم تمكننا من تحديد التخصص الجامعي المناسب لقدراتنا وميولنا، وبالتالي ضياع وقتنا وجهدنا سدى، إضافة إلى الخسائر المادية التي يتكبدها أهلنا، الأمر الذي يتطلب اتخاذ قرار جريء إما بالمضي قدماً في تلك التخصصات التي ندرسها رغم أننا قد لا نجد أنفسنا فيها، أو التحويل إلى تخصص آخر.
ويشير الطالب سعيد موسى إلى أن ثمة عوامل عدة تؤثر في قرار الطالب وبشكل فاعل في تحديد تخصص، وهي، مهاراته ومستواه التحصيلي، ومتطلبات السوق، وأخيراً الأهل والأصدقاء، مبيناً أن أفضل قرار يتخذه الطالب، هو تحويل تخصصه مبكراً حالما يشعر أنه غير قادر على الاستمرار، لضمان عدم هدر وقته وجهده، وضياع السنوات الجامعية عليه.
وأهاب سعيد بالجامعات أن تولي هذا الجانب عناية قصوى، وتضطلع بدور توجيهي لطلبة المدارس، من خلال تنفيذ زيارات ميدانية، واستقبال الطلبة لتعريفهم أكثر بالتخصصات الجامعية وميولهم وقدراتهم وتقديم النصائح التي تعود عليهم بالنفع.
ويعتقد الطالب محمد هلال أن التعليم التلقيني هو السبب الأول في عدم قدرة الطالب الجامعي على تحديد التخصص الأنسب، ووصف طرق التعليم الحالية بأنها لا تساعد على اتخاذ القرار، قائلاً: «الطالب يبقى 12 سنة وهو يلقن ويوجه قسراً، ثم يقال له فجأة: أمامك جامعات عدة، فيها تخصصات عدة، فاذهب واختر!»، مشيراً إلى أن صعوبات تحديد التخصص تشمل غياب المعلومة وقلة الوعي، وندرة المرشدين المؤهلين.
تخصص بلا هدف
تقول ليلى عبد العزيز إنها أقدمت على تغيير تخصصها مرات عدة نتيجة لعدم تحديد الهدف، فاتجهت وفق ما تتداوله صديقاتي وأفراد عائلتي، واندفعت لبعض التخصصات دون التفكير في المنتج أو ما سأدرسه في هذا التخصص، ولم أجد نفسي في أي من التخصصات التي درستها، حتى استقريت على الإعلام والعلاقات العامة وتخرجت منها فقط لأحصل على شهادة تؤهلني للحصول على ترقية وراتب أعلى في وظيفتي، على الرغم من أن مجال عملي ليس له علاقة بالإعلام.
واعترفت ليلى أن بعض صديقاتها اخترن تخصصاتهن إما على أساس سهولته، أو على أساس لعبة الحظ الشهيرة، فوجدن أنفسهن بدافع الصدفة يدرسن في تخصصات لم يخططن لها ولم تكن ضمن رغباتهن وطموحاتهن.
%80
أظهر تقرير أطلقته دولة الإمارات خلال المنتدى الاقتصادي العالمي (دافوس) استشراف المستقبل العالمي أن 80 % من أصحاب الأعمال يتفاعلون بشكل ضئيل أو لا يتفاعلون مطلقاً مع العاملين في مجال التعليم.
ويعد هذا التقرير الأول من نوعه في العالم، حيث قطعت دولة الإمارات شوطاً مهماً في استشراف المستقبل وأصبحت مصدراً لتقديم المعرفة للعالم ويوفر للحكومات دراسات وإحصائيات لمستقبل العديد من القطاعات وحجر أساس للقطاع الخاص في تبني الأفكار لتحويلها لواقع ملموس لمجتمعاتنا، حيث ساهم 21 مختصاً من جميع أنحاء العالم في كتابة هذا التقرير في قطاعات استراتيجية كالطاقة، والصحة، والتعليم، ويستعرض التقرير 112 تنبؤاً مستقبلياً سنشهدها في الـ 40 عاماً المقبلة كالمزارع العائمة، والأعضاء الجسدية المطبوعة بطباعة ثلاثية الأبعاد، تحديات التغيير المناخي، الصفوف الدراسية في العالم الافتراضي.
الحل الأمثل
تحرص دولة الإمارات على التنوع الاقتصادي باعتباره الحل الأمثل لتحقيق تنمية مستدامة أقل اعتماداً على الموارد النفطية، يستوجب معه تفعيل قطاعات استراتيجية جديدة تتجه نحو الصناعات والخدمات التي تبني ميزات تنافسية بعيدة المدى، ما يستلزم فتح آفاق جديدة للمتعلمين وإرشادهم نحو الفرص التعليمية المتنوعة المؤهلة لهم للمساهمة في قطاعات العمل الحديثة المتنوعة التي تشكل بنية أساسية للاقتصاد التنافسي المرن والمأمول، بجانب الإسهام في تقليص الفجوة بين مخرجات التعليم العام ومتطلبات التعليم الجامعي، من خلال تبني البرامج المؤهلة للخريجين للالتحاق بالمؤسسات الجامعية دون الحاجة لتلقي سنة التعليم الأساسي.
2021
أكدت وزراة التربية والتعليم أن اهتمامها بموضوع الإرشاد الأكاديمي، ينبع من رؤية دولة الإمارات 2021 بتوفير اقتصاد معرفي متنوع مرن ومستدام تقوده كفاءات إماراتية ماهرة وتعززه أفضل الخبرات بما يضمن الازدهار بعيد المدى للإمارات، وبالتالي يلزم هذا التوجه المؤسسة التربوية على تبني النظم والسياسات الهادفة لتحقيق مبدأ التعليم من أجل العمل.
وذكرت الوزارة أن رؤية 2021 تعتبر في مضمونها أن إيجاد نظام تعليمي من الطراز الأول يعد واحداً من متطلبات تحقيق رخاء المجتمع وازدهاره، وهو ما يتطلب تطوير نظم وبرامج التعليم بما يسهم في إعداد الطلبة على مدار مراحل تعليمهم لإكسابهم المهارات اللازمة لقيامهم بالأدوار المتوقعة منهم باعتبارهم الموارد البشرية المستقبلية المحققة لهذه الرؤى.
تدريب عملي
تنفذ وزارة التربية والتعليم برنامج تدريب عملياً مهنياً داخل وخارج الدولة، حيث ينفذ الطلبة عدداً من ساعات التدريب المهني العملي داخل الدولة في جهات عمل حكومية وخاصة بما يؤدي إلى اكتسابهم مهارات العمل ويؤهلهم لملاءمة احتياجات سوق العمل، ويستهدف طلبة الصف العاشر والحادي عشر من التعليم الثانوي، وأيضاً تنمية مهارات الطلبة وتأهيلهم للالتحاق بسوق العمل بتنافسية.
والتدريب العملي المهني خارج الدولة يهدف إلى إمداد الطلبة بمهارات عملية وشخصية وقيادية وابتكارية فريدة تساعدهم على الاستعداد للحياة المهنية.