طرق الصيد في الماضي تبدو بسيطة وبدائية، لكنها حتماً برهنت على ذكاء الأجداد وحنكتهم في اصطياد الأسماك، ولعل أبرز تلك الأدوات ما يطلق عليها «الدوابي» أو «القراقير»، وهي عبارة عن أقفاص لصيد الأسماك تلقى في البحر، بيضاوية الشكل تبدو قاعدتها مسطحة من الأسفل، وفيها فتحة خرطومية تسمح بدخول الأسماك إلى الداخل بطريقة ذكية تمنع خروجها من القفص، كما يثبت فيها ثقل أو حجر كي تغطس إلى القاع، وتربط بعلاقة من الأعلى كي يستدل إليها الصياد عند العودة لاستخراج الأسماك منها.
سعف النخيل
عبدالله الشامسي صياد وباحث في التراث البحري، قال إن «القراقير» أو «الدوابي» تصنع من سعف النخيل في الماضي، لكن الآن استبدلت بالأسلاك المعدنية، وطولها يبدأ من نصف متر إلى مترين. ويطلق على كبيرة الحجم «الدوباية»، وتتميز «الدوابي» أو «القراقير» بإمكانية رميها على الشعاب المرجانية والصخور في القاع وسط المياه الضحلة لفترة قد تستغرق عدة أيام، وغالباً ما يكون الطعم في الداخل عبارة عن قطع من سمك السردين.
إن «القراقير» و«الدوابي» لا تزال تستخدم إلى يومنا هذا في صيد الأسماك رغم تطور أساليب الصيد عموماً، وثمة مصانع متخصصة في صناعتها. أما في السابق، اشتهر بعض المتخصصين في صنع «القراقير» من أبناء المنطقة، وتتضمن صناعة «القراقير» خطوات عدة أبرزها البدء بصناعة سقف «قبة القرقور» على حسب الحجم المراد تفصيله، وكانت تعرف بالحجم بوحدة القياس «الباع» أو «الباع والنصف» إلى أن تصل إلى حجم «الدوباية» الذي يتجاوز ثلاثة أبواع ونصف.
وأضاف أن «القرقور» أو «الدوباية»، تتكونان من ثلاثة أجزاء رئيسية، وهي الجزء الأسفل من القرقور «الفرشة»، والجزء الأعلى من القرقور «القبة»، والعنصر الثالث هو الأهم «البابة» بصفتها البوابة التي تسمح بدخول الأسماك، ويحرص صناع «القراقير» على صناعة سقف القرقور ثم صناعة «الفرشة» ثم صناعة «البابة».
مهارة عالية
أما «البابة» تحتاج إلى مهارة عالية لتصميمها وعلى حسب الطلب باستخدام جريد النخل في السابق، على خلاف الوضع الآن المتمثل في استخدام الأسلاك المعدنية عوضاً عن سعف النخيل، ويبدو أن تصميمها معقد نسبياً، كونها الجزء الذي يتحكم ويحدد نوع السمك المراد صيده، ومكان وضع البابة وشكلها يشيران إلى نوع السمك إن كان سمك «غفو» أي سطح أو سمك «قوع» أي قاع.
ونوه بأنه ثمة أنواع عدة «للبابة»، مثل «الشامية» أو «الخرطومية» و«البابة الناهضة»، والأخيرة لكل أنواع السمك نظراً لارتفاعها في جسم «الدوباية».
أما «الخرطومية» تسمح بدخول الأسماك بحيث لا يمكنه الخروج، بينما الأخرى فيمكن للسمك الخروج بعد تناول الطعم وخاصة الصافي، فإن تأخرنا في إخراج «القرقور»، فإن سمك الصافي يخرج بمفرده، بسبب انخفاض «البابة» كونها تراعي مكان وجود سمك الصافي في القوع.
ولفت إلى أن عملية صنع «الدوباية» تحتاج إلى حفر حفرة لا يقل عمقها عن ذراع ولا يزيد على نصف متر في الأرض على رملة ناعمة، وأول جزء يبنى «القبة» وهي بالمقلوب، ثم «الفرشة»، أما «البابة» فلها صانع مختص، مؤكداً أن أجرة عمل البابة تبدو عالية تفوق أجرة عمل «الدوباية» كاملة.
صيد «الجش»
تعتبر «الدوابي» المصنوعة من الأسلاك المعدنية قصيرة العمر عند مقارنتها بالقديمة المصنوعة من سعف النخيل، لأنها لا تصمد في البحر الا فترة محدودة تتراوح بين ستة أشهر إلى ثمانية أشهر، ولعل «الجانبو» وهي أكبر أنواع «الدوباية» يكون مقاسها نحو أربعة أبواع، وحجم الباع هو متر ونصف، وتعتبر جيدة لصيد معظم الاسماك في مياه الخليج، وبمسافة 50 أو 60 ميل داخل وبعمق أقصاه نحو 45 متراً كما هو متعارف في أكثر الأماكن عمقاً في مياه الخليج.
وذكر أن «الدوباية» غالباً ما تستخدم لصيد أسماك «الجش»، والذي يبدأ موسمها من شهر مايو ويستمر حتى منتصف يوليو، وقد يكثر اصطياد سمك «الجش» بواسطة «الدوباية» لأنه من الأسماك التي تعوم قرب السطح أي من أسماك «الغفو»، على غرار بعض الأسماك الأخرى مثل «الزريدي» و«الدردمان» و«الصال» و«القول» التي تعتبر من أسماك «الغفو» أيضاً ويمكن اصطيادها بالطريقة نفسها، وهذه الأنواع تبدو سمينة لأنها تتغذى على أسماك السردين «العومة».
علاوة على أسماك «الجش»، يمكن لأسماك «الخباط» مثلا أن تدخل إلى «دوباية الجش»، ولكنها تموت أو «تنتحر» لأنها تخبط نفسها في جنبات «الدوباية» حتى تموت، وكأنها تقتل نفسها حين تصبح أسيرة، على غرار سمك «السِكِل» الذي يكرر الفعل ذاته.
«القرقور السايح»
هذه المهنة لا تزال مستمرة الى الآن، وبعض الصيادين يفضل انواعاً من القراقير مثل «السايح»، اي منخفض السقف وعريض الشكل لا ينقلب أثناء حدوث التيارات الهوائية القوية. ويبدو الفرق واضحاً بين صناعة الدوابي والقراقير بين الأمس واليوم من حيث مهارة الأيادي، فاليوم أصبحت الجالية الآسيوية هي المسيطرة على الحدث، بينما كان في الماضي أحد أبناء المنطقة أو الفريج المتكفل بصناعة «القراقير».
وأكد الشامسي أن «الدوباية» عرفت بهذا الاسم منذ زمن بعيد، وهي كما ذكرنا تصنع من الأسلاك المعدنية ذات الأحجام المختلفة، أهمهما الحجم الرفيع والعادي أو السميك، وأما أنواعهما فهناك المصنوع في كوريا يعتبر ذا جودة ممتازة عند مقارنته بالأنواع المصنوعة في الصين، أما في السابق كان صيادو الأسماك يتداولون الأسلاك المعدنية البلجيكية، لكن يبدو أنها لم تتوفر في السوق بعد ذلك، ولا تزال الأنواع الصينية والكورية دارجة في صناعة «الدوابي» و«القراقير» إلى اليوم.
وسيلة مثالية
تعد «الدوباية» وسيلة مثالية لصيد الأسماك في عمق البحر، ونتيجة ارتفاع الأسعار في معظم مجالات الحياة، فإن سعر «الدوباية» في صعود اليوم، نظراً لقلة عدد المصنعين، فضلاً عن ارتفاع المواد المستخدمة وأهمها الأسلاك، وعلى سبيل المثال تتوفر «الدوباية» اليوم بسعر لا يقل عن 250 درهماً، بينما كان سعرها قبل نحو عشر سنوات 120 درهماً، وكلما كان حجم «الدوباية» أكبر ارتفع سعرها.
إن الأسلاك المستخدمة في صناعة الدوباية تنقسم إلى نوعين، النوع الأول يطلق عليه «السيم القطين» بمعنى الرفيع، والآخر سميك، لكنهما في المجمل يؤديان العمل المطلوب، إلا أن «القطين» أو السميك يستخدم في الشتاء أكثر ويصطاد به أسماك «الشعري»، ودقته تمنع أو تؤخر تكون الطحالب أو الأعشاب البحرية وتراكمها عليه، وعمره الافتراضي قصير، حيث يبقى من ثلاثة إلى أربعة أشهر، بينما السميك يبقى لفترة أطول من ستة إلى سبعة أشهر من الاستخدام.
بلا ضمير
عندما يستخرج الصياد «القرقور» من البحر، يتعين عليه عند فرز الأسماك أن يعيد بعض الأسماك الصغيرة إلى البحر، وعلى سبيل المثال قد يجد بعض الصيادين أسماك هامور صغيرة الحجم داخل «القرقور»، ومن المعروف أن أسماك الهامور الصغيرة لا يمكن الاستفادة منها كثيراً، لأنها لم تصل إلى الحجم الطبيعي الكبير المتعارف لكن بعض الصيادين بلا ضمائر، لا يراعون أهمية تركها في البحر كي تنمو وتبلغ حجمها الطبيعي، فضلاً عن بعض الأسماك الواجب رميها في البحر كونها غير مرغوب فيها، مثل أسماك «العقلة» الصغيرة وقنفذ البحر وغيرها من الأسماك الأخرى.
القرقور المفقود مقبرة أسماك
الصيد باستخدام «القراقير» أو «الدوابي» طريقة جيدة لاصطياد الأسماك سواء في الأماكن الصعبة أو الأماكن الخالية من الشوائب والصخور، لكن فقدانه في البحر يشكل خطراً يهدد حياة الأسماك، إذ يتحول القرقور إلى مقبرة للأسماك عند فقدانه على حد تعبير عبدالله الشامسي، والذي أوضح طريقة إلقاء «القراقير» أو «الدوابي» في البحر وأولها الإبحار بواسطة القارب إلى المكان المراد إلقاء الطعم فيه.
وذكر أنه يتعين على الصياد استخدام جهاز تحديد المواقع «الماجلان» أو غيره من الأجهزة، وعند إنزال القرقور يربط من الأعلى بعلامة كي يتعرف عليه الصياد عند العودة إليه لاحقاً، ويثبت به ثقل معين في الأسفل كي يبقى ثابتاً ولا يتحرك أمام التيارات البحرية، ثم يعود الصياد بعد أيام إلى المكان وفقاً لإحداثيات الموقع المرصودة عبر الجهاز، ليستخرج «الدوباية» بواسطة أداة حديدية مسننة يطلق عليها «المنشلة» أو «الباورة» تعلق في الدوباية تحت الماء، ثم يجر الصياد هدفه بمساعدة آلة السحب المثبتة في مقدمة القارب «الونج».
وأضاف الشامسي إن القرقور يبقى في البحر لمدة لا تتجاوز ثلاثة أيام إن كان الموقع على مقربة من اليابسة «بر» أي بمسافة ثلاثة أميال، لكن إذا تعمق الصياد في البحر كثيراً يمكنه وضع «القراقير» أو «الدوابي» لثلاثة أسابيع وأكثر، ولا يمكن التنبؤ بإمكانية الحصول على أسماك في مكان دون آخر، وإنما تتوقف العملية على الرزق والحظ، إذ يمكن أن يرمي الصياد ثلاثة «دوابي» على مقربة من بعض، لكن من المحتمل أن يجد في «دوباية» ولا يجد في الأخرى، مشيراً إلى أن أسماك الهامور إذا دخلت لا تدخل معها أسماك أخرى، لأن سمك الهامور يلتهم الأسماك الأخرى ما عدا الأسماك الكبيرة، وقد يتناول في بعض الأحيان أسماك الهامور الأصغر منه حجماً.