حفرت سيرة وحياة المغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، عميقاً في وجدان كل من عايشه وسمع به، لثراء تجربته الإنسانية والقيادية، ولم يكن زايد مدرسة إلهام لعموم الناس فقط، فقد كان مُعلماً لمعلمين وقادة أفذاذ ساروا على نهجه بنفس الروح والشغف، ومن هؤلاء صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، الذي كان زايد مُعلمه الأول، ومدرسة ألهمته من قيمها الأصيلة، ونلحظ ذلك التأثير العميق في أقواله عنه وآرائه، كما تحفل قصائده الشعرية بحضور مُميز لزايد، يعبر عن تلك المكانة، حيث يتجلى كطيف ورمز ساكن في الوجدان، يضيء جنبات الروح والأمكنة.
فزايد الذي كان وظل دائماً مقصداً محبباً لمطالع القصائد والقوافي، يبرز في المدونة الشعرية لمحمد بن راشد رمزاً وقدوة، تتعدد صورها، ودلالاتها التعبيرية، وتأخذ أبعاداً متوالدة ومتشابكة، فهو الأب والوالد في بعده الخاص، وهو الزعيم والقائد في بعده العام، كما يتقاطع الوجدان الخاص مع الجماعي أحياناً كثيرة في هذه الصور الشعرية، مقدماً ملمحاً جلياً لرمز ومثل أعلى في دلالات النص، وكان من أحدث هذه القصائد قصيدة «ربان البلاد» التي قدم فيها الشيخ محمد بن راشد محاورة شعرية مع طيف زايد، ما يؤكد أن زايد متأصل في وجدانه، لمكانته الأثيرة والكبيرة، ولأثره الذي يعرفه كل من عرفه، وبالأحرى من عايشه، فقدره فوق ظن الناس، وكذلك ودادهُ، فمن لقي زايد لدقائق يذهل به، فكيف بمن قضى معه عمراً كان فيها الوالد والصديق الناصح والقائد الهُمام، ويشرح ذلك محمد بن راشد أكثر في مطلع هذه القصيدة:
زارني الطِّيفْ الذي ما يرحَلي
صاحي آشوفَه وفَ أحلامْ الرِّقادْ
طيفْ زايدْ لي بذكرهْ تَكْملي
راحتي وإنْ عادْ طيفهْ الخيرْ عادْ
عايشٍ في خاطري متْأصِّلي
كنِّهْ الأنفاسْ منْ طولْ إعتيادْ
الطيف الأثير
وتتكرر مثل هذه الصور، من خلال استحضار الطيف الأثير لزايد، كما في قصيدة «إلى روح زايد»، الذي يقدم فيها ملمحاً تعبيرياً رقيقاً ومؤثراً لذلك التذكر من خلال أخيلة مجنحة وآسرة، تستدعي الحضور من خلال تعبيرات متكررة «ضميت طيفك/ أضم الطيف/ أضمك»:
ضمّيت طيفك وكنت إنته محَلّ الطيف
محال أنّي أضمّ الطيف وآضمّك
لو كان بيني وبينك مثل حَدّ السيف
بآحط عِنْقى عَ حدّ السيف وآشمّك
يا بوي يا ضيف عَ الرحمن واغلى ضيف
آشوف زولك ولكن ما اقْدَر آلمّك
سَمّوك زايد وكان اسمك قصيد وْكيف
واكرَمْت شعبك وأهديت الوطن دَمّك
فزايد أنموذج راسخ في الذاكرة، وأثر قوي حاضر في الخاطر لا يغيب، ولا يبرح الوجدان والقلب، يضيء كما تضيء فتائل النور، ويتردد صدى صوته عميقاً، وهو من تطيب بذكره الأنفس والصدور، والذكرُ للإنسان عمرٌ ثان، يقول سموه في قصيدة «ذكر زايد»:
اســتـظــل بْـاسـم زايد كـل لـيـلـه
وكــل لـيـله فـي مـنـامي لـه حـضـور
مـن أغَـمّـض عـيـنــيْ إتْشب الفتيله
وأشْـهـده وأشـاهـده وِيْـشِـع نــــــور
مــن جـبــيـنـه يشْعِلْ الظلما شعيله
وْهَــمْـس صـوته لي به تْطيب الصدور
فهو المثل الأعلى والقدوة والبطل، ونجد تصويراً أقرب في قصائد أخرى، كما في قصيدة «أحلام شعب»، التي يقدم فيها مشهديات شعرية عن جميع مراحل تشكل اتحاد الإمارات، فيما يشبه الملحمة والتوثيق الشعري لما قام به الشيخ زايد، طيب الله ثراه، من جهد مع أخيه الشيخ راشد، وإخوانهما المؤسسين، ويقول في مقطع من هذه القصيدة:
أشــــوف فــي زايــــد تتحـــقــق أحلامـــــي
يحيـــــا لنـــا قايــــــد عـــــام ورا عـــــامي
مــــا دامـــه الرايـــــد مـــــا نخـــاف الأيـــامي
فصورة زايد في أشعار الشيخ محمد بن راشد، تأخذ مظاهر مختلفة وفي عمومها يجد فيها القارئ تصويراً شفافاً لسيرة بطل وقائد، من خلال حكمته وهمّته وأعماله الخالدة، فزايد رجل الحكمة، وفارس الصحراء ورجل البداوة والشاعر الرهيف، والسياسي المحنك، وصاحب المآثر والإنجازات، التي أصبحت مفاخر لكل العرب، يقول سموه في قصيدة «في رثاء والدنا الشيخ زايد»:
أيــــــنَ منهـــا زايـــــــــدُ الخيـــرِ الــــــــــذي
كــــــــانَ نجمـــــــــــاً فـــــي عُلُـــــوِّ الرُّتَــــبِ
عَرَبــــــــــيٌّ كــــــــــان فـــــــي طَلْعَتِـــــــهِ
خُلُـــــــــقُ الفَــــــــــــــارِسِ عنــــــدَ الطَّلــــبِ
لَــــــــمْ يَكُـــــــــــنْ زايـــــــــــدُ فينـــــا واحـــداً
بـــــــــــلْ هُــــــوَ الأُمَّــــــةُ حيـــــــنَ النُّــــوَبِ