رغم أن العديد من دول العالم اتجهت لدراسة الجينوم البشري لشعوبها منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي للوقاية من الأمراض الجينية وتسخيرها للتقنيات الحديثة المبتكرة، للتعرف على البصمة الجينية والوصول إلى علاج شخصي لكل مريض، حسب العوامل الوراثية، إلا أن الجينوم الخاص بالشعوب العربية بشكل كامل لا يزال في غرف الإنعاش التي قد تمتد ربما لعقود مقبلة.

أطباء ومختصون شددوا على أن البيانات الجينية تعد في ذاتها ثروة وطنية من حيث قيمتها المعنوية حتى قبل استخداماتها الصحية، وهي ضمانة صحية للأجيال المقبلة للتعرف على المتغيرات الوراثية التي تسبب الأمراض وكشف الأشخاص المعرضين لخطر الإصابة وتقديم الاستشارات الوقائية المناسبة، التي تستند إلى التركيبة الوراثية للمريض في المراحل الأولى من العمر تلافياً لظهور أمراض وراثية معقدة مما يؤدي إلى توفير الوقت والكلفة المرتبطة بأنواع المعالجة الباهظة التكاليف.

بدورها، أكدت وزارة الصحة ووقاية المجتمع في الدولة أن مشروع الجينوم الإماراتي سيرى النور مع نهاية عام 2021 تنفيذاً للاستراتيجية الوطنية للابتكار، وبناء على توجيهات صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، للارتقاء بالخدمات الصحية وفق أفضل الممارسات العالمية، ودعا كافة الدول العربية للحاق بركب الدول المتقدمة لوقاية الأجيال القادمة من براثن الأمراض والحفاظ على هويتنا الوراثية.

ولكن في الوقت ذاته حدد مختصون 5 خطوات تضمن التقدم في أبحاث الجينوم والإسراع في إنجازه، وتتمثل في زيادة التعاون بين المؤسسات الصحية والأكاديمية، وتأهيل المزيد من الكوادر الوطنية المتخصصة في هذا المجال، فضلاً عن رفع ميزانيات البحث العلمي الموجّهة نحو هذا العلم، وتكثيف المناهج والبرامج التدريبية، بالإضافة إلى تسهيل الحصول على المعلومات الإحصائية من المؤسسات الصحية والمعنية.

«البيان» تفتح اليوم واحداً من الملفات التي تمس الأمن الصحي العربي بالصميم كيلا نفاجأ غداً بأن أمراضنا وأدويتنا باتت رهينة لشركات ومافيات الأدوية التي ستحتكر أدويتنا لتبيعها لنا بأسعار باهظة وستتحكم بمستقبلنا وأمننا الصحي.

دعم الابتكار والتميز

الدكتور يوسف السركال وكيل وزارة الصحة ووقاية المجتمع المساعد لقطاع المستشفيات أكد أن مشروع الجينوم الإماراتي سيرى النور مع نهاية عام 2021 تنفيذاً للاستراتيجية الوطنية للابتكار، واستقطاب شراكات استراتيجية مع أرقى مراكز الأبحاث الطبية، والاستثمار المستدام في الخدمات الصحية لتعزيز مكانة الدولة كمركز عالمي للابتكار في القطاع الصحي ورفع مكانة الدولة في مؤشر التنافسية العالمي.

وأوضح السركال، أن مشروع «الجينوم الإماراتي»، يهدف إلى الوقاية من الأمراض الجينية من خلال استخدام العلوم الجينية والتقنيات الحديثة المبتكرة، حول التنميط والتسلسل الجيني، للتعرف إلى البصمة الجينية والوقاية من الأمراض الأكثر انتشاراً في الدولة، مثل السمنة والسكري وضغط الدم وأمراض السرطان والربو، والوصول إلى علاج شخصي لكل مريض، حسب العوامل الوراثية.

خطوة أولى

بدورها قالت الدكتورة كلثوم البلوشي مدير إدارة قطاع المستشفيات في وزارة الصحة ووقاية المجتمع إن الوزارة بادرت من نحو عام تقريباً في تنفيذ عدة مشاريع في الطب الجيني وعلم الصيدلة الجينية لفهم التغيرات الجزيئية الجينية التي تسهم في التشخيص الدقيق للمرض لمساعدة الأطباء في إعطاء الدواء المناسب للمريض. وأوضحت البلوشي أن الوزارة قامت بدراسة تجريبية مع مختبر الجينات الجزيئي في دبي شملت الأمراض الأكثر شيوعاً في المجتمع الإماراتي وخاصة تلك المدرجة في الأجندة الوطنية مثل أمراض القلب والسكري والسرطان وذلك للتشخيص الدقيق وتقديم العلاج المناسب مما يسهم في خفض معدل الوفيات.

وفي مجال أمراض القلب قام الفريق الطبي بإجراء الفحص الجيني لمادة الوارفرين (دواء السيولة) على عدد من المرضى المواطنين وذلك لتحديد الجرعة المناسبة لكل مريض مما يسهم في تقليل مخاطر زيادة السيولة والنزيف الحاد، كذلك قمنا بفحص عدد من الشباب المواطنين المصابين بمرض السكري الوراثي للأطفال وذلك لمعرفة المسببات الجينية للمرض وتحديد العلاج المناسب لهؤلاء المرضى. وقد كشفت الدراسة عن وجود 4 طفرات جينية جديدة لم يتم ذكرها في الأبحاث العلمية مسبقاً.

وفي مجال السرطان قمنا بإجراء الفحص الجيني للسرطانات الوراثية لعدد من المواطنين عن طريق فحص 56 جيناً مسؤولاً، وكشفت الدراسة عن وجود جينات خبيثة مسببة لسرطان القولون في احد الأشخاص وتم تقديم المشورة الجينية مما يسهم في تقديم الفحص المبكر قبل سن الأربعين والعلاج اللازم في فترة متقدمة، إضافة لتحليل الخارطة الجينية الكامل (اكسون) وهي الجينات التي تحث على إنتاج البروتين وعددها 22000 جين، لعدد من العوائل الإماراتية والتي أصيب أطفالهم بتشوهات خلقية وأمراض جينية نادرة وذلك لكشف الجينات المسؤولة عن المرض ومساعدة العوائل في انجاب أطفال أصحاء مستقبلاً.

وأكدت أن الوزارة تقوم حالياً بوضع خارطة طريق لمشروع الجينوم الإماراتي بالتعاون مع الشريكتين الاستراتيجيتين وهما دائرة الصحة في أبوظبي وهيئة الصحة في دبي، تتضمن إنشاء مختبر مرجعي يجري كافة التحاليل والفحوصات الجينية ومركز جينات متخصص لأبحاث الجينوم وذلك لإنشاء قاعدة بيانات للجينوم وقاموس مرجعي للأمراض الوراثية.

كنز من المعلومات

الدكتور محمد خليفة، استشاري أمراض وراثية في مستشفى لطيفة بدبي تنقل لسنوات طويلة في مختبرات الولايات المتحدة، أكد أن التطورات التي حدثت في العلوم المتعلقة بالـجينوم في السنوات الأخيرة، غيرت وستغير طريقة ممارستنا للطب؛ وقايةً وعلاجاً.

وأضاف بأن الجينوم البشري ومعرفتنا بالجينات سيوفر ذخيرة علاجية ضخمة يمكن بها للصناعة الدوائية أن تطرق نواحي جوهرية من أمراض الإنسان‏، ومن المتوقع أن يتوافر لدينا المئات بل ربما الآلاف من الأدوية والبروتينات المخلقة بالهندسة الوراثية التي ستسهل تطوير علاجات الأمراض المختلفة‏، خاصة وأن المستقبل كله للأدوية الجينية والعلاج الجيني والطب الشخصي الذي يمثل ثورة حقيقية في المجال الطبي بشكل عام، ويمكن بسهولة تخيل حتمية الانتقال إلى الطب الجيني كما كان الحال مع الانتقال إلى استخدام التقنيات الرقمية وثورة المعلومات وما إلى ذلك.

ويضيف أن المادة الوراثية الموجودة في خلايا الإنسان تمثل كنزاً حقيقياً للمعلومات لأنها تشكل الأساس الذي تعمل من خلاله الخلايا في حال الصحة وحال المرض، وبذلك يمكن لعلماء الوراثة من خلال دراسة الشيفرة الوراثية استنباط الكثير من المعلومات المهمة عن صحة الإنسان وتقديم خدمات الطب الشخصي للمرضى.

وأضاف بأن الشيفرة تكشف أيضاً عن الجزيئات الحيوية الموجودة في الخلايا والتي يمكن أن تكون أهدافًا دوائية مما يفتح آفاقًا لامتناهية أمام الصناعة الدوائية ويقدم فرصًا كبيرة لعلاج الأمراض المستعصية.

فوائد كبيرة

وفي نفس السياق تقول الدكتورة حبيبة الصفار مدير مركز أبحاث التكنولوجيا الحيوية في جامعة خليفة للعلوم والتكنولوجيا والبحوث، أن هناك أهمية كبيرة لعلوم التكنولوجيا الوراثية والجينوم البشري، كونها تعمل على تحسين الصحة وتجنب الأمراض في المستقبل، فضلاً عن توفير العلاج والعقاقير لكل مرض وتجنب الإصابة بها مستقبلاً.

وقالت الصفار: هناك تحديات تواجه هذا العلم في الدولة، تتمثل في عدم وجود تعاون بين المؤسسات الصحية والأكاديمية، وندرة الكوادر الوطنية، فضلاً عن تدني ميزانية البحث العلمي، وعدم وجود مناهج وبرامج تدريبية، بالإضافة إلى النقص في البيانات والإحصائيات، وصعوبة الحصول على معلومات ونقص المصادر العلمية، بالإضافة إلى المدة الطويلة التي تستغرق فيها لجان أخلاقيات البحث العلمي للموافقة على الأبحاث، والتي في بعض الأحيان تستغرق 18 شهراً.

جهود عربية

قالت الدكتورة حبيبة الصفار إن هناك عدداً من مشاريع دراسة الجينوم في شبه الجزيرة العربية مثل مشروع الجينوم البشري السعودي، ومشروع الجينوم الكويتي، وأن هذه المشاريع ركزت أساساً على فهم التركيبات الجينية بين سكانها، وهكذا تم تصميم مصادر جينية فريدة مرتبطة بالعرق، موضحة أنه على سبيل المثال تم تطوير وتحديد الجينات المرتبطة بالبدانة والربو بين مواطني الكويت، كما أن هناك بحثاً من جامعة خليفة، حدد 4 علامات وراثية لأول مرة مرتبطة بمرض السكري النوع الثاني بين مواطني الإمارات.