ناقش تقرير «التحول الكبير في مجال الطاقة»، الصادر عن شركة الاستشارات العالمية «إيه تي كيرني»، وبالتعاون مع القمة العالمية للحكومات، دفع التقنيات الجديدة باتجاه تحول حاسم، يتمثل بانتقال عالمي في مجال الطاقة.
وهو ما يهدد المكانة المتميزة التي حظيت بها الدول المصدرة للنفط والغاز لأكثر من 40 سنة، متسائلاً، كيف سيستطيع مجلس التعاون الخليجي، التأقلم والازدهار في العالم الجديد والشجاع والصديق للبيئة، الذي يتوفر فيه الغاز الصخري ومصادر الطاقة المتجددة بوفرة؟.
واعتمد التقرير على عناصر مهمة، تشمل مؤشرات التغير وعرض دروس من الماضي، وسيناريوهات المستقبل، فضلاً عن خارطة طريق للشرق الأوسط، تتضمن اعتماد مصادر الطاقة المتجددة، والاستفادة من احتياطيات الغاز.
حيث باتت ضرورة حتمية، فيما أبان التقرير في مقدمته، أن التوقعات الاقتصادية غالباً ما تخبرنا عن الماضي القريب وتأثيراته، أكثر مما تخبرنا عن المستقبل، ولهذا السبب، عندما كانت أسعار النفط مرتفعة منذ مدة ليست ببعيدة، أسرع عدد كبير من المحللين، إلى إعلان الوصول إلى «الذروة النفطية».
وبدء استنفاد الموارد الوشيك، ليتحولوا بعد ذلك للحديث عن زيادة العرض وطلب الذروة النفطية في أعقاب تراجع الأسعار، ومع ذلك، إن كان حجم الانهيار الذي طال أسواق الطاقة خلال الفترة بين يوليو 2014 وفبراير 2016، وانخفاض أسعار النفط إلى ربع قيمتها عند نقطة الذروة التي استقرت لاحقاً عند النصف تقريباً، يبدو مفاجئاً، فإن الانهيار بحدّ ذاته، يجب ألا يكون مفاجئاً.
معايير
وتشكّل الدورات الطويلة من الاستثمار المفرط في أعوام ارتفاع الأسعار، والتي تتبعها زيادة العرض وكساد الأسعار، ما يعرف غالباً بـ «الدورات الفائقة»، خاصية معروفة في أسواق السلع الأساسية، وبما أن أسعار السلع الأساسية تميل إلى التقلب، فإنه يمكن القول بأن هبوط الأسعار أصبح ملحوظاً، نتيجة لتحكم منظمة «أوبك» بالسوق على الأرجح بوضوح، بعد حدوثه على السلع الأخرى.
وتمثل بهبوط حاد بعد عام 2014، مقارنة بالانخفاض التدريجي الذي طال منتجات التعدين بعد عام 2011، وفي أعقاب الدورات التقليدية لأسعار السلع، فقد أدى العقد من الزمن بين 2003 و2014، من ارتفاع أسعار النفط إلى تعزيز تزايد الاستثمارات وتسريع التطور التكنولوجي.
وانخفضت في هذه الأثناء، وتيرة نمو الطلب العالمي، بعد الركود الذي ساد العالم في 2008، واستجابت الدول الغنية بالفحم وسريعة النمو، مثل الصين والهند، جزئياً، للضيق في سوق النفط، عن طريق حرق الفحم، وكنتيجة لذلك، ومع ازدياد القدرات الإنتاجية على نحو أسرع من الطلب خلال الفترة بين عامي 2007 و2014.
إذ ارتفعت الاحتياطيات المثبتة حول العالم بنسبة 20 %، في حين ارتفع الطلب بنسبة لا تتجاوز 7 %، فإن الوفرة المؤدية إلى هبوط الأسعار، كانت حتمية الحدوث في نهاية المطاف.
تحولات
وعلى الرغم من أن الانهيار كان أليماً بالنسبة لمنتجي الهيدروكربون، إلا أنه لن يكون وحده سبباً في إحداث «تحول اقتصادي»، أكثر من الهبوط الموازي في سعر المعادن والسلع الأخرى، التي قد يقال بأنه يبشر بتحول في مجال المواد الخام.
لكن ثمة أمر آخر يجري في أسواق الطاقة، وهو إعادة ترتيب هائلة لا تشهدها أي سلعة أخرى، وقد تتجه أسواق الطاقة العالمية نحو أبرز تغيير طويل الأمد تشهده منذ أن حل النفط مكان الفحم كمصدر أساسي للطاقة في جميع أنحاء العالم.
مؤشرات
ولفت التقرير إلى أنه من ناحية العرض، وبعد أكثر من قرن، زاد خلاله كل ابتكار الناتج على حساب تكاليف نفقات رأسمالية أكبر ومدد زمنية أطول، فإن التكنولوجيا الصخرية تعمل على تحويل إنتاج النفط والغاز إلى قطاع يعمل بدورات أكثر سرعة، ما يزيد من إمكانية بدء عملية أو إيقافها ضمن إطار زمني قصير نسبياً، والاستجابة لأوضاع السوق، مع الإبقاء على التكلفة المنخفضة للبرميل الواحد بشكل كافٍ للمنافسة.
وعلى صعيد مزيج الطاقة، لا يعزز تشديد اللوائح البيئية والإعانات زيادة الطلب على الغاز بشكل أسرع كوقود أكثر نقاءً من النفط فحسب، ولكن على مصادر الطاقة المتجددة أيضاً بشكل ملموس أكثر على المدى الطويل، وأنه لم يتوسع الأثر العالمي للطاقات المتجددة الحديثة بشكل كبير فحسب.
وإن كان هذا التوسع قد بدأ من قاعدة منخفضة جداً، إذ ما زال اليوم إنتاج الطاقة الشمسية وطاقة الرياح والوقود الحيوي، يلبي أقل من 2 % من الطلب الإجمالي على الطاقة، ولكن الأهم من ذلك، وعلى المدى الطويل، هو أن هذه التقنيات أصبحت تنافسية أكثر فأكثر من ناحية التكلفة.
وخاصة في حالتي الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، وتشير التقديرات الحالية، إلى أن الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، أصبحتا قادرتين على المنافسة في توليد الكهرباء، ولا يعني هذا الأمر، أنه بإمكان مصادر الطاقة المتجددة، أن تحل كلياً مكان المنتجات الهيدروكربونية في توليد الكهرباء، على الأقل بوجود التقنيات الحالية.
حلول
ويمكن تشغيل مصانع الغاز وزيت الوقود والفحم أو إيقافها بسهولة، لتلبية الطلب المتغير، في حين أن الافتقار لحلول تخزين طاقة مجدية من حيث التكلفة، تعني أن طاقة الرياح والطاقة الشمسية، ستواصل اعتمادها على الظروف الطبيعية.
وبالتالي، لا يمكنها توفير المرونة نفسها، وعلاوةً على ذلك، لا تزال مصادر الطاقة المتجددة تمرّ بمراحلها الأولى في الوقت الحالي، من ناحية مساهمتها في الإنتاج العالمي للطاقة، ومع ذلك، وفي ظل استمرار تحسن التكنولوجيا، فإننا نتوقع توسع فرص أن تحل مصادر الطاقة المتجددة محل المصادر الأخرى للطاقة على المدى الطويل.
وفي ما يتعلق بالطلب الإجمالي على الطاقة، فقد تحسنت كفاءة الطاقة العالمية بوتيرة ثابتة، حيث بلغ متوسطها نحو 1.3 % سنوياً، منذ تغير آليات سوق النفط عام 1973.
ولا ينبغي أن يكون ذلك مفاجئاً، إذ لا يحدث الابتكار التكنولوجي تحولات جذرية أو ملموسة دائماً، وطالما أن تكلفة سلعة ما مرتفعة بما يكفي لتشجيع الجهود الرامية لتكون مجدية اقتصادياً، كما كان الحال منذ أزمة النفط عام 1973، فإنه يجب مواصلة تحقيق التحسينات الصغيرة مع مرور الوقت.
دروس
وكشف التقرير أن المرة الأخيرة التي حدث فيها تحول كبير في مجال مزيج الطاقات العالمية، كانت عندما أصبح النفط مصدر الطاقة الأول على الصعيد العالمي، ويمكن لتذكر ما حدث آنذاك، مساعدتنا في فهم ما يمكن أن يجري الآن بشكل أفضل، وبعد مرور أكثر من قرن من قيام الكولونيل دريك للمرة الأولى بالتنقيب عن النفط في بنسلفانيا عام 1859.
فقد حلّت المنتجات النفطية شيئاً فشيئاً محل الفحم، بالإضافة إلى الخشب وفضلات الحيوانات، وأصبحت الوقود المفضل لوسائل النقل بحلول منتصف عشرينيات القرن الـ 20، واستبدل الفحم في وسائل النقل على السكك الحديدية .
وفي البحر بأواخر خمسينيات القرن الـ 20، وبحلول منتصف ستينيات القرن العشرين، تفوق النفط على الفحم كمصدر الطاقة الأول عالمياً، مستكملاً الانتقال من عصر الفحم إلى عصر النفط، ولعل المشهد أصبح الآن على وشك التغير مجدداً، إذ تعدّ تقنيات الطاقة المتجددة، مثل الرياح والشمس، فعالة بالطبع في بعض الجغرافيات أكثر من غيرها، لكن يمكن نشرها بشكل أساسي في كل مكان، وحتى ضمن النفط والغاز.
سيناريوهات
وتعرض التقرير إلى السؤال المطروح، وهو كيف سيبدو المستقبل؟، خاصة أنه غالباً ما يعد توقع سلوك المتغيرات الاقتصادية مغامرة، وبناءً على تحليل معمّق للتوجهات العالمية الحالية، فقد طورت شركة «إيه تي كيرني» الأميركية، 3 سيناريوهات أساسية، من الآن حتى عام 2040 تقريباً، مصنّفة وفقاً لـ 4 أبعاد أساسية، هي استقرار النظام الجيوسياسي، والتدفقات الاقتصادية الكلية العالمية، والابتكار التكنولوجي، والبيئة التنظيمية العالمية.
ويؤدي تضييق التنسيق العالمي على الصعيد الجيو سياسي، إلى قوانين عالمية أكثر تطوراً وفعالية في مجالات مثل حقوق المستثمرين وإنفاذ براءات الاختراع والحماية البيئية، الأهم بالنسبة لقطاع الطاقة، ويعمل الاستقطاب، وهذا ما يعتبر السيناريو المرجعي أو المركزي أو الأكثر احتمالاً بالنسبة لمعدي التقرير، لأنه يمثّل استمراراً للاتجاهات الأكثر وضوحاً في يومنا هذا.
وفي هذا السيناريو، يزداد تقسيم العالم إلى كتل إقليمية تتنافس فيما بينها تنافساً محموماً في المجالات الاقتصادية والتقنية، لكنها تتفادى عموماً أشكالاً مباشرة من المواجهة، وهذا ما يؤدي من الناحية الجيوسياسية إلى تقلّب ميزان القوى، فيوفر بيئة عالمية هشة، لكن مستقرة مبدئياً.
خارطة طريق لمواجهة التحديات
على مدى الأعوام الـ 40 الماضية، أدى ارتفاع معدل أسعار النفط، إلى ما قد يعتبر أحد أكبر التحولات الدولية في التاريخ، ما أتاح لعدد من الدول الغنية بالنفط.
ولا سيما في الشرق الأوسط، النمو وزيادة رفاه سكانها بمعدل متسارع، ونمت هذه البلدان بالفعل نمواً سريعاً، وفي معظم الحالات، استثمرت أجزاء ملحوظة من عائدات النفط الخاصة بها في مجال التعليم والبنى التحتية والصناديق السيادية. ومع ذلك، فهي تعتمد اعتماداً كبيراً على عائدات الهيدروكربون لتوازن ميزانيات حكوماتها.
أمل
واقترح التقرير خطوطاً رئيسة للعمل، تشمل اعتماد مصادر الطاقة المتجددة، بالنسبة إلى اقتصادات الشرق الأوسط، حيث ثمة بريق أمل في مصادر الطاقة المتجددة، لأن بعض هذه التقنيات ملائم تماماً لظروف شبه الجزيرة العربية، وهذا صحيح بالأخص في حالة الطاقة الشمسية الضوئية، فضلاًَ عن الاستفادة من احتياطات الغاز.
وبالتالي، فإنه يعتبر الخيار المفضل بالنسبة للقوانين البيئية العالمية التي تتجه نحو مزيد من الصرامة، ولذا، فإن تكنولوجيا اليوم لن تسمح باستبدال توربينات الغاز بشكل كامل، بمولدات الطاقة الشمسية أو الرياح.
أهمية اعتماد الاقتصادات على الصناعات البتروكيماوية
تطرق التقرير إلى توسيع سلسلة القيمة، وربما أهم إجراء يمكن أن تتخذه اقتصادات الشرق الأوسط للتهيؤ للتحول العالمي المقبل للطاقة، يتمثّل في دمج سلسلة القيمة الهيدروكربونية باتجاه التكرير والبتروكيماويات والأنشطة الصناعية، مثل صهر المعادن، والتي تتطلب مدخلات كبيرة من الطاقة.
وهذه كلها أنشطة موجهة نحو التصدير، حيث تتمتع منطقة الشرق الأوسط بميزة تنافسية هامة، بسبب احتياطياتها الهيدروكربونية الرخيصة نسبياً، وموقعها الجغرافي في منتصف الطريق بين أوروبا وآسيا وأفريقيا، وهو ما يجعلها مكاناً محتماً للصناعات التي تستهدف أسواق تلك المناطق الثلاث.
، وفي الواقع، وتحديداً عندما تكون أسعار الطاقة العالمية منخفضة، يكون من المنطقي أكثر من أي وقت مضى، القيام بأنشطة ذات قيمة مضافة قريبة من مَصدر الطاقة، إذ إن زيادة القيمة المضافة تخفض نسبة تكلفة النقل على القيمة الإجمالية للسلع.
وإن عملية استبدال النفط بمصادر طاقة أنظف، لا تؤثر في المنتجات الكيماوية بشكل كبير، ولذلك يُتوقع أن ينمو الطلب بشكل أسرع من الطلب على النفط، أو حتى على الغاز الطبيعي، وهو أيضاً طريق سلكته العديد من اقتصادات الشرق الأوسط في الأعوام الأخيرة.
الاستفادة من المزايا التنافسية لدول الخليج
تحتاج اقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي، إلى تركيز استثماراتها على الفرص التي تستفيد من مزاياها التنافسية، بما في ذلك مصادر الطاقة الرخيصة، والقوى العاملة الماهرة، وموقعها الجغرافي في منتصف الطريق بين أوروبا وآسيا وأفريقيا.
لقد سبق ونفّذ آخرون عملية التحول هذه، إذ تعتمد بلدان مثل النرويج وكندا وأستراليا أيضاً بشكل أساسي على صادرات السلع الأساسية، بما في ذلك نسبة كبيرة من الهيدروكربونات، لكنها أصبحت أيضاً اقتصادات مواتية للأعمال التجارية القائمة على المعرفة. ولا يوجد سبب يبرر عدم قدرة مجلس التعاون الخليجي على اتباع الطريق نفسه لقيادة مرحلة التحول المقبلة في الطاقة.
ومن المؤكد أن الاستجابة الصحيحة لتحديات التحول المقبل للطاقة، ليست مجرد إنفاق النقد في جميع المجالات، على أمل أن يدرّ عائدات في نهاية المطاف. وينبغي على حكومات دول مجلس التعاون الخليجي، ضمان أن يكون لجميع استثماراتها معنى اقتصادي، خاصة بعد انخفاض عائداتها النفطية السنوية إلى أقل بكثير من مستوياتها قبل 3 أعوام مضت.