خلال يومي الثلاثاء والأربعاء الماضيين نظمت كلية الدراسات الإسلامية والعربية بدبي ندوتها العلمية الدورية والخاصة بالحديث الشريف والسنة النبوية، وتعتبر هذه الندوة هي الخامسة في الترتيب، والتي تنظم كل سنتين، وقد وفقت الكلية باختياراتها الماضية، كما وفقت كذلك في اختيار موضوع هذا العام وكان بعنوان «الاستشراف والتخطيط المستقبلي في السنة النبوية»، ومن ضمن أكثر من 70 بحثا اختار أعضاء الأمانة العامة لندوة الحديث بالكلية 16 بحثا من مختلف الدول العربية والإسلامية.
ومن ضمن هذه البحوث التي تشد انتباه المتابع بحث للدكتور محمد عبد الفتاح الخطيب دكتور اللغويات والفكر الإسلامي بجامعة الإمارات، بعنوان «الائتمان على المستقبل في السنة النبوية» بدأه بقوله إن المسلم من المنظور الحضاري الإسلامي، ليس مطالباً باستشراف المستقبل رؤية وتخطيطاً فقط، بل هو مؤتمن عليه أيضاً! ولعل في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «إِن قَامَتِ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ فإن اسْتَطَاعَ ألا يَقُومَ حتى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ» خيرَ دليل على الشعور بالمسؤولية تجاه حركة المستقبل.
ويرى الدكتور الخطيب أن السنة النبوية تؤكد أن المسلم قادر على تشكيل مستقبله وامتداد فعله حتى بعد الموت! ومن ثم يضيف هذا المفهوم بعداً رابعاً في الفقه الحضاري، بعد فقه النص، وفقه الواقع، وفقه تنزيل النص على الواقع، وهو فقه الائتمان على المستقبل.
ويخلص إلى أن الإسلام يملك منظومة قيمية ليست ضرورة لشهودنا الحضاري من جديد، بل وأيضاً، ضرورة لحداثة إنسانية جديدة، بعيداً عن الحداثة الغربية، وأزماتها، وتطرفها في التعامل مع الإنسان ومع الأشياء (بدءاً من المحيط - المجال الصغير، بأزهاره وثماره، وانتهاء إلى الكون/الفضاء الكبير، ببحاره وأفلاكه وطبيعته وكل شيء فيه)! وهذا مُلاحظٌ فيما تعانيه الأرض اليوم من التلويث والتخريب والعبث، وفقدان «التوازن و«التناغم» بسبب الممارسات الخاطئة، التي يقوم بها إنسان منظومة «القيم الكونية» حيث أطلقت «قيم العولمة» و«منظومات» الإنتاج والربح والاستهلاك، يد الشركات العملاقة، التي تستثمر وتسوق، حيثما شاءت وكيفما أرادت، بعيداً عن قيمة «الائتمان على المستقبل» وتحت مسلمة: أن الإنسان يسود الطبيعة، ويملك الأرض، وأن الطبيعة أَمَة للإنسان، وليست أُمّاً له! وفي هذا البُعد يعد «الائتمان على المستقبل مفهوماً حضاريّاً إسلاميّاً».
ويؤكد الدكتور الخطيب أن مفهوم «الائتمان على المستقبل في بنائه التنظيري، يعد مفهوماً «منظومة» يحرك في إطاره مجموعة من الدلالات المحورية، أهمها: وجوب النظر إلى المستقبل والوعي به، وهو ما يحمله مصطلح «استشراف المستقبل» بالإضافة إلى ما يزيد عليها من معاني: «الفاعلية» و«المسؤولية» و«المحاسبة» التي يقتضيها لفظ «الائتمان»، ولا شك أن هذه المعاني لها دلالتها في الحركة الحضارية، فيكون مصطلح «الائتمان على المستقبل» أكثر ارتباطاً بـ «منظومة المفاهيم الإسلامية» من مصطلح «استشراف المستقبل» الخالي من معاني: «الفاعلية» و«المسؤولية» و«المحاسبة» مما يعني أن المستقبل، في المنظور الإسلامي، وديعة يحاسب حاملها على التفريط فيها!».
وثالثاً: أن المسلم لا يستشرف مستقبله عبر عقلانية محضة، وإنما هو محكوم، بعد نصوص القرآن الكريم، بالحديث، يخضع للصحيح منه، ولا بد، ذلك...أو التخبط؛ ويتأسس على ذلك أن مرجع الوعي «بالمستقبل» في التصور الإسلامي، إذن، ليس إلى «الرأي والهوى» وليس إلى «العقل البشري» بلا قاعدة ولا ضابط، وليس إلى «المصلحة» كما يتصورها الناس غير محكومة بأصل من دين الله، وليس إلى أي اعتبار آخر، غير اعتبار واحد هو «الوحي» المعصوم، قرآناً وسنة، بما يضعه من ضوابط وموازين تتحكم في كل شأن من شؤون الحياة، حالاً ومآلا. وهذا هو ما يقتضيه لفظ «الائتمان».