لا يتردد الأديب اللبناني، محمد أبي سمرا، في توصيف، فن السيرة في الأدب، بأنه فعل حرية. ويجد في السياق، أن الإنسان، وحال تفكيره في سرد سيرته، ينطلق إلى فضاءات رحبة. فهذا أشبه بالخروج عن الذات والانقطاع عن التجربة الماضية، وما أحوجنا في الثقافة العربية، برأيه، إلى الانفصال عن الذات لا الغرق فيها.
كما يشدد أبي سمرا، في حواره مع «بيان الكتب»، على أن مصداقية الرواية تنبع من قوة الوقائع، وأن الكتب ليست محاكم.. وإشهار الأسماء ليس مهماً إلا إذا كنا سنحوّل الشهادات إلى المحكمة الدولية. كذلك يعرف كتابه «موت الأبد السوري»، بأنه شهادة حية بلغة روائية.
هل كان البدء بجمع الشهادات الحية في كتابك، وليد المصادفة، أم نتيجة التفكير والتخطيط المسّبق؟ وهل كان العثور على شهود «موت الأبد السوري»، سهلاً؟
للشهادة الحية طقسها الخاص. بدأ مشواري معها منذ قرابة عشرين عاماً، بسير وشهادات عن ظواهر وحياة أشخاص ومجتمعات. بدأت بالتدريج من دون خطة مسّبقة، وبتواتر ما بدأت أدّمج بين العمل الميداني والروائي، حتى وصلت إلى هذه الصيغة من الكتابة. وبعد عام 2006، أي عقب «ثورة الأرز» وجلاء الجيش السوري عن لبنان..
وعقب أن نشرّت عدداً من الشهادات في جريدة «النهار»، بات الأشخاص هم يتصلون بي، أو يرسلون إليّ، مبدين رغبتهم في رواية سيرهم، والحقيقة أن السجين السوري، هو من بعث إليّ بخبر، مع شخص يعرفني من الجريدة. فمرارة تجربته دفعته أن يحكي، وقبل ذلك كان من النادر العثور على شخص يروي تجربته في السجون السورية.
وفي ما يتعلق بـ «موت الأبد السوري»، كنت أعتقد بعد تسجيل الشهادة الأولى، أنه من السهل العثور على أشخاص يدّلون بشهادتهم، وتبيّن لي أن الأمر عسير. قبل الثورة كان السوريون قد فقدوا القدرة على رواية حياتهم، لأن النظام مستبد، ليس بالمعنى السياسي فقط، بل الشمولي، كل شيء ممنوع: الكلام، الفهم، طريقة النظر إلى الحياة. وأظن من خبرتي في هذا الصدد، أن رواية السيرة إعادة تركيب الذاكرة، ونظرة جديدة إلى الحياة.
علاقة
ما طبيعة العلاقة بالشاهد، وكيف تهيئ رواتك لسرد حياتهم؟ وإلى أي مدى تتأثر، وتؤثر فيهم؟
جزء من رواية السيرة، هو شكل من أشكال الاستشفاء، كأن الراوي يذهب إلى عيادة الطب النفسي، والطبيب يدلّه على المسار والأحداث المفّصلية. قبل ذلك يجب أن أعرف الرواة، إما أن تكون لدي معرفة مسّبقة بهم، أو نبدأ بلقاءات وأحاديث عامة، ليحدث بيننا نوع من التقارب والتعارف والألفة..قبل أن أبدأ تسجيل السيرة.. الأمر يشبه إلى حد بعيد تهيئة الشخصيات، قبل البدء بتصوير الأفلام التسجيلية.
حين يتمكن الشخص من روي الحوادث رغم أنها مؤلمة، تكون الرواية نفسها، قد بدأت تمنحه نوعاً من الاستشفاء، وطبعاً كلانا يتأثر بما حدث. في كثير من الحالات، وأنا أسجل أحداثاً وقعت قبل الثورة السورية أو بعدها، كانت عيون الرواة تدمع، وأنا أخبئ البكاء، ومثل هذه الانفعالات كانت ترتبط بلحظات الذروة، مثلاً لحظة ما بعد خروج الجيش السوري.
وإخلاء سجن «البوريفاج»، حين عاد السجين ودخل زنزانته، في تلك اللحظة انتقلت دلالة الأحداث من زمن لآخر، وكأنها لحظة وعي أسطورية، وهذا يجعل الأحاسيس قوية، ومضطربة أيضاً.
يحدث أحياناً أن يتعلّق الراوي بمن يستمع له، وهناك الكثير من الدراسات تقول، إن العلاقة ما بين الراوي والمسّتمع، ربما تظلم الراوي، سيما حين تستحوذ عليه الحاجة لأن يكمل روايته،.
وحدث أن تعلّق بي البعض، مثل السجين السوري الذي أصابه السرطان، بعد أن أخذتُ شهادته، وعلى فترات كان يتصل ويقول «بدنا نلتقي ونكفي، عندي أخبار جديدة». وحين نلتقي، كان يتبيّن لي أنه فقط يحتاج إلى أن يروي، مع أنه استُنهك في رواية تجربته.
منهج ومراحل
بعد تسجيل السيرة، كيف تكتبها.. وهل تستعين بمصادر خارجية لاستكمال معلوماتك؟
تُروى السيرة بالعربي الدارج، أفرغها كما هي على الورق، أبتعد عنها بعض الوقت، وأتركها تدور في رأسي، أنتبه من أين تبدأ، ما هي الخيوط التي تسير عليها، والحوادث الأساسية التي تبني دراميتها.
وحين أكتب لا أغير من الواقعة، لكني أفعل، كما يفعل المخرج، يظهّر بعض الحوادث ويعطيها أبعاداً، يرسم الفضاء الزمني، ومسرح الحدث، وينبغي أن تكون لدي فكرة عن البلد الذي حدثني عنه الشخص، عن تقاليده وعاداته، وإذا لم تكن معلوماته كافية، استخدم مصادر أخرى.
لقاء بين عالمين
أنت تكتب الشهادة الحية بلغة روائية، لماذا الدمج بين صيغة العمل الميداني والصيغة الأدبية؟
الفكرة من هذا الدمج، إخراج الكتابة الأدبية من صيغ الأدب، التي هي تمويه للوقائع، وتزيين لها، أو جعلها ضبابية بطريقة أدبية. حين بدأت تجربتي مع الكتابة، كنت أشدّد على الصيغ الأدبية.
لكن مرور الزمن والتقدّم بالعمر، جعلني أقرب إلى الوقائع، استعمل القدرة الأدبية لخدمة إخراج الواقعة، وتوسيع أفقها وإطارها، كي تظهر ماديتها وظروفها ومأساويتها بشكل درامي، بمعنى أن يصبح الأدب إخراجاً درامياً للواقعة، كما تشتغل السينما الدرامية على الأحداث والوقائع.
تأثير الشخصيات متفاوت، هناك شخصيات أكثر جاذبية من الأخرى، وثمة أشخاص دراما حياتهم، على درجة من المأساوية، بحيث إنها تولّد الرغبة في الخروج عن الحوادث التي يروونها وإعطائها بعداً روائياً جديداً، مثلاً راوي حمص لم يروِ لي أحلامه، ولم تكن لصاحب بانياس أحلام، لكن كتابة السيرة تشبه تأليف الرواية، والتأليف غالباً لا يتخطى عندي مجال الأحلام. صيغة الحلم تتركب من ضباب الحوادث نفسها، والأخّيلة ليست هلوسات، إنها مرايا الواقع
«هذا مو أنا»
ما ردود فعل الرواة بعد نشر سيرهم، هل حدث واعترض أحدهم عليك؟
في فرنسا سجلت شهادة أحدهم لحوالي 12 ساعة، ثم استخدمتها روائياً، في روايتي «الرجل السابق». بعد أن قرأ الشاهد نصي، قال: «تعرّفت على حالي، متل ما بعرف حالي، وأحياناً بقول، هذا مو أنا». وبعد أن نُشرت الرواية، جاء إلى لبنان، وأجرى مقابلة تلفزيونية، فبدا الأمر غريباً، أن يخرج شخص من الرواية، ويقول: هذا أنا. كتاب «طرابلس» حول عشرين سنة من الحرب اللبنانية، حين قرأه الطرابلسيون ا
لذين أدلوا بشهاداتهم، رفضوه رفضاً كاملاً، قالوا «هذه شهادات تُروى بين بعضنا، وليست أخباراً تعبّر عن المدينة»، الكتابة عندهم تفترض أن نمجّد المدينة، نزيّنها، نعطي صورة جميلة للعالم عنها. على النقيض تماماً كان السوريون، يريدون فضح الواقع، لا تزّينه، ثورتهم، هي ثورة على الصمت.
غالبية رواتك بلا أسماء. ما مصداقية الشهادة الحية من دون اسم؟
المصداقية تنبع من قوة الوقائع، الكتب ليست محاكم، وإشهار الأسماء ليس مهماً، إلا إذا كنا سنحوّل الشهادات إلى المحكمة الدولية.
لماذا السيرة؟
كتابة السيرة نوع أدبي، تفتقر إليه ثقافتنا العربية، وإن وجدت، فهي سير ضعيفة ونمطية لبعض الفنانين المعروفين، لم تُكتب كي تكون شهادة على عصر.. كما ان الأدب ليس تحريفاً للسيرة، الأدب إجلاء لها، نقل السيرة من الشفوي إلى المكتوب، يشبه الترجمة، بمعنى إعادة إعطاء دلالة في إطار ثقافي جديد، إنه الترجمة الأدبية للسيرة.
الأشخاص يروون الواقعة نفسها بطرق مختلفة.. بهذا المعنى لا توجد حقيقة مادية مجرّدة، ومكتملة الواقعة. رواية السيرة فعل حرية، أن يمتلك الإنسان رواية عن حياته، يعني أنه حر، وعدم امتلاك رواية عن النفس، يعني العيش الهش وعلى السطح. ليس من السهل أن يفكر الإنسان بسرد سيرته، هذا أشبه بعملية الخروج عن الذات، والانقطاع عن التجربة الماضية، ونحن في الثقافة العربية بحاجة للانفصال عن الذات، وليس الغرق فيها.
بطاقة
محمد أبي سمرا. أديب وصحافي لبناني، يعمل في جريدة «النهار». لديه ثلاث روايات: بولين وأطيافها (الفارابي/1990)، الرجل السابق (دار الجديد/1995)، سكان الصور (دار النهار/2003). كما صدرت له أربعة مؤلفات تعتمد الشهادات الحية، وهي: بلاد المهانة والخوف، أقنعة المخلّص - بالاشتراك مع وضاح شرارة، طرابلس، موت الأبد السوري.
ذاكرة مأساوية بين مكانين وزمانين
يضعنا محمد أبي سمرا، في كتابه «موت الأبد السوري»، الصادر عن دار رياض الريس/بيروت 2012، أمام ذاكرة مأساوية، تتوزع ما بين سوريا ولبنان، وتمتد من مجزرة حماه عام 1982، إلى ما بعد اندلاع ثورة الحرية في مارس 2011، وتقوم فصول الكتاب الخمسة، على الشهادات الحية لأناس يصفون ما لاقوه من قمع وفساد، في مختلف جوانب حياتهم جراء الممارسات الامنية السورية.
شهود وجنسيات
سُجّلت الشهادات، ما بين الأعوام 2006 و2011، وشهود الكتاب سوريون ولبنانيون، أو ينحدرون من زيجات مختلطة، الأول وُلد في بيروت من أب سوري وأم لبنانية، يحمل الجنسية الأميركية..
ويدرّس في جامعة شيكاغو، وتنقل شهادته صورة عن الفساد والتسيّب وتسلّط الطلبة البعثيين في جامعة حلب، التي قضى فيها سنتين (2003-2006) أستاذاً زائراً، منتدباً من جامعته الأميركية. أما الثاني فلبناني من مؤسسي «التيار الوطني الحر» المناهض للاحتلال السوري للبنان، ويروي يوميات اعتقاله وتعذيبه في أحد سجون الاستخبارات السورية في بيروت عام 1994.
اعتقالات واختفاء
ثالث الرواة في الكتاب، سوري الجنسية، لبناني المولد والنشأة، يحكي عن تعرّضه لاعتقالات عدة، ما بين 1988 و2005، وعن اختفاء أخيه حين بحث عنه عام 1989، واعتقال ابنه البكر، وإرغامه على أداء الخدمة العسكرية أثناء الثورة السورية. أما الشاهد الأخير، فهو شاب جامعي من بانياس، يستعيد حياته وحياة مجايليه، ويحكي عن اعتقاله وتعذيبه وفراره إلى لبنان، بعد اشتراكه في التظاهرات السلّمية.