يصور خليل صويلح في روايته «اختبار الندم» الفائزة بجائزة الشيخ زايد للكتاب في دورتها الثانية عشرة، حالة الحرب في سوريا؛ تداعياتها، وإفرازاتها، وما أظهرته مما كان مخبأ تحت رماد الكراهية ورياح التباغض التي عصفت بالمجتمع.
ويقدم صويلح في روايته ما عاشته دمشق تحديداً خلال هذه السنوات، متداخلاً مع حكايات ثلاث فتيات أقرب إلى الواقعية، إذا لم تكن كذلك فعلاً.
ويؤكد الكاتب، في حواره مع «بيان الكتب» اعتزازه الكبير بنيل جائزة الشيخ زايد للكتاب في هذا العام- فرع الأدب، كونها جائزة نزيهة ومتفردة.
كما يتحدث عن الأثر الذي تركه عمله في الصحافة في مشروعه الروائي، مبيناً أن حالة التشظي الأدبي عربياً أفرزت سرديات جديدة ومهمة، وأزاحت مومياوات الثقافة العربية من الواجهة لمصلحة أسماء جديدة مهمة وجريئة وشجاعة. ويدعو صويلح في الوقت نفس، إلى ضرورة البحث في الخلل الذي أصاب القيم، والنبش في الأسباب التي أوصلت حياتنا إلى هذا الدرك من الوحشية والخراب الروحي.
فوز «اختبار الندم» بجائزة الشيخ زايد للكتاب إنجاز للرواية السورية من خلال تفوقها على 337 عملاً أدبياً، حيث اعتبرت لجنة التحكيم «أن الرواية إضافة مهمة للرواية السورية في تفرد الأدوات السردية، والتراكيب اللغوية». كيف تنظر إلى دور وأهمية هذه الجائزة؟
ربما بإمكاني اختزال حديثي عن قيمة وأهمية جائزة «الشيخ زايد للكتاب» أنني أعتز بها، لكونها تتميز بأنها نزيهة ورصينة ونوعية ومتميزة.. وهذا ما يدعو إلى الطمأنينة.
أسباب الخراب
ما الندم بمعناه الأوسع الذي أردت التعبير عنه في بلد يعيش حالة حرب على مدى سنوات؟
الأمر يتعلّق بهذا الخلل في القيم، وضرورة فحصها وتقليب تربتها بسكة محراث أخرى، وتالياً فإن الندم يذهب إلى مسلك آخر، أبعد من معناه في المعجم. الندم على أوقات الهباء المتراكمة، ونبش الأسباب التي أوصلت حياتنا إلى هذا الدرك من الوحشية والخراب الروحي، وكيفية معالجة الخلل بالطرق الناجعة، وكذلك إعادة تدوير الألم.
كما يحدث لساعة رملية في تبديد ما هو مشع في أرواحنا. في رواية «اختبار الندم» كان الراوي يتأمل حياته في مرآة الراهن، وإذا به يجد نفسه مهشّماً وممزّقاً مثل خريطة البلاد، في حالة عمى جمعية أفرزت دماراً نفسياً يصعب ترميمه وترويضه مجدّداً، كمحصلة لتراكمات كثيرة.قلت في مقابلة سابقة تعود إلى 2010:
«لا أكتب جملة فائضة»، مستفيداً من روافد الكتابة الصحفية خلال العمل السردي، هذا إلى جانب أنك جئت من الشعر إلى الرواية.. ما الذي أضافه هذا إلى مشروعك الروائي؟
أظن أن الروائي ينهل من الصحافي، والعكس صحيح أيضاً، في عملية تبادلية، ذلك أن العمل في الصحافة الثقافية يتيح الاشتباك مع حقول معرفية مختلفة، ستجد مكانها، بطريقة ما، في المتن السردي، خصوصاً لجهة الكثافة والتقطير اللغوي والمشهدية.
واستثمار الأرشيف في بناء سرديات روائية تفترق عملياً عن المادة الخام التي تتيحها المادة الصحافية، سواء لجهة التخييل، أم لجهة السبك اللغوي، لكنني الآن أمزج الخبرتين معاً في وعاء واحد، لمصلحة النصّ في المقام الأول، خصوصاً أن العمل الروائي يستطيع امتصاص وجذب مختلف الأجناس الأخرى، مثل الشعر والتشكيل والموسيقى، في خلائط سردية متجانسة.
تستخدم النصوص الأدبية في رواياتك، ما الذي تسعى إليه من خلال إعادة التدوير هذه؟
لطالما استرشدت بما قاله رولان بارت يوماً: «لا توجد كلمة عذراء»، وبناء على ذلك فكل ما نكتبه اليوم، هو كتابة على كتابة، وكتابة ومحو. لكن المسألة، في نهاية المطاف، ليست إعادة تدوير بقدر ما هي بحث عما هو مشع واستثنائي، كما أن شخصية الراوي هي من تتحكم بمسالك النص ومرجعياته، والراوي في معظم رواياتي ينتسب إلى شريحة مثقفة.
وهذا ما يتيح أمامه استقطاب شذرات من نصوص مؤثرة بوصفها مرجعيات معرفية له، ثم إنها تأتي كجزء من النسيج العام لقماشة النص. كنت نوهّت مرّة بأننا نحمل على أكتافنا «مقبرة من الأسلاف»، وبناء على هذه الفكرة، لا أتردد باستدعاء نصوص أو شخصيات تاريخية إلى شوارع اليوم، كأن يأتي ابن خلدون إلى مقهى الروضة في دمشق، أو أن أقابل المعرّي في المنام.
ثقافة نوعية
وصفت الثقافة السورية أنها «شبه ميتة». هل تعتبر أن شيئاً ما قد تغير؟ وهل أنت متفائل بأن تنتج الأزمة السورية جيلاً روائياً يبشر بالتغيير وكسر السائد؟
قلت «شبه ميتة» بناء على حالة الركود التي تعيشها هذه الثقافة، بحرب أو دونها، لغياب الفضاءات المستقلة البديلة، فالمؤسسات المعنية في الوقت الحالي لا تنتج ثقافة نوعية، أو مقترحاً إبداعياً مبتكراً. في الحرب استيقظ الشعراء العموديون وسيطروا على المنابر.
فيما غزت أسراب الجراد مواقع التواصل الاجتماعي بوصفها غنيمة حرب عبر نصوص ركيكة بدون أية حوامل معرفية. سنحتاج زمناً طويلاً لفرز محتويات هذه الوليمة المسمومة.
مومياوات الثقافة
في ظل هذا الواقع العربي المتشظي الذي نعيش فيه، كيف ترى الحراك العربي الأدبي؟
هذا التشظي أفرز سرديات جديدة ومهمة، متخففة من الهتاف الأيديولوجي، وأزاح مومياوات الثقافة العربية من الواجهة لمصلحة أسماء جديدة، أظنها مهمة وجريئة وشجاعة.
«اختبار الندم».. حرائق الخراب والرايات السود
يستهل خليل صويلح روايته «اختبار الندم»، المؤلفة من ستين فصلاً، بتساؤل عن معنى الندم؟ قبل أن يبدأ بسرد علاقة بطل الرواية مع أسمهان مشعل، تلك القادمة من جنوب البلاد، والتي تعيش عزلة طويلة، في قرية منسية، لم تطأها قذيفة واحدة طوال أعوام الحرب.
يعتبر زيارة أسمهان التي تعرَّف إليها عن طريق موقع «فيسبوك» «فألاً حسناً أو وقتاً مستقطعاً يكسر سأم أيامه المتشابهة، وهو الذي كان الضجر أحد أسبابه في تطريز عباءة العزلة والتدثر بها كل هذا الوقت».
يعرض الراوي تطور علاقته مع أسمهان، وصولاً إلى الانتهاء في (الغوص في الرمال المتحركة للمعصية)، يقول هنا: «حرائق الحرب قذفت أفكاري بعيداً ولم يعد وارداً أن أكتب عن غراميات مرحة وسط الجحيم اليومي وأخبار الموتى وفواتير الكراهية التي كان علينا أن ندفعها كل يوم».
يسمي الراوي الأماكن بأسمائها الحقيقية في دمشق، ويصور زحام التفتيش على الحواجز، والقذائف التي كانت تصيب العاصمة كل يوم، ويحكي عن آلاف المهاجرين الذين تركوا البلاد لتلتهم أسماك البحر المئات منهم، «لا أعلم تماماً كيف احتملت تدابير هذه الوليمة المتنقلة من القتل والمذابح والمقابر الجماعية والمجاعات وعنف الأرواح».
يعرج الراوي على كوابيس داهمته (المعري الذي قطع التكفيريون رأس تمثاله في المعرة، ومقبرة جماعية لأصحاب صور يعرفهم يرقدون فيها باطمئنان بعد أن اجتاحت قريتهم جماعة تكفيرية)، كما يروي حكاية صديقه القديم كمال علوان وفكرته الخارقة «بتقويض إسمنت الدولة».
الراوي الذي يعمل على إعداد فيلم لورشة من الهواة في معهد يعلِّم كتابة السيناريو، تقتحم تفاصيل حياته المتدربة نارنج عبد الحميد، بوجعها الشخصي، وهي التي تعرضت للاعتقال والاعتداء، بعد أن وشى بها صديقها الحميم في النضال السري «حسام» الذي هاجر إلى برلين لاجئاً سياسياً. «أضعت جزءاً من معجمي بعد تعرضي للاعتقال ثم فقدته تماماً إثر الاعتداء علي».
يصور الراوي أيضاً علاقته بهنادي عاصي، ومحاولته التقرب من صديقة أسمهان مشعل، جمانة سلوم، ونايا مروان التي انتحرت في كيب تاون، وأصدقاء ماتوا في هجرتهم القسرية، والشاعر البدوي الذي قتلته أسراب الجراد براياتها السود في مدينة دير الزور، وحارس مسرح القباني وموته دون أن يرثه أحد، أو يخرج في جنازته ممثل واحد.
والمترجم الروسي، الذي دمرت مكتبته قذيفة وعاد يبحث عنها في أسواق الوراقين.
«ما تفسير أن تعود مطحنة الهلاك إلى الدوران عند النقطة التي توقفت عندها من دون أن نحتج على ذلك!» غياب نارنج، الشخصية المحورية في الرواية، كان نوعاً من الموت المؤقت لبطلنا، الذي لم يتوقع أن تترك ندبة بهذا الحجم في يومياته، حيث لم تعد أي من الأخريات تعنيه «خرائطي ممزقة، ولم يعد مفيداً ترقيعها، أو رفو تضاريسها بالحنين، أو الندم».
إضاءة
خليل صويلح: روائي سوري، من مواليد الحسكة 1959. يحمل إجازة في التاريخ من جامعة دمشق. من رواياته: وراق الحب، بريد عاجل، جنة البرابرة، إلى جانب عنوانين في النقد: اغتصاب كان وأخواتها، حوارات مع محمد الماغوط، وقانون حراسة الشهوة.