ظل التسامح على الدوام قيمة مثلى، يركض الجميع خلفها، ويسعون إلى ترسيخها بين ثنايا النفس والمجتمع، في وقت شهد التاريخ الإنساني إطلالات مختلفة، لمصطلحات حاولت مقاومة قيمة «التسامح»، لعل أبرزها «التشدد» الذي يستحضر إدانة أخلاقية بحد ذاته.
ولعل ذلك كان مقدمة لظهور ما عرف باسم نظرية «صراع الحضارات» لصامويل هنتيغتون، التي أثارت في مطلع التسعينيات جدلاً واسعاً على مختلف ساحات العالم.
وفي كتاب «في التسامح دفاع عن الاستقلال الأخلاقي» يبدو مؤلفه البروفيسور البريطاني فرنك فريدي مولعاً بالمواجهة، حيث يتحدى في كتابه «المزاج الهادئ للتسامح» تجاه السلوكيات الموصومة أخلاقياً، متفحصاً في الوقت نفسه الأشكال المعاصرة لـ«السلوك غير المقبول».
ويعد كتاب «في التسامح» باكورة إنتاج المترجمة السورية لينا طراقجي، الحاصلة على شهادة البكالوريوس في الدراسات الدولية من جامعة كاليفورنيا، اير فاين، ليبدو الكتاب بمثابة خطوتها الأولى نحو دخول عالم الترجمة، والذي قالت في حوارها مع «البيان»: إن قوة اللغة والتمكن منها هي العمود الفقري لأي مترجم.
مبينة أن هذا الكتاب هو ثمرة الدورات التدريبية التي خاضتها خلال التحاقها ببرنامج دبي الدولي للكتابة، مشيرة إلى أنه استغرق نحو 7 أشهر، وأن أهمية الكتاب تكمن في طبيعة تناوله لقيمة التسامح فلسفياً وتاريخياً.
طريق
باختيارها كتاباً للبروفيسور فرنك فردي، يبدو أن لينا فضلت سلوك الطريق الصعب في عالم الترجمة، ورغم ذلك استطاعت بهمتها أن تتخطى مصاعبه، وأن تقدم كتاباً تميز بلغة جميلة وواضحة، ومحكمة.
وعن أسباب اختيارها لهذا الكتاب. قالت: اختياري لهذا الكتاب جاء لطبيعة تناوله لقيمة التسامح، من الناحية الفلسفية والتاريخية وبما يتصل بها من علم الاجتماع،.
وبتقديري أن أهمية هذه القيمة تكمن في كونها أساساً قامت عليه العديد من الحضارات بدءاً من الإغريق القدماء وحتى يومنا الحالي، ولا تزال موجودة ومتأصلة في مجتمعاتنا الإنسانية وبقوة، الأمر الذي ساهم في تحويل التسامح إلى قيمة فردية ومجتمعية ودولية أيضاً، حيث تحكم طبيعة العلاقات بين الدول والمجتمعات، كما أنها تحكم سياسات مختلفة في العالم.
في حديثها، تشير لينا إلى أن أهمية ما يطرحه الكاتب فرنك فردي في كتابه يأتي من خلال تناوله لقيمة التسامح من كل أطرافها. وقالت: الكاتب لا يكتفي بأحادية النظرة إلى هذه القيمة، فهو يرى أن جاذبية الكلمة ساهمت في انتشارها بالخطابات.
دورات
«في التسامح» يعد ثمرة لينا الأولى بعد التحاقها ببرنامج دبي الدولي للكتابة، واصفة نفسها بـ«المحظوظة» بانضمامها إلى البرنامج، حيث قالت: ترجمة الكتاب استغرقت نحو 7 أشهر، وتمت تحت إشراف الأستاذ كامل يوسف، رئيس قسم الترجمة في البيان سابقاً، واحتاج العمل إلى دورات مكثفة وتطبيق فعلي وليس نظرياً فقط، في مواضيع الترجمة على اختلافها.
وأشارت إلى أن تجربتها في هذا البرنامج، شرعت أمامها أبواباً من المعرفة. وقالت: خلال التحاقي بالبرنامج تعرفت أشياء كثيرة لم أكن قد تطرقت لها بعد في تجربتي، مثل ترجمة كتب الاقتصاد والحروب والسير الذاتية والقصص القصيرة، والروايات وغيرها، حيث إن لكل نوع تكتيكاً معيناً في العمل.
ففي بعضها لا تحتمل الترجمة الحرفية، وإنما تحتاج إلى ترجمة روح النص، خاصة في القصص القصيرة والشعر، بحيث نتمكن من تقديمها إلى القارئ العربي بطريقة يفهمهما وكأنها كتبت أصلاً بلغته.
أهمية اللغة
وبينت لينا التي تعكف حالياً على ترجمة 3 كتب جديدة، واحد منها تاريخي، أن اللغة مهمة جداً بالنسبة للمترجم. وقالت: اللغة مهمة جداً، وهي عتاد المترجم وعموده القوي ولذلك يجب عليه أن يكون متمكناً منها، وممسكاً لأعماقها، وأن يكون لديه اطلاع واسع على مختلف المجالات، لا سيما المتخصص فيها.
لأن ذلك يعينه في إيجاد صيغ لغوية صحيحة وجديدة، يمكنه استغلالها في عمله، وتمكنه من الحصول على لب المعنى، وتقديمه بلغة محكمة وغير ركيكة، خاصة إذا كان العمل يتعلق في ترجمة الأدب والروايات، والتي تحتاج إلى جزالة في اللغة والمعاني.
نظرة لينا إلى حركة الترجمة من اللغات الأجنبية إلى العربية، بدت متفائلة. وقالت: في الوقت الحالي تشهد هذه الحركة نشاطاً كبيراً مقارنة مع السنوات الماضية، خاصة في الإمارات التي شهدت إطلاق العديد من المبادرات والمشاريع الجيدة.
وعلى رأسها تحدي الترجمة الذي أطلقه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، حيث شكّل ذلك نقلة نوعية في حركة الترجمة، وعمل على تشجيعها ودب النشاط فيها.
خلط
بلغة جادة وجذابة، قدمت لنا لينا طراقجي، كتاب «في التسامح» والذي قامت بتقسيمه إلى 9 فصول رئيسية، إضافة إلى مقدمة وتصدير، وتناولت في كل فصل جانباً من قيمة التسامح، التي ذهب الكاتب فرنك فردي في البداية إلى توضيح طبيعة التسامح،.
والتي كما يقول في «مقدمة إيضاح القضايا» أن فكرة التسامح تعرضت للكثير من أوجه الخلط الفكرية المهمة. غالباً ما يقدم التسامح على أنه شكل من التقبل غير المستند إلى حكم على معتقدات الآخرين، ولكن تحمل رأي غير مقبول يتطلب حكماً مسبقاً على الأفكار المطروحة. مضيفاً أن فكرة التسامح الكلاسيكية أصبحت «إشكالية في عالم يكون فيه تقبل اختلافات الآخر أمراً إلزامياً».
ويذهب الكاتب في فضل «التسامح باعتباره مورداً ثميناً» إلى استكشاف مسيرة التطور التاريخي لفكرة التسامح، مبيناً أن هذه الفكرة تخضع على الدوام إلى الاهتمامات البراغماتية للأفراد وأهدافهم. ويقول الكاتب فرنك: إن المجتمع «لا يظهر جديراً بالتصدي لمهمة قبول المتطلبات التي يطرحها التسامح عليه.
لكن، في النهاية، يتجلى التسامح كمورد ثمين يحتاج إلى تجديد فكري متواصل». ويضرب في ذلك مثلاً بالمجتمع الغربي، الذي أصبح خلال منتصف القرن الفائت، راضياً عن نفسه فيما يتعلق بقيمة التسامح.
الكاتب فرنك فريدي، يشير في فصل «الخلط بين التسامح والإقرار» وتحت عنوان فرعي «المنعطف العلاجي» أن التسامح «مرَّ تاريخياً على محطات عدة، غير بها اتجاهه ابتداءً من إدارة المعتقدات إلى إدارة العلاقات بين الجماعات، الأمر الذي تزامن مع الرغبة المتزايدة في تقديم الهوية كبيان ثقافي، للحياة الداخلية للذات».