عشية مطلع 2014، الطقس بارد وممطر في الخارج، باريس منذ أسابيع تخلت عن لباسها الخفيف، لتعانق لباس الشتاء وخشب المدافئ، الجمهور بالخارج ينتظر منذ أكثر من ساعة في طابور طويل بالحي اللاتيني، البعض خفف من ثقل الانتظار بارتشاف سيجارة والبعض الآخر تصفح أخبار جريدة ما.
وبعد ساعات انتظار وحدهم الأوائل من حظوا بالدخول، فالمسرح صغير ومقاعده قليلة ولا مكان للجميع فيه. الكل هنا جاء لمشاهدة "المغنية الصلعاء"، مغنية فاق عمرها نصف قرن وصلعاء كذلك، ولا يزال يرتادها العشرات منذ 60 عاماً لرؤيتها، هذه المسرحية الخالدة، التي سطرتها أنامل أيقونة المسرح العبثي أوجين يونيسكو، فجاءت عبثية وكان له ما أراد.
عبث مسرحي
"المغنية الصلعاء" مسرحية كتبها المؤلف المسرحي والكاتب الفرنسي الروماني أوجين يونيسكو، أحدث بفضلها ثورة في الفن الرابع منذ أول عرض لها في مايو عام 1950. المسرحية. تمجد مسرح اللامعقول، أو المسرح العبثي، الذي تأخذ فيه السخرية من عبثية أوضاع الحياة القسط الأكبر في جميع الفصول، تسخر من وحدة الإنسان.. تسخر من البرجوازية ومن أحكامها التسلطية.
من خلال "المغنية الصلعاء" ولد أوجين يونيسكو نوعاً جديداً من المسرح أو ما صار يسمى بعدها بالمسرح المضاد، مسرح من دون أبطال، من دون حبكة قصصية ولا قضية تشد المتفرج إليها، من دون بداية ولا نهاية، مسرح تأخذ فيه السخرية أعلى قممها، والعبث سيد الموقف فيه،
نظرة جديدة
أوجين يونيسكو جاء بنظرة جديدة للفن الدرامي، جاء بها على عكس ما يحدث على خشبات المسرح في فصل واحد فقط ومن أحد عشر مشهداً.
ويقول أوجين يونيسكو إن فكرة كتابة "المغنية الصلعاء" جاءته عندما كان يتلقى دروساً في الإنجليزية على أسلوب "أسيميل" (نسبة لدار نشر فرنسية لتعليم اللغات تأسست في عام 1929 من قبل ألفونس شيرل) وتقوم أساساً على مبدأ الاستيعاب الحدسي الذي يستند على الاستماع، والقراءة، والتكرار اليومي لجمل بسيطة.
تأثر يونيسكو خلال استماعه اليومي لمنهجية "أسيميل" بتسلسل الجمل وتتابعها ولكن من دون ترابطها، تأثر بمضمون الحوارات من دون أن تعني شيئاً بينها.
جمال عبثي
وانطلاقاً من هذا "الجمال العبثي" قرر يونيسكو أن يكتب مسرحيته التي تعد الأولى في مشواره الأدبي والمسرحي، والتي قرر تسميتها "الإنجليزية بلا عناء". زلة لسان لأحد الممثلين خلال حصة تدريبية نادى من خلالها "المعلمة الشقراء" (التي كانت أصلاً في النص) بـ"المغنية الصلعاء"، جعلت يونيسكو يعتنق الكلمة الجديدة ويجعلها اسماً لمسرحيته.
قصة المسرحية
حول مدفأة خشب تبدأ أطوار المسرحية بحوار بين الزوجين سميث القاطنين بأحد أحياء لندن البرجوازية، انتهيا للتو من العشاء، فالساعة التاسعة مساءً. بكلمات متتابعة وجمل لا علاقة للواحدة بالأخرى يبدأ الزوجان الحديث عن عائلة اسم جميع أفرادها بوبي واتسون.
الخادمة بوبي، تدخل في الحديث والحوار الذي لا منطق فيه، ليتبعها الضيفان مارتان. قائد مطافئ يدق الباب أربع مرات يدخل هو الآخر في الحديث..خلال دقائق يتحدث هو الآخر عن عبث شغله.
شخصية غائبة
وطيلة ساعة من الزمن نريد أن نبحث ونتشبث بـ"المغنية الصلعاء"..إلا انها في الحقيقة شخصية غائبة لا تظهر طوال المسرحية، غير مرتين من خلال سؤال عن حالها، وجواب يقول إنها لا تزال تصفف شعرها.. (وهي الصلعاء)!. طيلة المسرحية، يلعب العبث بكل شيء على المسرح الصغير الذي تنبعث منه رائحة الخشب القديم، عبث في الحوار ..عبث في الممثلين .. في الديكور والأضواء.
انتهت المسرحية وأنزل الستار ووقف الجميع محيياً ومصفقاً لـ"المغنية الصلعاء"، وكأنهم فهموا قصتها وهي التي لا قصة لها، لعلهم في العبث الذين عاشوه خلال سهرة مع "سيدة" يونيسكو، لمحوا عبث الحياة الذي يعيشون فيه، أو العبث الذي يريدون أن تكون عليه حياتهم حتى تكون الأمور أقل تعقيداً وأكثر بساطة.
رائد المسرح العبثي
ولد أوجين يونيسكو في الخامس والعشرين من نوفمبر عام 1909 في بلدة سلاتينا الرومانية، من أب روماني وأم فرنسية وقضى فترة طويلة من حياته في السفر بين باريس ورومانيا، يعد من أبرز وجوه المسرح العبثي في العالم، مسرحياته تصف وحدة الإنسان وانعدام الغاية في الوجود الإنساني. من أهم أعماله؛ الكراسي (1952)، الخرتيت (1960)، الملك يحتضر (1962)، ماكبث (1960).
نال عضوية أكاديمية اللغة الفرنسية عام 1970، وتوفي عام 1994 بالعاصمة الفرنسية باريس.
محطات
1950
بداية صعبة
بداية المغنية الصلعاء كانت صعبة بالنسبة لمن كتبها وبالنسبة للممثلين الذين جسدوا شخصياتها، فأول عرض لها كان في 10 مايو 1950 بمسرح "دي نوكتامبيل" في باريس. ورغم أن الجمهور كان حاضراً يومها في القاعة إلا أن الكثير دهش بهذا النوع الجديد من النص والأداء المسرحي العبثي، فراح يصرخ في وجه الممثلين "من هؤلاء الأغبياء؟ هم يستهزئون بنا".
1957
عمل يشق الطريق
في فبراير من عام 1957، أخذت "المغنية الصلعاء" من مسرح "لا هوشيت" الصغير بالدائرة الباريسية الخامسة بالحي اللاتيني في باريس مقراً جديداً لها، ومنه عرفت كيف تشق طريقها ببطء إلى قلوب الجمهور، لتبقى على وعدها كل مساء طيلة 57 عاماً.
وقد أخرجها العديد من المخرجين العالميين أشهرهم نيكولا باطاي الذي تلعب صيغته في مسرح "لا هوشيت".
1960
توجد رسالة مكتوبة بخط اليد عام 1960 يمكن أن نقرأ عليها جملة كتبها أوجين يونيسكو بعد النجاح الكبير لمسرحيته "المغنية الصلعاء" بمسرح "لاهوشيت"، وجاء فيها: "نجاح كبير على مسرح صغير أحسن من نجاح صغير على مسرح كبير، وأحسن كذلك من نجاح صغير على مسرح صغير". وصار مسرح "لا هوشيت" اليوم بمثابة متحف يأتيه الزوار من كل مكان، للتمتع بـ"المغنية الصلعاء".
2000
جائزة موليير الشرفية
مسرحية "المغنية الصلعاء" برفقة توأمتها، العمل الآخر ليونيسكو والذي يعرض كذلك في مسرح "لاهوشيت" المعنون "الدرس"، حطما الرقم القياسي العالمي بخصوص العروض التي تقدم في المكان نفسه ومن دون انقطاع منذ 57 عاماً. حيث سجلا 17700 عرض على المسرح ومليوني متفرج، وحصلا عام 2000 على جائزة موليير الشرفية.