بداية يمكننا القول: إنه ليس ثمة جيل منذ الخمسينيات في القرن الماضي.. وحتّى اليوم، يجهل إحسان عبد القدوس (1919-1990)، ويجهل أعماله الإبداعية التي انتشرت كالنار في الهشيم، بين صفوف الشباب المتطلّع إلى حياة عصرية يسود فيها الحبّ والرومانسية..
وترافق ذلك مع صعود نخبة من نجوم السينما والغناء الذين مثّلوا أفلامه وأشاعوا أفكاره التي بثّها في رواياته المختلفة (22 رواية طويلة)، بدءاً من العام 1954 مع رواية «أنا حرّة»، وانتهاءً برواية «قلبي ليس في جيبي» عام 1989، وهكذا تابعت الأجيال رواياته التي حوّلت إلى أفلام شهيرة، مثل:
«لا أنام»، «شيء في صدري»، «النظارة السوداء»، «في بيتنا رجل»..وأشهرها «أبي فوق الشجرة». فضلاً عن مسلسلات التلفزة الجماهيرية، كـمسلسل «لن أعيش في جلباب أبي»، وعديد المسرحيات والتمثيليات الإذاعية.
ارتبطت أعمال إحسان عبد القدّوس بالواقع المصري ومع صعود الخطاب التحرري الناصري واستجابة الطبقات الشعبية والوسطى لهذا الخطّاب، فكانت أعمال عبد القدّوس نموذجاً واضحاً لهذه الرغبات الجمعية في التقدّم وبناء مملكة الحلم في شقّيها السياسي ونموذجه الاشتراكي، والاجتماعي.
وبات فيه معيار التقدّم العلاقات الأسرية السليمة وتحرر المرأة. المرأة التي ذهبت للجامعة وتبوّأت المناصب وبات لها حضور قوي في مسيرة التنمية. فكان على إحسان عبد القدّوس وزملائه أن يعززوا هذا التوجّه وأن يمضوا قدماً في بناء مملكة الحلم، على الأقل في مرحلة ما قبل النكسة التي أعادت الحالمين إلى الواقع ليتبصّروا أحوالهم وأخطاءهم.
1957
«في بيتنا رجل» الرواية التي نشرت عام 1957 أرّخّت لمرحلة ما قبل الثورة المصرية 1952، ولقيت صدى كبيراً آن صدورها في الوسط الثقافي والشعبي المصري، وموضعت إحسان عبد القدوس في صفوف الكتّاب المتميزين، لأطروحته الفكرية الملتزمة من جانب ولبراعة أسلوبه الشائق في تناول مرحلة شديدة التعقيد سياسياً..
وذلك من خلال عدد من الشخصيات التي تميّزت بوطنيتها ورومانسيتها الثورية، مع هبّة الشباب الجامعي لتحرير البلاد من المستعمر الإنجليزي وأعوانه، وهو الجانب المضطرب الذي عاشه إحسان في مرحلته الجامعية وقراءاته المستمرة لمآلات الحرب العالمية الثانية على الصعيد الاجتماعي. وتصاعد أفكار التحرر الوطني من الاستعمار.
أحداث وتصاعد وتشويق
يقدّم إحسان بطله الشاب إبراهيم حمدي كثوري يشارك في المظاهرات الطلابية ويخطط لها ويقترح حلولاً لما يعترضهم من مشكلات، من دون أن يبرز كقائد، وبعدما يستشهد صديقه محمود في إحدى المظاهرات، يقرر اغتيال رئيس الوزراء لأنه خائن ومتعامل مع الإنجليز، وبعد أن يقبض عليه يعذّب في السجن عذاباً شديداً مما استدعى نقله إلى المستشفى للعلاج..
وهناك يتعاطف معه الممرض فيتمكّن من الفرار ويلجأ إلى بيت صديقه وزميله في الكليّة، محيي زاهر، الشاب المؤدّب والخجول والبعيد كلّ البعد عن السياسة، ومع هذا اللجوء تبدأ أحداث الرواية بالتصاعد والتشويق. وفي العام 1961 اختار المخرج الشهير هنري بركات مجموعة من مشاهير نجوم السينما لتمثيل أحداث الرواية:
عمر الشريف بدور (إبراهيم حمدي)، حسن يوسف بدور (محيي زاهر)، رشدي أباظة بدور (عبد الحميد زاهر).. ابن عم محيي الذي يتردد إلى بيته ويكتشف وجود إبراهيم المتواري، فضلاً عن الممثل حسين رياض بدور الأب زاهر، إلى جانب ابنتيه (نوال) زبيدة ثروت، وزهرة العلا.. بدور أختها سامية، وأخيراً الأم ناهد سمير.
يستفيد المخرج من الحبكة المغامراتية ومن أبعادها الدرامية على صعيد الحدث السياسي المرتبط بالاغتيال، والحدث الاجتماعي بوجود رجل غريب يختبئ في بيئة من الطبقة الوسطى المحافظة..
ولا شأن لها بالسياسة لكنها أسرة وطنية نموذجية، تناقش أمر استضافة الشاب الهارب، ثمّ توافق على استقباله، الأمر الذي يكشف عن مدى ارتباط الشعب بالحركة الوطنية. وفي الوقت نفسه، يكشف عن مدى وعي الفتاة الشابة (نوال) وتقديمها كرمز موازٍ لجيل الشباب والمستقبل المقبل.
واقعية وحيوية
وفي هذه العجالة نعتقد أن فيلم «في بيتنا رجل» يستحقّ لقب العمل الخالد بجدارة، كما تستحقّ الرواية هذا التكريم تبعاً لزمن الإنتاج المترافق مع نهضة السينما المصرية، التي يعتبر هنري بركات أحد عمالقتها، فعمل على دمج علاقة الحبّ بالجانب الوطني بشفافية وتلقائية تدفعان المشاهد للتماهي مع أبطال الفيلم حتّى في يومنا هذا..
وذلك هو سرّ الإبداع وسحره الذي لا يمكن اكتشافه إلاّ بمشاهدة الأداء الأخّاذ لعمر الشريف وحسين رياض وزبيدة ثروت والفنانين الآخرين، إنها شخصيات واقعية لكنها زاخرة بالحيوية ومتطلّعة إلى المستقبل بتوقٍ عبّرت عنه الوجوه المشرقة بالأمل: الأبّ الذي يستقبل الثائر الهارب مرحباً: «تفضّل أنت زي ابني محيي، غير أن دورك في الحياة مختلف».
وإلى ذلك سيكتشف المشاهد مقدار وعي الأب لمسألة الاغتيال السياسي واعتباره تطرّفاً وعنفاً لا مبرر له، بينما يعمل إبراهيم على تبرير فعلته بأن عبد الرحيم باشا شكري خان مصر بارتباطه مع الإنجليز،..
فأصدر الشعب حكمه عليه بالإعدام، وهو من نفّذ هذا الحكم، وقد عالجت روايات عدة مسألة الاغتيال السياسي. ونذكر منها: رواية مطاع صفدي «ثائر محترف»، وربّما كان مثل هذا الطرح متداولاً في أوساط جيل الشباب المسيّس، ولا سيّما مع انتشار الأفكار الثورية وتوسّعها مع حركة التحرر العالمية حينها.
وبذكائه وخبرته الإخراجية، يدفع المخرج بجملة من الحبكات الصغيرة التي تترابط مع بعضها لتقديم البنية العامة للنصّ الروائي أو الفيلمي، فثمة حبكة المظاهرات الطلابية بحشودها الشبيهة كل الشبه بثورة يناير 2011، وثمّة عملية الاغتيال والسجن، ثمّ ما تركه لجوء إبراهيم من أثر في حياة الأسرة، لا سيّما وأن الإذاعة بدأت تعلن عن مكافأة كبيرة لمن يساعد في القبض عليه، ومعاقبة من يتستر عليه.
وعلى هذا النحو من التشويق والإثارة والدفع بالأحداث نحو مزيد من التشابك. يبرز دور الشابة نوال في تهدئة المخاوف وفي حضورها الواعي المباغت للمسألة الوطنية، الأمر الذي يلفت انتباه إبراهيم فيعجب بها وتبدأ علاقة الحبّ بينهما.
مواظبة وهدف
وفي جانب الحكومة، حيث يؤدّي الفنان توفيق الدقن دور ضابط الأمن العنيف والممتثل لأوامرها في قمع المظاهرات بإسالة الدماء، فإنه سيواظب بدوره على دفع الدوريات الأمنية للبحث عن الهارب.
الأجواء الرمضانية بدورها تمنح المشاهد جانباً من الحياة الروحية للشعب ممثلاً بأسرة زاهر المتماسكة والمتضامنة مع قضية ضيفها، فتسعى لطمأنته وجعله ينخرط في حياتها كأحد أفرادها، ويتكشّف ذلك مع مجيء عبد الحميد (رشدي أباظة) المفاجئ، واكتشافه وجود الضيف..
ومن ثم يثير حزناً حقيقياً وخيبة أمل كبيرة كون جهودها ذهبت هباءً، نظراً لاعتقادها التام أن عبد الحميد من الصنف الذي يفضّل المال على المبادئ، وأنه سيكشف أمره للأمن لولا حبّه لسامية ورغبته في الزواج منها فيستغلّ هذه اللحظة ويطلب يدها من أبيها، مع تهديد مبطّن ولكنه واضح، وهنا سيتجلّى دور الأسرة في تبني قضية الشاب حتّى النهاية، ولو تطلّب الأمر إيصال رسائل (إبراهيم) إلى أصدقائه الثوار..
وبذلك ستتمكّن (نوال) من إيصال الرسالة مما يضيء جانباً من قناعاتها بأنه لكلّ إنسان دور يؤدّيه تجاه وطنه، وفي الوقت نفسه، تعكس هذه القناعة وعي الجيل الشاب، وخاصة المرأة، تجاه الوطن.
ويمكننا في الختام التنويه إلى التناغم ما بين الفكر والشاعرية الرومانسية التي عبّر عنها المحبّان بأداء عال من قبل عمر الشريف وزبيدة ثروت، الأمر الذي خفّف من حدّة الطرح السياسي والمواقف المتشددة التي لاحظناها في مستهل الفيلم، وهذا بدوره سيؤكّد مدى قناعة المؤلّف أولاً والمخرج ثانياً في أنّ الحبّ لا معادل له في الحياة سوى الحرّية.