يعد الكاتب التشيكي فرانس كافكا من أفضل الكُتّاب الذين كتبوا بالألمانية، سواء في فن الرواية أو القصة القصيرة؛ حتى لُقب بـ«دانتي القرن العشرين». لم يكن يعلم كافكا -الذي أحرقت أغلب أعماله وهو على قيد الحياة-، أنه في يوم من الأيام سيتمتع بقدر الشهرة والهالة التي تحيط باسمه حالياً، لا سيما أنه كان يسير في درب خاص يجمع بين الرمزية والعبثية.

وفي روايته «المحاكمة»، أو كما تترجم في بعض الترجمات بـ«القضية»، التي ترمي بظلالها على ملامح القهر والظلم والعبثية والعدمية في حياة الإنسان، نجد أنه من الصعب الحديث عنها بشكل كامل؛ لأنها –مثل بقية أعمال كافكا- يمكن أن تُقرأ من عدة زوايا، كما يمكن أن تفسر تفسيرات متباينة جداً.

حبكة ممتعة

تتناول الرواية في مضمونها قصة شخص يدعى جورزيف ك، تبدأ باستيقاظه في يوم ليجد بالباب رجلين يخبرانه بأنه مطلوب للمحاكمة، ولكنهما لم يوضحا أية قضية يتهماه فيها.

وفي أية جريمة يجري استجوابه، ومع تطور الأحداث وتغيرها وفشل «جوزيف ك» في معرفة جريمته يبدأ في الدفاع عن نفسه بشتى الطرق هو ومحاميه؛ لكن ما يواجهانه من صعوبات يتمثل في عدم معرفة ما هي جريمته، فكيف لفرد أن يدافع عن براءته وحياته في حين يجهل ما ارتكبه في الحياة.

8

لم يكن عدم معرفة الجريمة عائقاً أمام كافكا لاستكمال أحداث روايته التي امتدت على مدار ثمانية فصول، حيث توالت الأحداث بخفة ورشاقة أدبية مميزة، لا سيما مع انسحاب المحامي وعدم تمكنه من إنقاذ «ك»، ليبقى «ك» وحده أمام منظومة قضائية طاغية لا تخبره لماذا تحاكمه وإلى متى يستمر الوضع على هذه الحال؛ حتى تتسلل روح الإحباط والاكتئاب إلى «ك».

وبعد أن كان رجلاً نزيهاً يرأس أحد البنوك الكبيرة، حولته المنظومة القضائية إلى رجل متلاعب يحاول أن يُخرج نفسه من المأزق ويلجأ إلى سُبل غير شرعية، وكأن الرواية تقول إن «الحياة الفاسدة هي التي تجعلنا فاسدين، وليس نحن من نكون فاسدين منذ لحظة البداية».

أفكار

يتوالى زخم الأفكار على قارئ أعمال كافكا؛ فمثلاً: تشير هذه الرواية إلى الصعوبات التي يواجهها الفرد أمام المنظومة البيروقراطية العقيمة التي تؤثر في حياة الإنسان، وهو ما يضفي على العمل ملامح الكآبة والقلق المستمر، خاصة وأنه يحاكي «مدرسة العدم» في الصعوبات التي يواجهها الإنسان في الحياة.. وكيف يصل من شخص مليء بالحياة إلى شخص لا يملك في الحياة إلا جسداً خالياً من الروح، تلك الروح التي تَفْسد من سوء ما يواجه صاحبها في حياته المريرة.

وفي رواية «المحاكمة» تتسيد الرمزية والدلالية الموقف، بداية من اسم البطل «ك» وحتى طيلة أحداث الرواية يُنادى بهذا الاسم؛ وكأنه تجريد من كونه إنساناً وتحول إلى مجرد حرف أو رقم، كما الحال مع السجناء. الفرق عند كافكا بين إنسان روايته وبين السجناء، أن الإنسان يكون سجين حياته التي يعيشها، رغماً عنه أحياناً؛ إذ إنه يحضر للحياة وعليه الاستمرار واستكمال الصراع القائم، سواء بينه وبين نفسه أو بينه وبين العالم المحيط.

تجرد

خلال المرحلة التي عاش فيها كافكا تكونت عدة مدارس وتبلورت، مثل الدادية والعدمية، وكانت مقدمة لمدرسة العبثية التي تشير إلى الصعوبات التي يعيشها الإنسان؛ وبالتأكيد كان لكافكا حضور وتأثير على هذه المدارس التي أشارت إلى معاناة الإنسان وغوصه في مشكلات وجودية؛ السبب الوحيد فيها هو وجوده على قيد هذه الحياة.

أطلق كافكا على بطله لقب «ك»، في رمز لتجريده من الاسم؛ وإشارة إلى انعدام الهوية. ليس فقط الهوية في تعريفها الصغير كاسمه وعمله وسنه؛ بل الهوية الكبرى، وهي الهوية الإنسانية التي كرمها الله تعالى، لتكون ويكون معها أعلى من المخلوقات في الكرة الأرضية؛ إلا أن الإنسان يكسر أخيه الإنسان ويعيش الجميع مأساة متكاملة الأركان يصعب الخروج منها.

أيضا، يشير كافكا إلى الانتظار بلا جدوى؛ فـ«ك» ينتظر الحقيقة، هذه الحقيقة التي لا تظهر أبدا ويظل حبيس إثبات عكس ما يدَّعون؛ لتنتهي الأمور بالاستسلام بعد مقاومة دامت مع الأمل، لكنها رحلت مع تسلل الإحباط والإيمان بعدم القدرة على إثبات البراءة.

مدخل تعبيري

وفي العموم، نجد أن كافكا في إبداعاته صور الحياة وهي تسحق الإنسان وتفقده إيمانه لما هو قادم، ليبقى واقفاً؛ بل ويتراجع للوراء حتى يفقد عقله.

كما أن رصده لحالة التحول ليست مجسدة في «المحاكمة» فقط، بل نجدها أيضاً في مسرحيته «الإنسان الصرصار»؛ إذ تدور المسرحية حول شخص يستيقظ من النوم ليجد نفسه قد تحول إلى حشرة كبيرة تشبه الصرصار، وهو ما يعتبر سمة لدى الكاتب ومدخلًا للتعبير عن الإنسان من وجهة نظره.

مصير مجهول

دائماً ما اعتاد قارئ كافكا على الغوص في قضايا مجهولة النهاية. وكما هو معروف عن كافكا، كان شخصاً يصعب عليه كتابة نهاياته أو كيف ينهي الأشياء بصورة عامة. وفي رواية المحاكمة يظل المصير مجهولا، سواء بالنسبة إلى «ك» أو القارئ أيضا، وهي سمة من سمات روايات كافكا وأسلوبه.

صورة أدبية

لغة كافكا تؤهل القارئ للتحول إلى مُشاهد أيضا، فخياله لا يقف أبدا عند تصور ملامح «ك» الذي يظل قابعاً دون معرفة مصيره القادم.

وتُمكِّن لغة كافكا القارئ من تخيل المشاهد، وكما تصفها اللغات السينمائية فهي «السهل الممتنع»، وتعتبر لغة كافكا ممثلاً حقيقياً عن هذه الجملة البسيطة؛ فالسهل الممتنع لدى كافكا هو أمر عام يتقنه بكل أشكاله، سواء في تصوير أحداثه أو شخوصه، أو في نهاياته الخاصة.

لغة الآلة

مع اجتياح الثورة الصناعية للقارة الأوروبية مطلع القرن الثامن عشر، تحول الإنسان إلى ترس في ماكينة تفوقه حجماً بكثير، وفي انتقاد واضح لهذه البراغماتية الحادة يصور كافكا حياة الغرب في روايته وما آلت إليه في فترة لم تكن بعيدة عن الثورة الصناعية إلا بقرن واحد.

وتمثل رواية «المحاكمة»، التي صدرت بعد وفاة كافكا بعام واحد (أي عام 1925)، على يد صديقه ماكس برود الذي أنقذها من الحرق، دليلًا للقارئ المستجد على أدب كافكا وتستدعيه للتعمق في أدبه.

في السينما

1962

قُدِّمت رواية «المحاكمة» في عدة أعمال بالسينما العالمية، أولها في فيلم من إنتاج مشترك: ألماني وفرنسي، باللغة الإنجليزية، وحمل عنوان الرواية الأصلية «المحاكمة». أخرجه السينمائي الشهير أورسين ويلز. وحصد جائزة أفضل فيلم لنقابة النقاد السينمائيين الفرنسية عام 1964.

1993

التجربة الثانية التي تعتبر أقل نجاحاً من فيلم ويلز الذي لقي شعبية كبيرة، كانت تجربة الفيلم الأميركي الذي حمل كذلك العنوان ذاته «المحاكمة». ومن بطولة أنطوني هوبكنس. وركز الفيلم على شخصية الكاهن، إلى جانب محاولات جوزيف ك العبثية لإنقاذ نفسه من جريمة لا يعرف ما هي ولماذا يحاكم عليها.

في الأوبرا

2014

تلائم عبثية صيغة العرض المسرحي الأوبرالي؛ لا سيما أنها تتوافق والجانب الملحمي الذي تحمله الرواية، فضلًا عن التقائها مع طبيعة المسرح العدمي والعبثي. وعليه، قدمها المخرج البرتغالي كريستوفر هامبتون والملحن فيليب غلاس، على مسرح ويلز في دار الأوبرا الملكية بالعاصمة البريطانية لندن، وقدمت الأوبرا قدرا كافيًا من معاناة البطل في سجنه ومحاولات الخروج من هذا

العبث القاتم دون جدوى أو نجاح؛ وبالتأكيد تصدرت البطولة ألحان فيليب غلاس.

Ⅶرائعة أدبية تعالج مشكلات القهر والظلم والعبثية التي يعيشها الإنسان

Ⅶ أطلق المؤلف على بطله لقب «ك» إيحاءً بتجريده من الاسم وإشارة إلى انعدام الهوية

Ⅶ لغة العمل تؤهل القارئ للتحول إلى مُشاهد أيضاً لأن خيال كاتبه موسوم بالخصوبة والثراء

Ⅶالرواية دليل للقارئ المستجد يطلعه على أدب الكاتب التشيكي ويقوده إلى التعمق في عوالمه الإبداعية