تمتاز رواية «فتاة البرتقال» بثلاثة أزمنة، لمؤلفها جوستاين غاردر: الزمن الأول الذي كتبت فيه رسالة والد جورج حين كان عمر جورج لما يتجاوز سنواته الأربع، وهو زمن كان فيه والده يحتضر. الزمن الثاني هو عند اكتشاف الرسالة بعد أحد عشر عاماً على وفاة الأب، وقراءة جورج لها بعد أن أصبح في عمر يستوعب فيه مثل هذه الرسالة. أما الزمن الثالث فهو ذلك الزمن الذي تحدث فيه والد جورج عن فتاة البرتقال في رسالته المطولة إلى ولده جورج، وهو زمن لم يكن فيه جورج قد ولد بعد. وتبدو الرواية غارقة في عوالم الأسطورة والتخييلات الرمزية ما بين جيلين.
«.. حين فاضت روح والدي قبل أحد عشر عاماً، لم يكن قد انقضى من عمري سوى أربعة أعوام. ولا أظنني قدّرت يوماً أن الأيام ستطالعني بأخباره من جديد». هكذا بدأت الرواية بحديث جورج عن ذلك التواصل بينه وبين والده المتوفى، ويضيف جورج: «لست أعرف على وجه الدقة إلى أي حد من الحدود تكتمل ذكراه في مخيلتي.. من الصور التي لم تخنها ذاكرتي، فظلت راسخة فيها رسوخ اليقين، تلك الجلسة الحميمة التي جمعتنا ذات ليلة على شرفة البيت، نتطلع فيها إلى كوكبات النجوم وهي تتألق في سماء صافية رائقة في ذلك الليل الهادئ الجميل».
النص الكنز
ويتابع جورج حديثه: «اليوم صار عمري خمس عشرة سنة، اسمي جورج، وأقيم في هومليفاي بأوسلو، مع والدتي وجورجن ومريام. جورجن هو والدي الثاني، أما مريام فهي أختي الصغرى. لا أحد كان يعرف أن أبي قد كتب نصاً طويلاً، فلم ترَ قصة (فتاة البرتقال) النور إلا يوم الاثنين الماضي. فقد حدث أن ذهبت جدتي إلى كوخ الأدوات فوجدت فيها نصاً كاملاً مغروزاً في بطانة عربة طفولتي الصغيرة الحمراء. قصة كتبها أبي لي وحدي».
هكذا كان العثور على الرسالة المطولة، ولأنها موجهة إلى جورج، فقد استلمها ليختلي مع نفسه ويقرأها ويحدثنا عنها بالتفصيل بعد أن باتت القصة إرثاً يخصه وحده، وينقلنا إلى زمن آخر، حين تعرف والده على فتاة البرتقال. كان اللقاء الأول في عربة القطار الكهربائي حين شاهد والده فتاة تحمل كيساً من الورق امتلأ بالبرتقال، أشفق عليها من ذلك الكيس الكبير، فقد لمحها ترقبه من بين كل الركاب، وأدرك أن الفتاة أحدثت في نفسه وقعاً مهيمناً.
ويبين لنا جورج حال والده إثر تمزق كيس البرتقال الذي تحمله الفتاة، وحسب ما يذكره والده نفسه في النص: «ومن جديد، لم يعد في ذهني مكان سوى لفكرة واحدة وهو العثور على فتاة البرتقال.. كنت مصراً كل الإصرار على أن أبذل قصارى جهدي لأراها ثانية.. قد ترى بعض الغرابة مني أن أجد متعة في سرد ما حدث في عصر ذلك اليوم قبل سنوات عديدة، لكني أذكر هذه الأحداث هنا كأنها قصة ممتعة أشبه بفيلم صامت، وكم يسعدني أن تحس بها أنتَ أيضاً».
تتوالى فصول حياة الوالد عقب ذاك الموقف وهي دائرة حوله. إذ يقول: «ومرت الأيام والأسابيع..ورأيتني مضطراً للذهاب إليها، ومشيت نحوها ببطء وجلست في كرسي شاغر عند طاولتها. وظلت تنظر في عينيّ طويلاً، ربما دقيقة كاملة.. ثم ما لبثت أن أطلقت يدي ووقفت في كبرياء وكيس البرتقال الكبير ما بين ذراعيها وانطلقت إلى الشارع. وفيما كانت ذاهبة، لمحت الدمع في عينيها. وظللت بلا حراك، مشلولاً...».
ثم ينقلنا والد جورج الى محطات أخرى في تلك المعايشات، إذ يتلقى رسالة غريبة: «مضى وقت طويل قبل أن أستلم بطاقة مرسلة من إشبيليا بإسبانيا فيها نص مختصر: فكرت فيك، أتستطيع الصبر قليلاً؟ لم يكن هناك اسم أو عنوان للمرسل، ولكن على البطاقة رسم وجه وكان وجهها هي يا جورج.. بهذه البطاقة عرفت أنها تعرف إلى جانب اسمي اسم عائلتي وعنواني. قصدت اشبيليا.. والتقيتها..قالت: في الحياة أوقات نادرة يجب أن نعرف فيها كيف نعذب الآخرين قليلاً. وقد كتبتُ لك. كنت أحاول أن أمنحك القوة حتى تتحمل الهجر قليلاً».
كانت فيرونيكا إذاً تدرس الفن في اشبيليا، وزارت أبوي جون وتعرفا عليه، كما يحكي في نصه، وعرف هو سر البرتقال، كان عليها أن تطلي البرتقال بالألوان، هكذا كان التدريب. كان عليه أن يرجع حتى تُكمل دراستها، فقد وطّن نفسه على حرقة الانتظار وتعلّم كيف يثق بفتاة البرتقال.
وهنا نتفاجأ بقرار جورج، والذي قرر أن يسمح لأسرته قراءة الرسالة تلك التي خصه بها والده، وفي مقدمتهم أمه فيرونيكا.
2004
حقق جوستاين غاردر، نجاحاً لافتاً مع هذه الرواية، عزز ورسخ مكانته العالمية المتميزة في الأصل. إذ إنه حاصل على جوائز كثيرة، بينها: جائزة ويلي برانت في أوسلو-2004، منحته الملكة النرويجية في 2005 وسام سانت أولاف.