بديهي أن الحقبة الراهنة التي يعيشها، وبالأدق يعانيها، عالمنا، إنما تسودها فتجلل حياتها ومستقبلها آفتان أساسيتان يمكن طرحهما بإيجاز شديد على النحو التالي: أولا، لعنة الإرهاب الذي يكاد يكتسب - للأسف- طابعاً عولمياً، وبمعنى، أنه لم تعد تنجو من ويلاته دولة بعينها، ولا أيديولوﭽية بذاتها.. ولا ركن أو زاوية من بقاع الكرة الأرضية.

وهناك، ثانيا، ظاهرة الهجرة بكل ما يرتبط بها بداهة، من آليات اللجوء.. الفرار.. النزوح، على تعدد الأسباب التي تبدأ بطموحات تغيير المعايش وتحسين فرص الحياة، وإن كان يغلب عليها - في المرحلة الدقيقة الحالية - دوافع الفرار الجماعي الكثيف للنجاة من أخطار محدقة بالحياة في حد ذاتها.

وكان طبيعياً أن تشغل مشكلة الهجرة - النزوح اهتمامات الدارسين والباحثين.. ومن زوايا متباينة. ويسترعي أنظارنا كتاب يجنح بحكم مادته التاريخية إلى العرض الوئيد والتأمل العميق لأحداث سبقت في سجل الماضي، ولكنها لاتزال حافلة بدلالات لها بغير شك دروسها المستفادة بالنسبة للحاضر الذي نعيش فيه.

الكتاب اختار له مؤلفه، الدكتور دﻳﭭيد أتكنسون، أستاذ علم التاريخ وقضايا الهجرة في جامعات أميركا، العنوان التالي: عبء التفوق الأبيض. ومن ثم عمل على تفسير دلالة هذه العبارة في عنوان فرعي هو: احتواء الهجرة الآسيوية في الإمبراطورية البريطانية والولايات المتحدة.

وفي تصورنا أن عبارة «عبء التفوق الأبيض»، تكاد تشكل المفتاح بالنسبة لمقولات هذا الكتاب.

إن المؤلف يعتمد المنظور التاريخي كي يطل من خلاله على حقبة يرسم حدودها الزمنية بين عامي 1896 و 1924 للميلاد. ويرى أن هذه السنوات ال28 قُيض لها أن تشهد - في تصوره - مخاوف ساورت قطاعات شتى في انجلترا والولايات المتحدة، إزاء ما كانت تحتشد به تلك السنوات من موجات وتيارات الهجرة الآسيوية.

وأسلمت تلك المخاوف إلى شعور ظل أيامها يراود الحكام والمحكومين على ضفتيْ الأطلسي بشأن سيادة الجنس الأبيض وقدرته على الصمود أمام تلك الموجات النازحة المهاجرة التي تحمل آلافا من أبناء الجنس.. الأصفر. وكأنما أحيت هذه الخشية ما سبق التحذير منه الغازي الفرنسي الشهير «بونابرت» حين أرسل قولته الشهيرة عن الصين:

- راقبوا هذا العملاق الأصفر.. قد يكون نائماً في الوقت الحالي.. فاحذروه إذا ما نهض من سباته في يوم من الأيام.

على أن مؤلف الكتاب لا يذهب إلى أن أهل بريطانيا وأميركا كانوا يخشون من مجرد وجود المهاجرين القادمين من أقاصي آسيا، مما قد يشكل مثلاً مزاحمة أو منافسة على الوظائف أو المعايش، وما إليها: كانت الخشية تصدر في الأساس، عن الحرص المتواصل على استمرار حالات التفوق وربما التسيّد والانفراد بأقدار العالم لصالح كل من لندن ثم واشنطن على مدار الفترة التي أشرنا إليها، حيث كان القرن ال19 يسلم سنواته وأوضاعه إلى الربع الأول من القرن العشرين: أيامها خشيت بريطانيا على مواريثها الاستعمارية في افريقيا وآسيا.

فيما كانت أميركا رقماً مستجداً في الصف القيادي للعالم، وخاصة في أعقاب الحرب العالمية الأولى التي انتهت (1918) بإعلان الرئيس الأميركي وودرو ويلسون مبادئ حق الشعوب في تقرير المصير، ثم تصّدر أميركا ذاتها منظومة عالمية مستجدة أيامها حملت اسم «عصبة الأمم».

فضلاً عن ريادتها التي اقتحمت بها حقبة غير مسبوقة في ميدان الإعلام والاتصال باكتشاف اختراع الراديو ثم بظهور الكتاب المرجعي في علم الإعلام، وقد أصدره رائد مفكر في هذا المجال. وجاء بعنوان «الرأي العام» من تأليف والتر لبمان بتاريخ 1922.