مصطلح «ديمقراطية» مشتق بداهة من الأصل اليوناني الذي يفيد في شقه الأول إلى «ديموس» بمعنى: الشعب أو الجماهير، بل قد نقول: «غمار الناس»، ثم يتلوه مصطلح «كراسوس» بمعنى السلطة أو الغلبة أو سدّة الحكم.
ومع توالي السنين والقرون، اكتسبت الديمقراطية زخمها ودينامياتها من واقع الممارسة التي تباينت أساليبها حسب ظروف وخلفيات المجتمعات التي شهدت تلك الممارسة، وعايشت ما يمكن أن تحتويه من إيجابيات، وأيضاً ما يمكن أن تعانيه، وقد عانته فعلاً، من سلبيات.
ألا ترى مثلاً إلى ما واكب الثورة الفرنسية منذ فجرها الأول في 14 يوليو من عام 1789 - عام سقوط سجن الباستيل - وكم جاشت في صدور الناس أيامها من آمال ارتبطت بداهة بالشعار الثلاثي المعروف: «حرية.. إخاء.. مساواة».
لكن الذي أعقب تلك الشعارات المتفائلة هو ما شهده عقد التسعينيات من القرن الثامن عشر، أي في أعقاب ثورة فرنسا الموصوفة بأنها «الكبرى» أو «العظمى» من غوائل عصر «الإرهاب» كما لا يزال معروفاً في التاريخ الفرنسي الحديث، ومن أعلامه - بالأدق من سفّاحيه - أسماء زعماء أشرار من قبيل «مارا» أو «دانتون».. ودع عنك «روبسبيير».
والمعنى من هذا كله، أن الديمقراطية، كشعار مرفوع، أو كنوايا طيبة، يمكن أن تستمر. ولكن المشكلة ما زالت تكمن في البشر الذين يعملون، أو قد لا يعملون، على وضعها موضع الممارسة ومحّل التطبيق.
في ضوء هذا كله نقف في سياقنا الراهن أمام محصّلة استقاها من واقع الفكر النظري والدرس التطبيقي العملي اثنان من أساتذة علم السياسة في كبرى جامعات الولايات المتحدة. الدرس الموجز، والموجع أيضاً، يقول بما يلي: الديمقراطيات لا تموت.. البشر هم الذين يقتلونها.
والأستاذان اللذان توصلا إلى هذه الخلاصة هما ستيفن ليفتسكي وزميله دانييل زيلات. ولأن الباحثين المذكورين مشغولان هذه الأيام بأحوال الديمقراطية وآفاق تطورها في عالمنا.. فقد اختارا لكتابهما حديث الصدور العنوان المباشر التالي: «كيف تموت الديمقراطيات؟».
ولا يغوصا المؤلفان في أغوار تاريخ الممارسات الديمقراطية منذ أصولها الأولى.. لا من أيام فلسفة «أفلاطون» اليونانية ولا من خلال خُطب «شيشرون» الروماني، بل إنهما يشرعان في البحث من عصر الممارسات السياسية مع العقود الاستهلالية من القرن العشرين. وفي هذا السياق، يذهب مؤلفا كتابنا إلى أن انهيار الديمقراطيات، عبر أقطار عدة وثقافات شتى، لم يحدث نتيجة ما شهدته تلك المواقع على خارطة العالم من انقلابات عنيفة أطاحت بالديمقراطية، بل الأحرى أن الديمقراطيات انهارت - كما يؤكد المؤلفان- بفعل ما يصفانه بأنه «الانزلاق التدريجي» نحو السلطوية بمعنى الحكم الشمولي والسلطة المطلقة على يد من يطلق عليهم هذا الكتاب الوصف التالي: «الأوتوقراط».
ويصف الكتاب هذا الصنف من الحاكمين بأنهم كثيراً ما كانوا يقفزون إلى مقاعد السلطة عبر انتخابات ديمقراطية، قبل أن يسودوا تلك المواقع على أسّنة الحراب أو فوهات المدافع.
وهنا تسوق فصول كتابنا نموذجاً بالغ الدلالة من واقع ما شهدته ألمانيا مع مطلع الثلاثينيات من القرن الماضي. جاء الحزب النازي بكل عنصريته وقفز على رأسه زعيمه أدولف هتلر (1889- 1945)، بكل عدوانيته، لا بعد انقلاب عسكري، ولكن من خلال انتخابات توافرت لها كل عناصر، بل كل شكليات ومراسيم، الديمقراطية. وبعدها كانت الطامات الكبرى من العنف والعنصرية والعدوان المسلح، ثم اندلاع الحرب العالمية الثانية عبر السنوات الفاصلة بين عامي 1939 و1945.
ويقدم الكتاب ما يمكن وصفه بأنه نقد ذاتي لمسيرة وتطور الممارسات الديمقراطية في أميركا، ونلحظ ذلك حين لا يتورع الكاتبان عن الاعتراف بأن هذه المسيرة ظلت مشوبة بروح ودوافع التمييز العنصري ضد السود لخدمة مصالح وتفوق البيض في الولايات المتحدة، وخاصة على مستوى دوائر الحزب الجمهوري.
الكتاب: كيف تموت الديمقراطيات؟
المؤلف: ستيفن ليفتسكي ودانييل زيلات
الناشر: مؤسسة كراون
الصفحات:
312 صفحة
القطع: المتوسط