في متن القانون المعاصر نقرأ مصطلح «الشخص الطبيعي»، ثم نقرأ أيضاً مصطلح «الشخص الاعتباري». التعبير الأول ينصرف بداهة إلى هذا الفرد أو ذاك من البشر، والتعبير الثاني يصدق على الهيئات والمؤسسات وما في حكمها.
وإذا كان بديهياً أن وجد الإنسان الفرد نفسه وقد أصبح عند الآخرين شخصاً «طبيعياً» كما أسلفنا، فإن حكاية الشخصية الاعتبارية لم يتوصل إليها الابتكار البشري إلا في مرحلة متأخرة نسبياً من وجود الإنسان وحضارة الإنسان فوق سطح الأرض.
وبحسب ما يؤكده البروفيسور آدم ونكلر في كتابه «نحن المؤسسات»، فإن الفضل في هذا الإنجاز يرجع إلى الحضارة الرومانية التي ازدهرت في ظلالها إبداعات الفكر والتدوين القانوني.
وهكذا توصّل الرومان في سنة 300 قبل الميلاد أو نحوها إلى اكتشاف نهج كان مستجداً في تلك الحقبة، بحيث يتيح لأي مجموعة من البشر يتفق أفرادها فيما بينهم على شراء الممتلكات أو الدخول في تعاقدات ليصبح اتفاقهم وتعاقدهم أمراً معترفاً به بوصفهم مجموعة، أو شخصية اعتبارية من أشخاص القانون العام كما يقولون.
من يومها دخلت إلى أجرومية المصطلحات القانونية فكرة الهيئات «الكيانات» ذات الشخصية العامة، وقد عبر عنها الرومان في لغتهم بالمصطلح اللاتيني «سوسييتاس ببليكا نورم»، حيث كانت ملكية هذه المؤسسات المستجدة على حياتهم تؤول إلى جماعات الأفراد المستثمرين.
هذه اللمحة التاريخية شكلت مدخلاً استخدمه المؤلف، في الدراسة الموسعة التي قام بإعدادها ثم نشرها في الكتاب الذي تتلخص مقولاته في المحور التالي: «كيف استطاع رجال الأعمال والمستثمرون الأميركيون أن يكسبوا حقوقهم المدنية؟».
أما عنوان الكتاب «نحن المؤسسات» فقد تمت صياغته عمداً على نسق: نحن.. الشعب أو نحن المواطنين.. أو نحن أعضاء المجلس النيابي.. إلخ.
هنا يوضح المؤلف، في مستهل سطور الكتاب كيف انقضت نحو 2000 سنة على مبادرات الرومان التي ألمحنا إليها، حين استطاعت كيانات متباينة، ربما منذ أيام القرن الثامن عشر، أن تعلن نفسها شخصيات اعتبارية، وهو ما شهدته الولايات المتحدة، كما يوضح المؤلف، أيام خضوعها للسيطرة البريطانية. وجاء في طليعة المؤسسات الأميركية الرائدة في هذا المضمار «شركة فرجينيا»، إضافة إلى العديد من الكيانات والهيئات التجارية والمؤسسات، ثم نقابات العمال والصانعين والمستثمرين في أميركا.
يذهب المؤلف أيضاً إلى أن ثمة كيانات مؤسسية من هذا النوع سبقت ما شهدته أميركا في القرن السابع عشر، ولكنها قصدت إلى توجيه أنشطتها إلى أصقاع أخرى من عالم تلك الفترة، وكان في مقدمتها «شركة الهند الشرقية».
وكم تجلت قدرات وتأثيرات الكيانات المؤسسية حين فوجئت تلك الشخصيات الاعتبارية بصدور «قانون الشاي» بأميركا عام 1773 وكان متناقضاً مع مصالح تلك الكيانات المؤسسية الناشطة على الساحل الشرقي لقارة أميركا الشمالية.. وما كان من تلك الكيانات إلا أن رفعت رايات العصيان ضد المستعمر البريطاني، ولقد بلغت درجة هذا الرفض المتمرد الحد الذي جعل منها الشرارة الأولى التي أشعلت حرب الاستقلال الأميركية التي قادها جورج واشنطن ضد المستعمر البريطاني.
وفي كل حال لم يكن مؤلف الكتاب معنياً بسرد الوقائع التاريخية بقدر ما كان اهتمامه منصبّاً بالدرجة الأولى على بيان الحقيقة البديهية التي تفيد بما يلي: إن فكرة المؤسسة (الكيان الاعتباري الذي بات يعّد من أشخاص القانون العام) إنما جاءت لتعكس أولاً أهمية التفكير الجماعي والتدبير الجماعي والقرار الجماعي الذي يكفل مشاركة الأفراد من المستثمرين ومَن في حكمهم، ويضمن لهم حقوقهم، بل ويزودهم بنفوذ يساعدهم، عند اللزوم، على مواجهة التحديات.
على أن أهم، بل أخطر ما يمكن أن نلاحظه لدى قراءتنا وتحليلنا لهذا الكتاب ما يتمثل موضوعياً في أن هذه «الشخصيات الاعتبارية» التي أشرنا إليها قد تطورت أمورها وتزايدت تأثيراتها في المجتمع الحديث إلى أن أصبح لها نفوذ يُحسب له ألف حساب، بحيث صار لهذه الكيانات حقوق الأشخاص الطبيعيين.
بيد أن الأمر لم يكن سهلاً ميسوراً كما قد يتبادر إلى ذهن القارئ لهذا الكتاب، بل كانت المشكلة مثلاً أن الدستور (الأميركي) لم يكن يسمح باللجوء إلى المحكمة الاتحادية سوى للمواطنين «الأشخاص الطبيعيين».
ومن ثم فقد تركز الاهتمام في عقود زمنية سبقت على المشكلة التي حرمت البنوك من اللجوء إلى القضاء الفيدرالي. وما كان من محامي البنك المضار في هذا الصدد إلا أن دفع بأن البنك إنما يمثل حقوق مالكيه ومساهميه وهم أصلاً مجموعة من المواطنين الذين توافقوا على المساهمة فيما يشكلون بالأساس جماعة من البشر وسوف يتعرضون لضياع حقوقهم إذا ما استمر البنك محروماً من المثول أمام منصة القضاء.
هنالك يوضح المؤلف - نظرت المحكمة العليا بأميركا في القضية، ثم أصدرت حكمها الجوهري لقبول دفوع المحامي، ومن ثم أتيح للبنك سبل الانتصاف القانوني وكانت تشكل سابقة فتحت الباب بالتالي أمام تأكيد اعتبار مثل هذه المؤسسات محمية بسياج القانون بقدر ما هي مسؤولة في الوقت نفسه عن اتباع أحكام ذلك القانون.