مليئة حكاياتها بالأسطورة، حد الغموض، وموغلة في التاريخ والأسرار، ككل المدن التي ملأت جنباتها المكان ذات يوم، واختفت دون أن يبقى أثر لوجودها سوى في مخطوطات وآثار تتناهبها رياح الضياع، رياح لم تكن تهابها قوافلها المحملة بالكتب والذهب والملح، وهي تعبر مجابات الصحراء في عز ازدهارها في القرن الرابع عشر حتى السادس عشر، حين كانت تشد منها الرحال وتنيخ عندها الركبان.

إنها تمبكتو جوهرة الصحراء وقبلة العلماء، وأكبر المدن الإسلامية في الساحل الإفريقي في ذلك الوقت. وهو نفسه العصر الذي كانت أوروبا تعيش فيه عصور الظلام. المدينة التي تجاوز عدد سكانها 100 ألف نسمة، وهو عدد كبير بمقاييس المدن في ذلك الزمان، أسست قبلة حضارية، يؤمها الفقهاء وطلبة العلم والتجار من مختلف أصقاع العالم الإسلامي، من المغرب ومن الأندلس، ومن بلاد شنقيط في رحلاتهم إلى الحج، كما جلب ملوكها العلماء والفقهاء من المشرق، والحرفيين والمعماريين الذين شيدوا أبرز مساجدها وأفخم قصورها، فخلق ذلك الفضاء المشجع حافزا لاستقرار الكثير من العابرين في قوافل الصحراء، فضربوا بعصا الترحال وطاب لهم المقام في حلقات التدريس والذكر.

كما ازدهرت الحياة العلمية والثقافية في المدينة، نظرا لوقوعها ضمن نطاق جغرافي في الصحراء الكبرى، يمتد بين إفريقيا الغربية وباقي الأمصار الإسلامية في المغرب والأندلس ومصر والحجاز، كما يؤكد ذلك التوصيف الجغرافي الذي حدده العلامة الولاتي محمد بن أبي بكر الصديق البرتلي.

منارة الفاتحين

دخل الإسلام بلاد مالي على يد الفاتحين في أواخر القرن الحادي عشر الميلادي أثناء حركة المرابطين، وتمكنت هذه الدولة الصغيرة التي بدأت بمملكة كانجايا أن تتملك قوَّة عسكرية، ونفوذا واسعا، ويصف المؤرخون الرقعة التي تمتد حوالي تمبكتو ببلاد السودان، وفي بعض المصادر ببلاد التكرور، ووصفها المستكشفون الأروربيون، الذين شغفوا بها، في رحلات الاستعمار الاستكشافية، بالسودان الغربي.

وقد توالت عدة امبراطوريات على حكم هذه المنطقة، أهمها مملكة مالي، التي حكمت بعد سقوط مملكة غانا، إضافة إلى مملكة السونغاي، وقد كان لهذه الممالك دور ونفوذ في ترسيخ مكانة المدينة، كما كان لملوكها أثر واضح، في نشر الإسلام، وخلق سمعة عن دولتهم في الأقطار الأخرى، ومن الأمثلة على ذلك رحلة السلطان منسي موسى الشهيرة الى الحج، حيث يذكر المؤرخون أنه سافر بقوافل محملة بالذهب، وعاد بأخرى محملة بالكتب والعلماء.

كما شهدت المدينة تطوراً، بدا في واجهتها المعمارية، حيث احتوت تمبكتو في تلك الأثناء على ثلاثة جوامع، مما لم يتهيأ لغيرها من كبريات مدن السودان الغربي آنذاك وأخذت أسواقها طابعها الإسلامي، فقصدتها القوافل الكبيرة من المشرق والمغرب.

وقد انصهر في تمبكتو خليط بين قبائل الطوارق، المتمازجة منذ عصور بين القبائل العربية والأمازيغية، وشبت قوافلها في الصحراء الكبرى، وقبائل إفريقية، رعت منذ فجر التاريخ مواشيها على ضفة نهر النيجر وجنوب مالي ومجموعة من العائلات الأندلسية المهجرة التي نزحت إليها في أواخر حقبة حكم ملوك الطوائف، وكذلك من المغرب، والعابرون من بلاد شنقيط والسنغال في قوافل التجارة والحج، حيث كان الحج في المحيط الصحراوي في الساحل الإفريقي، يتم عبر ركب الحاج التكروري. فتبلورت حياة ثقافية في عصر انكفأت فيه وتراجعت المعارف في أمصار أخرى.

محج علمي

عرفت تمبكتو بأم المدائن، كما عرفت بمدينة الثلاثة والثلاثين ولياً، لكثرة علمائها ورجالها الصالحين، وهو ما يفسر كثرة الأضرحة والمقامات بها. وكان التدريس يتم في المساجد والجوامع وكان من أشهرها وأكثرها اكتظاظا بجموع الطلبة والمدرسين جامع سنكورى.

وهو يقع في القسم الشمالي من المدينة، ثم جامع جنكورايير وقد بناه المعماري الأندلسي أبو اسحاق الساحلي لأحد سلاطين مالي، ثم أدخلت عليه تحسينات ووسعت مساحته مرتين خلال القرن السادس عشر، لكي يتسع للجموع الغفيرة من طلبة العلم.

ومسجد سيدي يحيى، وقد بنى تخليدا لأحد علماء المغرب الذين باشروا التعليم في المدينة، وجسدت منارات هذه الجوامع قبلة للعلم والمعرفة يؤمها أكثر من 25 ألف طالب موزعين على 180 مدرسة. كما باشر العلماء السودانيون في الإنتاج فكتبوا شروحا لعدد من المؤلفات الهامة التي ألفت خارج أقطارهم.

وقد سرقت المدينة من مراكش وفاس سحرهما الأسطوري، فشكلت مثلثاً وسط الصحراء للقوافل القادمة ما بين مصر والحجاز من جهة وبين المغرب من جهة أخرى، وقطباً محورياً في العلم والتجارة. كما ازدهرت دور الأوقاف والصدقات، وكانت العامل التمويلي الهام في ازدهار حركة التعليم، إذ ان المصاحف والمخطوطات التي بقيت من تلك الفترة يحمل الكثير منها في طياته ذكرا بتوقيفها على الجوامع.

وقد ساهمت عوامل عدة في تنقل المخطوطات بين الحواضر الإسلامية مثل قوافل الحجاج والرحالة والتجار، حيث لعبت هذه الشرائح دوراً مهماً في نقل المخطوطات وتنشيط صناعتها وتوسيع دائرة المعرفة عبر الحواضر جنوب الصحراء.

علماء ومكتبات

ومن بين علماء تمبكتو الذين أثروا بشكل كبير على الحركة العلمية أحمد بابا التنمبكتي، أحد أشهر علماء الفقه المالكي في الساحل الإفريقي، ومن أشهر مؤلفاته كتاب ( نيل الابتهاج بتطريز الديباج)، والمخطوط بمثابة تكملة لكتاب الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب المالكي الذي ألفه قاضي المدينة المنورة أبو إسحاق برهان الدين إبراهيم بن علي بن فرحون اليعمري الأندلسي المتوفى سنة 799 هـ ــ 1396 م. وقد طبع هذا الكتاب بمدينة فاس في طبعة حجرية عام 1898 م.

إضافة إلى كتاب تحفة الفضلاء ببعض فضائل العلماء، وهو مخطوط من 302 ورقة، و(كتاب اللآلي السندسية في الفضائل السنوسية)، وهو مخطوط اختصر فيه أحمد بابا المواهب القدسية في المناقب السنوسية لمؤلفها أبي عبد الله محمد بن إبراهيم بن عمر ابن علي الملالي المتوفى عام 897 هـ ــ 1492 م.

وكتاب (معراج الصعود إلى نيل مجلب السود) أو (الكشف والبيان لأصناف مجلوب السودان)، وفيه يبين حكم تملك وبيع العبيد المجلوبين من السودان وقد كتبه جوابا عن سؤال ورد عليه من منطقة توات، وهو عبارة عن رسالة في إجازة استرقاق بعض الأصناف من السود. ويقع المخطوط ضمن أربعة مجامع

كما كان للعلماء الكنتيين، المنحدرين من قبيلة "كنتة" العربية المنصهرة مع قبائل الطوارق دور كبير ومن أهم علمائها المختار بن أحمد بن أبي بكر الكنتي التنبكتي المزداد ببلدة "كتيب أغال" من قرى منطقة أُزواد (شمال تنبكت) سنة 1142 هـ ــ 1726 م، قبل أن ينتقل إلى تنبكت التي توفي بها عام 1811، وأبو عبد الله محمد بن المختار بن أحمد بن أبي بكر الكنتي التنبكتي المتوفى سنة 1828 م، و العالم والشاعر أحمد البكاي بن محمد بن المختار الكنتي التنبكي المتوفى عام 1865 م.

ومن آثار المختار بن أحمد بن أبي بكر الكنتي كتاب (تفسير فاتحة الكتاب)، وهو مخطوط حاول فيه المؤلف أن يقدم تفسيرا كاملا لسورة الفاتحة ويتضمن المخطوط 240 ورقة، كتبت بخط مغربي جيد. و(هداية الطلاب)، يقع في عدة أجزاء لم يتبق منها سوى الجزء الثالث ويضم 93 ورقة. ومن المؤلفات التي ماتزال محفوظة كتاب أبو عبد الله محمد بن المختار بن أحمد بن أبي بكر الكنتي التنبكتي (أوثق عرى الاعتصام للأمراء والوزراء والحكام)، وهو كتاب يهتم بمواضع سياسية ويقع ضمن 73 ورقة، وقد كتب بخط مغربي جيد مزين بالألوان. وكتاب (الجرعة الصافية والنفحة الكافية) وهو مخطوط في ويتكون من 120 ورقة.

مخطوطات الذهب

لقد وصل ازدهار التدوين في هذه المدينة، مستوى جعل بعض الخطاطين يكتبون بماء الذهب، كتلك الموجودة بمكتبة الامام السيوطي، أحد أهم المكتبات في تمبكتو، وتضم مخطوطات قيمة منها نسخة من القرآن الكريم يعود تاريخها إلى القرن السادس عشر، وسطورها المضيئة مكتوبة بمادة الذهب الخالص وهي نسخة نادرة جداً، كما أقدم مخطوطات في هذه المكتبة يعود تاريخها إلى القرن 12، إضافة الى مخطوط نادر في علم الفلك يشرح حالة الخسوف والكسوف، وحركة دوران الأرض حول الشمس الى جانب مخطوطات اخرى تتناول الرياضيات والتاريخ والطب والفلسفة.

وهذا التراث العلمي، والأرشيف الهائل من النصوص تناول مختلف المعارف الدينية والتطبيقية والثقافية والطبيعية، تقدم صورة عن طبيعة المدينة وازدهار الحركة العلمية في ذلك الوقت. فالمخطوطات تضم وثائق ورسائل وفتاوى متبادلة بين العلماء وبين القضاة وبين الأمراء وبين السياسيين وبين التجار.

وقد خلقت هذه الطفرة في التدوين صناعات موازية لهذا الشغف المعرفي، حيث انتشرت صناعة المخطوطات في المنطقة الساحلية الإفريقية، وساعد وصول انواع الورق الجيد على ظهور العيس العلماء على بدء حركة تأليف نشطة، وقد استعمل العلماء والمؤلفين في كتابة مخطوطاتهم المدونة باللغات الإفريقية الحروف العربية، ويكتشف الباحث المتصفح لهذه المخطوطات أن اللغات الافريقية تشترك مع اللغة العربية في الكثير من المصطلحات، وشهد القرن الثاني عشر الهجري الموافق للقرن الثامن عشر الميلادي سيطرة كاملة للحرف العربي في كتابة اللغات الافريقية التي لم تطور ابجدية خاصة بها، وتمت كتابة نصوص كاملة وأبيات شعرية ورموز علمية بها.

مشاريع حاضنة

رغم كل الجهود، التي بذلت طيلة العقود الماضية من أجل حماية هذا الإرث الإنساني والثقافي، فإن هناك مبادرات ومشاريع تشتغل بشكل حثيث لرأب الصدع وترميم وجمع ما تناثر تشتت من هذا التراث، ومن أهم المشاريع الحالية الحاضنة لهذا التراث مشروع معهد أحمد بابا للتوثيق والبحوث التاريخية "سيدراب"، وهو مؤسسة حكومية أنشئت في تمبكتو عام 1973، بعد مباحثات منبثقة عن اجتماع عقدته منظمة اليونسكو عام 1967 في تمبكتو لتخطيط عدد من مجلدات اليونيسكو عن تاريخ إفريقيا.

كما تعمل مكتبة ماما حيدرة التذكارية جاهدة لنفض الغبار عن هذا التراث، وهي مبادرة فردية قام بها أحد منتسبي عائلة ماما حيدرة، الذي لم يكن قاضياً فحسب بل عالماً يعود تاريخ مكتبته الشخصية الى القرن السادس عشر كواحدة من أكبر وأقدم المجموعات في المدينة.

وقد بدأت هذه المكتبة بفهرسة مجموعتها الموروثة بمساعدة من قبل مؤسسة الفرقان للتراث في لندن التي وافقت على نشر كاتالوج له. وقد نشر حالياً أربعة من خمسة مجلدات متوقعة في الكاتالوج.

إضافة الى جهود مكتبة وانكاري للمخطوطات، التي تتكوّن مما يقارب 3000 مخطوطة تعتمد على المكتبة الأصلية للشيخ محمد بغيغ وهو شيخ وفقيه متميز من القرن السادس عشر، وتحتوي هذه المجموعة على أعمال عديدة لعلماء من السودان والمغرب.

وتتألف أقدم وثيقة من أقسام منسوخة من القرآن تعود إلى عام 1695. إضافة الى النصوص الدينية تحتوي المكتبة على بعض الوثائق التاريخية الهامة.

إضافة إلى المشاريع المهتمة بمخطوطات تمبكتو، مشروع المكتبة الأندلسية بتمبكتو، وتضم 3000 مخطوط كتاب، وهي تتبع التراث الذي تركه العلماء الأندلسيون وآثارهم المعرفية جنوب الصحراء، وتضم هذه المكتبة أهم إرث ثقافي يهتم بالقرنين 15 و16 وتنطوي على معلومات ثمينة حول أنماط عيش الأندلسيين في المدينة. وقد نقلت هذه الكنوز الثقافية عبر مكتبات ألمرية في اسبانيا، التي اتاحت استنساخ وثائقها عبر تقنية الميكروفيلم.

وإن كانت مؤخرا، قد تعرضت هذه المخطوطات لهجمة شرسة، جراء الحرب في مالي، فهو أمر اعتادته، إذ تتعرض منذ قرون هذه الكنوز المعرفية المهمة للضياع والنهب، سواء في فترات الحروب أو الغزوات القبلية، أو ظروف التخزين السيئة والتجاهل واللامبالاة، في بلد نخبته المثقفة أغلبها ناطق باللغة الفرنسية، مما همش وقوض من اهتمامه بهذه المخطوطات العربية والإسلامية الثرية، فتهافتت عليها كبريات مراكز البحوث العالمية - معظمها غربي للأسف- لحفظها والاستفادة منها.

وإن كان الشاعر السنغالي ليبولد سيدار سينغور قال ذات يوم : (إذا علمت أن شيخاً إفريقيا قد توفي فاعلم أن مكتبة كاملة قد اختفت)، في إشارة الى غنى ذلك الموروث الشفاهي والمتناقل والمكتوب)، فإن كل مخطوطة في تمبكتو تختفي، يغيب معها تاريخ حافل بالتألق المعرفي، شاهد على ما قدمه العلماء المسلمون في الساحل الإفريقي.

300.000

خلال الحرب الأخيرة في مالي قدرت "يونسكو" أن نحو 300 ألف نص يعود تاريخها لمئات السنين، في مختلف العلوم، سليمة رغم أن نحو 2000 مخطوطة ربما فقدت في معهد أحمد بابا في تمبكتو.

5.000.000

قدرت "يونسكو" الأضرار التي لحقت بالتراث المادي لمالي جراء الحرب الأخيرة، بـ 5 ملايين دولار لكن من الصعب تقييم كلفة ترميم الأضرحة وتحويل عشرات الالاف من المخطوطات إلى صيغة رقمية.

700.000

يقدر بعض الباحثين مخطوطات تمبكتو بـ700,000 مخطوطة، أكثرها باللغة العربية، وتتوزع بين مراكز البحث والمكتبات العائلية الأهلية. وتشمل مختلف العلوم، فيما يذهب باحثون إلى أن عددها الحقيقي أقل من ذلك.

30.000

العدد الفعلي للمخطوطات في المكتبات الرسمية والمعاهد المهتمة بتراث تمبكتو يتراوح بين 30 إلى 40 الف مخطوط ، 70 % منها في حاجة الى الفهرسة والحفظ والترميم، بفعل الإهمال وظروف الحفظ كالرطوبة ومشاكل المنطقة كالحروب.

25.000

تقدر المخطوطات في مجال الرياضيات والفيزياء والجغرافيا والطب والعلوم الإنسانية والطبيعية وأبحاث في السياسة والقانون، بـ25 ألفاً ويعود بعض هذه المخطوطات إلى القرن الثاني عشر الميلادي.

12.000

بلغ تعداد القوافل التجارية القادمة من مملكة مالي الإسلامية عام 751هـ/1350م 12 ألف جمل، وشكلت الكتب والذهب والملح أهم المواد التي يتم تداولها بالمدينة، كما تعد المنسوجات والورق وبعض الآلات محوراً لهذه التجارة بين المغرب الإفريقي والمشرق.

اهتمام دولي

منذ النداء الذي أطلقته (اليونيسكو) عام 1967، بخصوص حفظ التراث الإنساني في إفريقيا، وإعلانها عام 1990 مدينة تمبكتو موقعاً من مواقع التراث العالمي. تهاطلت مراكز البحوث والجامعات لحفظ هذا التراث ودراسته، ومن أهم مراكز البحث الدولية، التي تحتفظ برصيد وافر من هذه المخطوطات، المكتبة الوطنية الفرنسية. ومكتبة الكونغرس الأميركية. وجامعة هارفارد الأميركية، وجامعة كيب تاون في جنوب افريقيا، وجامعة نورث ويسترن بالولايات المتحدة، التي طورت برنامجا لحفظ المخطوطات العربية في إفريقيا الغربية.