يُعاني المجتمع الثقافي العربي، في الفترة الأخيرة، شحاً في عدد المجلات الثقافية المتخصصة، يوازيه فقر في طبيعة مضامينها. إذ لم تعد تولد مجلات جديدة متنوعة تعنى بشتى الشؤون والشجون الثقافية، وكذا تسهم في إضفاء لمسات تنويع وتجويد في طبيعة المشهد الثقافي، ومن ثم الإسهام النوعي في عكس ومناغمة مختلف الجوانب في المشهد الثقافي المجتمعي العام.

وهو ما بات، حسب نقاد كثر، يشكل ثغرة ومأخذاً مهماً. إذ إن المجلات الحاضرة في الوسط الثقافي العربي في الفترة الحالية، تؤدي دوراً جيداً، ولكن ذلك، طبقاً للمتخصصين، لا يخدم إيفاء الجوانب الثقافية المجتمعية حقها الكامل. ويرى نقاد عديدون، أن مجلات ثقافية متنوعة، مثل: "المجلة"، "المسرح"، "إبداع"، "أخبار الأدب". وكثيرات غيرها من بين التي لا تزال موجودة تصدر بشكل دوري وتهتم بالشأن الثقافي العربي، تعد إصدارات غير كافية ولا تعكس اهتماماً شاملاً بالشأن الثقافي.

لا تخلو صفحات الجرائد والكتب في المشهد الثقافي والفكري الاجتماعي الحالي، أو حتى برامج الإعلام المعنية، من تكرر إدانات ومناشدات متنوعة الأشكال، يطلقها كتاب ونقاد، لا تنفك تؤكد أن الصحافة الأدبية والثقافية، بمفهومها الواسع وتأثيرها القوي، باتت غائبة عن المجتمع الثقافي، وحجة هؤلاء في ذلك، أنه لم تعد الثقافة تندرج تحت أولويات الصحف..

إضافة إلى إشارتهم إلى ندرة المجلات الثقافية المتخصصة، التي تهتم في المقام الأول، بالثقافة والأدب.. بينما يُرجع البعض أسباب هذه الندرة إلى قلة توزيع تلك المجلات وغياب مصادر تمويلها، في ظل انخفاض الوعي الثقافي بين المواطنين وغياب اهتمام الدول العربية بتثقيف المواطن العربي، ذلك وكأن الثقافة أصبحت تندرج ضمن الكماليات.

غياب المنهجية

يتمثل الخلل الأساس الذي يضاعف تواتر هذه الظاهرة، حسب الشاعر أمين حداد، في غياب المنهجية في التعامل مع الثقافة بشكل عام، وهكذا غدت تغيب الصبغة المنهجية عن المجلات الأدبية والصحافة الثقافية. إذ لم يوجد هناك حرص من الدولة ومعها المؤسسات الثقافية المختلفة، على وجود الثقافة وحضورها المؤثر.

وهكذا أصبح المثقفون يتولون مسؤوليات وأدوار الصحافة الأدبية والثقافية فيما بينهم. وهكذا، طبقاً لرأي حداد، غابت الحركة النقدية للأعمال الأدبية، بموازاة تراجع في الصحافة المقروءة.

وعن إمكانية أن يُعيد النشاط الثقافي الملحوظ الذي تشهده البلاد في الوقت الحالي، الصحافة الثقافية، إلى مسيرة ازدهارها التي انقضت ولم تعد، يؤكد حداد أن الإصدارات الثقافية خلال هذه الفترة، تصدر من دون وجود حركة نقدية في المجتمع تحدد خارطة ومضمون الثقافة في مصر والعالم العربي، وأن ما نراه في هذا الصدد ليس سوى اجتهادات شخصية. ويضيف: " لا بد أن يكون ذلك وفق خطط منهجية.. وأجندات تعاط تولي أهمية كبيرة لمسألة فلترة الكم الهائل من الإبداعات".

تعطيل

يعتقد مثقفون كثر أن تعطيل المجلات الثقافية وغياب دورها المؤثر في المجتمع، بدأ منذ منتصف السبعينيات من القرن الماضي، فقبل هذا التاريخ كانت المجلات الثقافية، والكتب والثقافة بوجه عام، تلقى اهتماماً نوعياً من جانب الدولة، إذ طالما اعتنت في دعمها بهدف أن تصبح أسعارها زهيدة وأن تكون في متناول يد القارئ العادي.

ويرى ناشرون ونقاد أن هذا الأساس بات غائباً حالياً، بفعل جملة مسائل وتأثيرات على رأسها السعي وراء الربح وعدم إيلاء مسألة انتشار الثقافة الأولوية. وهكذا شرعت مسيرة الانحدار في هذا الخصوص، بشكل تدريجي حاد، فكان من نتائجها أن اختفت مجلات ثقافية عدة طالما حملت أفكاراً وحوارات وسجالات فكرية بين أبرز الكُتاب في مصر وفي الوطن العربي.

تكاليف باهظة

توضح الكاتبة الشابة، لمياء السعيد، أن المجلات الثقافية تحتاج إلى شكلٍ فني خاص، وإلى إخراج مختلف. كما أنها تعتمد في غالبيتها، على طباعة جيدة وألوان محددة ذات جودة عالية. وتلك جميعها، أمور مُكلفة، خاصة في ظل عزوف القارئ عن شرائها، وهو ما غدا يؤثر سلباً على استمرار المجلات الأدبية في الصدور، فكثير من القراء لا يهتم بمتابعة الأخبار الأدبية.

كما تلفت لمياء إلى أن السنوات الثلاث الأخيرة، أثرت أيضاً على حجم حضور الصحافة الثقافية، فبعد أن كانت هناك صفحة أو أكثر، في عدد من الصحف والجرائد اليومية أو الأسبوعية، مخصصة للحديث في الشأن الثقافي، نجد أنه اختفت هذه الصفحات تماماً.

وترجع لمياء، السبب في ذلك، إلى الأحداث السياسية التي بدأت تشغل المجتمع بأكمله، خاصة في ظل الاضطراب السياسي والمجريات والمتغيرات المتسارعة. إذ انشغل القراء بمتابعة الحدث السياسي كأولوية ومن ثم ابتعدوا عن الثقافة.. وتأمل لمياء أن يتغير الوضع في أقرب وقت، ومن ثم تعود المجلات الثقافية من جديد، إلى ازدهارها. وبالتوازي، أن تهتم الصحف في الشأن الثقافي ارتباطاً وانعكاساً لحالة نشاط وارتقاء مطلوب أن يشهدها الوسط الثقافي.

فئة قليلة

يشدد إعلاميون عديدون، وفي معرض حسابات المكسب والخسارة، على أن القراء الذين يهتمون في متابعة أخبار الشأن الثقافي، هم فئة قليلة، ذلك مُقارنة بغيرهم من الذين يبحثون عن حقول: السياسة والرياضة والفن. وهو الأمر الذي جعل من الضرورة إيجاد صفحات احتياطية يمكن أن تصدر حسب الظروف.

وشرعت تلك الصفحات، في حالات صدورها، وفي المجمل، تهتم بنشر أخبار الفعاليات الثقافية القاصرة على الطابع الاحتفائي والمهرجاني، كافتتاح رسمي لفعاليات ثقافية أو لصرح ثقافي أو لأنشطة تقليدية ثقافية..

ولم يعد يتوافر الاهتمام النقدي في جانب الإبداع الأدبي. كما أن المجلات المتخصصة في الأدب، والتي لا تزال مستمرة، تتلاشى في حضورها ويضمحل تأثيرها بفعل جملة أمور، في مقدمها، تركيزها على قصر صدورها بشكل شهري، مثلاً، عوضاً عن الصدور الأسبوعي. وجميع ذلك لم يكن مرده سوى غياب التمويل الاقتصادي في ظل انصراف المعلن عن نوعيات هذه الوسائل الإعلامية الثقافية المقروءة.

نهضة.. وتجدد منتظر

يرى الأديب والصحافي الحسيني عمران، أن المجلات الثقافية تلعب دوراً مهماً في نهضة الأمة العربية، لا سيما وأن دورها يتمثل في نشر الوعي والتنوير ضمن المجتمعات العربية، لافتاً إلى أنه، ومنذ مجيء نابليون إلى مصر، وكذا تعرف المصريين على الطباعة والمنشورات.. فظهور الصحافة في الشكل المُتعارف عليه حالياً، للصحافة دور مهم في المجتمع.. وبالتوازي، كانت الثقافة تشغل مساحة مهمة في الصحف والمجلات المختلفة.

ويبين الحسيني أن مصر امتلكت، في فترة من الفترات، جملة منابر ثقافية واعدة، مشيراً إلى انضواء بعض هذه المنابر داخل المجتمع الثقافي، تحديداً من خلال إصدارات الهيئة المصرية العامة للكتاب، ومن بينها: مجلة "إبداع" التي يرأس تحريرها الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي. كما يعتقد الحسيني، أن ضعف شكل الإخراج الفني لبعض المجلات الثقافية، كان أحد أسباب عزوف القراء عن شراء مثل هذه المجلات، هذا إضافة إلى تكرار الوجوه الأدبية التي تستأثر بصفحاتها .

تراجع الإعلام والتعليم

يؤكد الشاعر أحمد عجاج أن تراجع دور الإعلام والتعليم، لعبا دوراً مهماً في التأثير على حضور المجلات الثقافية والصحافة الثقافية، بشكل عام. ويلفت في هذا الخصوص إلى دور مصر الرائد في السبعينيات من القرن الماضي، إذ إنها ضمت آنذاك، مجموعة متنوعة وغنية، من المجلات الثقافية التي كان يقبل عليها القراء للاطلاع على مقالات فكرية وثقافية لكبار الكتاب والأدباء، إلى جانب متابعة ما كان يُنشر من حلقات مسلسلة لروايات وقصص قصيرة وأشعار. ويأخذ عجاج، أيضاً، على وزارة الثقافة، عدم اهتمامها بالعامة من أفراد المجتمع، وإنما، على العكس، قصرت اهتمامها فقط على المثقفين.

ويضيف: "إن فترة حكم النظام الأسبق، في عهد الرئيس محمد حسني مبارك، شهدت تراجعاً ملحوظاً في الاهتمام بالشأن الثقافي، بأكمله، وأفرز تراجع التعليم والدور الإعلامي انتشار الأمية الثقافية. وهو ما انعكس سلباً على منفذ الثقافة وأدواتها في المجتمع. وبذا حلت الكارثة الفكرية والمجتمعية. إذ إن الثقافة هي أساس بناء مجتمع متقدم والاهتمام بها لا بد وأن ينعكس، بدوره، على وعي المواطن، على الصعيدين: السياسي والثقافي.

غياب مقلق

 خلصت دراسات ثقافية منهجية، مصدرها مؤسسات ومعاهد بحثية متخصصة، عربياً وعالمياً، إلى أن الصحافة الثقافية في العالم العربي لم تعد تؤدي دوراً بناءً مؤثراً في مسيرة التنوير والتثقيف المجتمعي، كما كانت حالها في عقود ماضية. وفي المقابل، بقي هذا الدور واستمرت تلك المسؤولية معلقة في الفراغ ولا تتولاها أية جهة. إذ لم تتول أية هيئة أو وسيلة تلك المهام.

وهو ما انعكس سلباً على مستوى ثقافة ووعي المجتمع. وفي هذا السياق، يعتقد باحثون، أن تلك الثغرة لم تسد حتى مع انتشار المواقع الإلكترونية، والتي يراها البعض صالحة فقط لنشر توقيتات وأخبار الفعاليات الثقافية.. ولا يمكنها تأدية الدور الذي كان منوطاً بالمجلات الثقافية.

حال متردية حتى بعد ثورات الربيع العربي

 تجمع الدراسات الأكاديمية والبحثية المتخصصة في مجال المجلات الأدبية، والصادرة عن مؤسسات بارزة في المجتمعات العربية، على حقيقة أن قيام ثورات الربيع العربي لم يخدم إذكاء وتقوية حضور المجلات الثقافية في المشهد الثقافي العربي الحالي، وذلك بعد أن كان قد اعتقد جميع المعنيين، أن هذه الثورات ستصلح ما فسد فتعيد الصحافة الأدبية والمجلات الثقافية لتتصدر المشهد من جديد.

ورغم التطور الملحوظ في السوق الثقافية والأدبية التي تشهده الدول العربية، ولا سيما زيادة الإنتاج الأدبي وزيادة المطروح من الأعمال الثقافية، في ظل إقبال فئة الشباب على القراءة، إلا أن الصحافة الثقافية والأدبية، حسب نقاد عديدين، تراوح محلها ولا تطور يطرأ عليها.

ضعف التمويل وانعدام المبادرات الداعمة جوهر الخلل

 تحيل جهات ثقافية مرموقة، أسباب عدم التطور في واقع إسهام المجلات الثقافية بالدور المعول عليها ضمن المجتمع، إلى جملة أسباب جوهرية، حتى رغم مشروعات ومبادرات التطوير المتنوعة. ويأتي على رأس تلك العوامل، كما يقول أدباء ونقاد ومديرو هيئات ثقافية معنية، العوامل الاقتصادية، والتي تطل برأسها كعامل أساسي قوي التأثير في هذه المشكلة..

ففي ظل ضعف التمويل وعدم مبادرة الجهات المطلوب منها ذلك، لتمويل إصدارات مجلات ثقافية، يبرز أيضاً سبب جوهري ملح، يتمثل في انشغال أفراد المجتمع، في ظل واقع الدخل المحدود، بالبحث عن لقمة العيش. وبذا لم يعد لديه الوقت أو المال الذي يمكن أن يوفره، ليشتري مجلة ثقافية أو ليسهم، بشكل ما، في نجاح مثل هذه النوعيات من وسائل التثقيف والتنوير الاجتماعي.