ظلت الثقافة المظهرية حكماً سائداً لقرون وقرون، ومنذ إطلالة المرء يمكن لمن حوله العمل على فرزه طبقياً، طبقاً لثيابه وما يتصل بها من مفردات تدل على موقعه في المجتمع أو طبقاً لهاتفه أو ساعته أو سيارته أو غيرها من مظاهر الثراء التي قد تضعه بين الصفوة من الموسرين.

هل تعتمد الثقافة هذا التصنيف؟ مثلاً لو كنت مثقفاً برجوازياً.. تحتاج إلى عدة تقليدية، غليون وقبعة وربطة عنق، أما إذا كنت مثقفاً ماركسياً لا تكفيك لحية نابتة، أو بنطال جينز قديم، أو سترة من مخلفات الحرب، كابية اللون والشكل وبداخلها أكتافك الهزيلة التي لم تتمرغ يوماً بالطعام الدسم، ولا بد من كتاب سميك لشاعر أو كاتب معروف بيساريته لتصبح واحداً من هؤلاء المتبرمين من كل شيء.

المثقف الوجودي، أنيق حزين، يحتسي الكثير من القهوة، لديه عشيقة وهمية خطفها القدر أو ضربها المرض، قرأ كل كتب سارتر وألبير كامي، ولديه موقف على مسافة واحدة من الأغنياء والفقراء، فلا يصادقهم ولا يجافيهم يكتفي أن يرميهم بنظرة لا مبالية حتى يعطي شرعية لوجوديته.

أما المثقف المعاصر فلا يمكن تصنيفه بمقاييس الأمس يجب استعارة مسطرة من زمن الشاشة الزرقاء، لقياس مدى تأثيره في محيطه، فهو ناقل جيد ودائم للحكم والمواعظ وأبيات الشعر وأفلام الفيديو القصيرة، وفي نهاية اليوم في جعبته ألف (لايك) وعليه تزدحم صفحته بطالبي الصداقة وناشدي المعرفة. لكنه مثقف معاصر بدرجة (دقة قديمة) حيث تقدم عليه المثقف التويتري فبزه شهرة ونال منه نصيب الأسدين في سعة الاهتمام.

صورة المثقف في كل زمن تختلف بحكم متغيرات لجان التحكيم التي لم يعد يعنيها مشهد السيارة الجميلة والثياب الأنيقة والإكسسوارات الفاخرة، فقد يسرت أسواق آسيا ببضائعها المقلدة الرفاهية الاستعراضية للجميع. وكذلك مضى زمن النظرة الحزينة ولفافة التبغ التي تحرق الشفاه والغليون المائل والعين ذات نصف الإغماضة، مشاهد مضت لكنها تحضر في الدراما أو المسرح للدلالة على النمطية في التفكير.

صورة مثقف اليوم ضبابية، ومن خلف أجهزة لوحية معقدة يقول رأيه وينشر فكره دون أن يأبه لأحد، فما حاجته للذهاب إلى الندوات والمحاضرات وتكبد عناء الطريق، يمكنه أن يقول ما لديه وأن يدلي بدلوه دون مقاطعة أو مصادرة، لقد أعطته الحياة الافتراضية مساحة لم تتح لأسلافه من المثقفين.