ليست «الوحوش» كائنات تدب في عمق الغابة أو تزحف في أشرس الكوابيس، فحسب، ولكنها أيضاً محبوسة في عمق النفس البشرية. وهناك مهن وفرص نادرة، من بينها مهنة الممثل، يفرض فيها على الإنسان التعامل مع «الوحوش» الداخلية ومصارعتها والتغلب عليها، لكن بشرط أن يكون الممثل موهوباً ومجتهداً وعاشقاً للفن.

عايدة عبد العزيز، الممثلة المصرية التي رحلت عن عالمنا قبل ساعات، تنتمي من دون شك إلى هذه الفئة.

وهي، على امتداد 60 سنة من التمثيل، صارعت 5 «وحوش» كاسرة، وغلبتها، لكن «وحشاً» واحداً هزمها!

 

5- وحش الأنا: «أكون أو لا أكون»

من معلمة في جنوب مصر، تدرس البنات الصغيرات فنون الرسم، إلى مشاركة في بناء دراما التلفزيون المصري في ستينيات القرن الماضي وإحدى سيدات المسرح العربيات اللواتي وقفن نداً لممثلين رجال بأداء عالٍ، وتفوقن، في بعض المرات، عليهم أداءً وحضوراً. يصعب أن تكون امرأة تبحث عن وهج النجومية على خشبة مسرح يحكمها ويسيّر شؤونها رجال من ثقل جورج أبيض وعبد الرحيم الزرقاني وحمدي غيث. أساتذة تخور النفوس لمجرد التواصل مع سطوتهم، فكيف إن كانوا ممتحنيك وأصحاب الكلمة النهائية في الحكم على طموحك الجارف؟ هذا ما حدث مع عبد العزيز، التي كانت، صبية صغيرة بخبرة ضئيلة، لكن مع حلم كبير، تمكنت من اختراق عالم الكبار، وعشرينات صباها لم تنتصف بعد، لتبدأ رحلة صعودية لم يوقفها عنها سوى تغير أحوال المجتمع، وبالتالي المسرح الجاد وذائقة الجمهور. «أكون أو لا أكون» كان شعارها الشكسبيري المرتبط بتحقيق كينونتها ومعانقة أناها على خشبة مسرح يحتاج إلى أدق تفاصيل الأنا والوعي الحاضرين، في واحد من أقدم وأعقد فنون البشر وأكثرها تجريداً وأصالة.

 

4- وحش الشهرة: «أنا ممثلة كل الفنون»

حين عرض الكاتب الدرامي الشهير أسامة أنور عكاشة على عايدة عبد العزيز أن تلعب دور «زاهية» أمام فاتن حمامة في «ضمير أبلة حكمت» (إنعام محمد علي. 1990) لم ترهب عبد العزيز تلك المخاطرة. ستكون طوال حلقات المسلسل وجه الشر الذي يجعل وجه الخير الملائكي، في هذه الحالة كما دائماً فاتن حمامة، يشعّ أكثر. في واقع الأمر، وإذا ما استندنا وصدقنا شهادات بعض الممثلات الكبار اللواتي كشفن بعض الخصال عن شخصية سيدة الشاشة وطريقتها في اختيار منْ من الممثلين والممثلات يصلحون للوقوف أمامها (شهادة سناء جميل كاشفة ومهمة في هذا المجال)، علينا أن نسأل: هل فكرت فاتن مرتين في وقوف ممثلة بحجم عايدة أمامها، قادرة، بحضور فطري فذ، وعينين وصوت وحركة جسد، أن تلفت الأنظار، حتى لو لم تنطق بجملة كاملة! لم يتسن لنا أن نحكم على ما اختبأ في النوايا والأفكار، لأن مساحة الإبداع التي أعطيت لـ «زاهية» في المسلسل لم تسمح لها حكماً في تجاوز الأداء النمطي المكرر، بعكس دور فاتن بطلة العمل التي ظهرت في كل المشاهد، باستثناء مشهد واحد استمر لدقائق، أدت فيه عايدة بالتحدي والدمع وانهيار الضحية وقسوة ما عانته ورغبتها بالانتقام مشهد المواجهة التاريخي بين «الخير» و«الشر«، بين «زاهية» و«حكمت».

بعكس «سيدة الشاشة» التي لم تقف يوماً على خشبة المسرح، كانت عايدة عبد العزيز، تفاخر بأنها ممثلة كل الأدوار: الخير والشر، وممثلة كل الفنون: المسرح والسينما والتلفزيون والإذاعة. وكان في عمق تفاخرها ذلك، اعتداد ممثل بنفسه وثقته من كمال موهبته، وإصراره على تقديم ما يرضي غرور الفنان بداخله، وليس فقط ما يراعي ذائقة الجمهور ويهادنها ولا يصدمها فيضمن نجومية وشهرة مستمرة.

 

3- وحش التملق: «أنا لا أتذلل لأحظى بجائزة أو دور»

لم تمالق عايدة عبد العزيز محيط صناعة الفن أو «شلليته». حرمها ذلك من فرص كثيرة، ربما، لكنها لم تكترث. عناوين مقابلاتها الصحافية في تسعينيات وبداية الألفية لم تخل في كل مرة من مهاجمة «الفساد في صناعة الفن» و«احتلال نجمات السينما لعالم التلفزيون دون أن يفقهن بأسراره». كانت تعتقد أن الأحقية يجب أن تكون لمن «أفنى شبابه في بناء حس الدراما المصرية وأخلص ونحت وحفر وتعب». هالها تغير المعادلة مع انصراف الأضواء عن نجمات السينما في بداية تسعينيات القرن الماضي حين اجتاحت ما عرف بـ «سينما الشباب» دور العرض وذائقة الناس، فلم تجد النجمات سوى التلفزيون ليكملن مسيرتهن: «تفتح لهن الأبواب، تغدق عليهن الأموال وهن لم يتعبن ولم يخلصن للدراما إلا حين هجرتهن السينما»، صرحت عايدة على الملأ في إحدى مقابلاتها التلفزيونية وسمت كل الأسماء بأسمائها من دون خجل أو مهادنة: «لماذا تحظى نبيلة عبيد بدور العمة نور، أنا الأولى!». ولم تعفِ المسرح من معاتبة رموزه: «سميحة أيوب استبعدتني بسلطتها من المسرح القومي ومحمود ياسين أغضبني بعدم رفضه منحي نصف جائزة مناصفة مع ماجدة الخطيب».

جرأتها في خرق «بروتوكولات المهنة» والثورة على ظلم وقع عليها، كان يليق جداً بشخصية كاملة الثقة بنفسها، تعتقد أنه ليس من وظيفة الفنان الموهوب، ذي الثقل، أن يمالق ويتذلل للحصول على فرصه. وربما تكون خسرت أدواراً لكنها ربحت عزة نفس وكبرياء.

 

2- وحش العمر: «اتحدى جسدي وحبالي الصوتية»

في العام 2004 كانت عايدة عبد العزيز تقترب من منتصف السبعينات من عمرها. لكنها مثل أي مبدع دافق بالعطاء، مثل أم كلثوم تغني في هذا العمر وتصدح حتى آخر لحظة من حياتها، تحدت عبد العزيز كتلة جسدها وطواعيته، كما قوة ذاكرتها وقدراتها، وأيضاً سطوة الصوت وإمكاناته، وها هي تقبل، في تلك المرحلة العمرية التي تتوارى فيها النساء عادة في مجتمعاتنا العربية في بيوت الشيخوخة والاختفاء، أن تقف بكعب عالٍ وصلب مشدود على المسرح مرة جديدة لتؤدي واحداً من أعقد الأدوار وأكثرها تطلباً لكاتب يعتبر من عمالقة المسرح العربي: «أحلام شقية» (نص عبد الله ونوس وإخراج محمد أبو السعود). بعد تاريخ حافل من أمجاد المسرح، سطعت أضواؤه في «الطباشير القوقازية» و«الست هدى» و«عودة الشباب» و«ثمن الحرية» و«نادي العباقرة» و«النجاة» وغيرها الكثير من روائع «المسرح القومي المصري» الذي تخصص في سنواته الذهبية بتمصير كلاسيكيات المسرح العالمي وساهم بالارتقاء بالذائقة الفنية وتزخيم الجو الإبداعي في مصر في تلك الفترة، ها هي عبد العزيز تثبت لنفسها، قبل الجمهور، أن عمالقة المسرح لا يشيخون!

 

1- وحش الخوف: «الممثل الماهر يتقبله الجمهور في كل دور»

تاجرة في المخدرات تجر «محبوب الجماهير» عادل إمام إلى فخ الإدمان في «النمر والأنثى» (سمير سيف. 1987). عضوة شبكة دعارة تنتقل إلى ضفة أخرى بعد أن تتقدم في العمر، ضفة المتاجرة بالدين في «كشف المستور» (عاطف الطيب. 1994). أم قاسية ذات لسان سليط في«بحب السيما» (أسامة فوزي. 2004) وفي غيرها من أدوار السينما، لم تتردد عايدة عبد العزيز من قبول أدوار «الشريرات» في الأفلام وهي الأدوار التي تتجنبها ممثلات كثيرات لاعتقادهن أن الجمهور العربي لا يزال في مرحلة ما قبل النضج التي يخلط فيها بين حقيقة الممثل ودور الشخصية التي يؤديها! لم تكن بطلة المسرح، بفضائه المفتوح على المواجهة اليومية بين الممثل والناس، والذي يقتضي أكثر درجات الشجاعة، لتخاف. لم تكن الممثلة التي تدربت في مرحلة شبابها في مدارس الفن البريطانية، دراسة وخبرات، وتعرفت على مدارس التمثيل الأدائي المختلفة، وتحديداً مدرسة الممثل الإنجليزي التي تستند إلى التقنية وصقل المهارة بالتدريب.. لم تكن لتخاف. وهكذا قبلت بما رهبته الأخريات وربحت احترام الجمهور الذي لم «ينفر» من «شرها الفني» بل احترمها وتقبلها في أدوارها المختلفة الأخرى، مثل المعالجة المصرية لرائعة شكسبير «الملك لير» في مسلسل «دهشة» (شادي الفخراني. 2014) وهو آخر ظهور تمثيلي لها وإلى جانبها يحيى الفخراني، ومعه أيضاً في تحفة سينمائية أخرى «خرج ولم يعد» (محمد خان. 1984).

 

«الوحش» الذي هزمها

زحف مرض النسيان (الزهايمر) قبل سنوات على عقل وروح وإرادة عايدة عبد العزيز. بعد أن توفي صديق رحلتها، شريكها في الفن والحياة، أكثر من أحبت واحترمت وأخلصت له طوال عقود طويلة من الشراكة المقدسة: زوجها المخرج أحمد عبد الحليم، استغرق الحزن في سرائرها. وما غير الحزن الدفين يجر الإنسان في شيخوخته إلى ضفاف النسيان؟ في أيامها الأخيرة، لا نعرف إن كانت عايدة عبد العزيز قادرة على تذكر لحظات المجد، تصفيق الجمهور، صوتها الملعلع، بعنفوان وأنوثة، في شخصية العباسة أخت هارون الرشيد في «لعبة السلطان» (نبيل الألفي. 1986).

صوتها يشق الآذان والقلوب. تقول في أحد مشاهدها: «أنا أصلب عيني عليك وأنت تمشي في جنازة عمري. وأنا تحت قناع الموت والحب المحتال مهملة الشعور. وأنت ترقب عليّ تعاقب الفصول. وأهزم كل ليلة وأستجدي بالزيف دفئاً من ليل الصقيع يطول».

لا نعرف إن نسيت أدوارها وأمجادها لكننا نعرف أنها لم تنس زوجها وحبيبها. كانت تحمل صورته وتبكي حين يقولون لها أنه مات. كانت تفضل أن تنسى ذلك. كان الحب لها مثل شجرة ياسمين لا يجب أن تتوقف عن ضوعها.

سئلت ذات يوم: «لو كنت شجرة، ماذا ستكون». أجابت: «وددت لو أكون.. شجرة ياسمين»!