تضحكنا هند صبري كلما ارتدت لباس شخصية "علا عبد الصبور". امرأة عفوية، لا تنقصها براءة الطفلة ولا الاندهاش من تفاصيل العيش، تضعها الحياة في مواجهة شرسة مع قسوة مجتمع لا تزال المرأة تصارع فيه لتنال حقها في: الحب والكرامة والتحقق الذاتي والفكري، وبالطبع الاستقلال الاقتصادي، دون أن نستثني معاناتها حتى بسبب غياب الوعي الفاعل والتقدير والاحتفاء الحقيقين بدورها كأم صانعة أجيال، تحتاج الى دعم نفسي ومجتمعي للقيام بمهمتها الحساسة هذه على أكمل وجه. أطلت هذه الشخصية علينا لأول مرة في العام 2010 في "عايزة أتجوز" (تأليف: غادة عبد العادل. إخراج: رامي إمام) ثم مجدداً بعد عقد ونيّف في "البحث عن علا" (مها الوزير وغادة عبد العال. هادي الباجوري) الذي يعرض على "نتفليكس" حالياً.
ولكن ما سر علا؟ لماذا تضحكنا رغم أنها تلامس ما يفترض أن يبكينا؟ ما الخط الفاصل بين الكوميديا والتراجيديا؟ وهل بوسعنا أن نصف العمل ضمن "الكوميديا السوداء"، رغم أن فخامة الإنتاج ورؤية الباجوري، حملته بصور لأماكن تصوير وديكورات وأزياء، عامرة بالألوان؟ وخلف ذلك كله، كيف جعلت هند صبري شخصية (أو مشروع ونهج) علا عبد الصبور يخدم جهدها الأعم الذي يتجاوز التمثيل والضالعة به عبر جمعيات ومبادرات ومشاريع عربية ودولية: خدمة المجتمع وتحديداً قضايا المرأة. هنا 5 إجابات قد تكشف أسراراً من سحر.. "علا عبد الصابور".
5
"تشبه أختنا وجارتنا وصديقتنا"
تفتح هند عينيها على اتساع يجعلهما مرآتين لانفعالات كثيفة ومتبدلة: الضعف، الألم، الاندهاش، الأمل، الفرح، الانكسار. تتجه إلى الكاميرا وتتحدث مباشرة إلى المشاهد، وكأنها تختلس لحظات للقاء حميمي معه، تتواطأ أو تشتكي أو تطلق إيماءاتها، بعيداً عن "فورمات" التمثيل. وكأنها ممثلة مسرح ترتجل نصاً موجهاً إلى الجمهور المتمرس في مقاعده. هذا تكنيك يسمى بـ "كسر الجدار الرابع"، مسرحياً. وهو نادر التنفيذ في دراما السينما أو التلفزيون، وعالمياً شاهدناه في "هاوس أوف كاردز" البريطاني الشهير بفعلة فرانسيس أوركهارت. علا، منذ ظهورها الأول، فعلت ذلك ولا تزال. بات ذلك جزءاً من هوية الشخصية، وهذا يجعلها تتجاوز الشاشة، لتنضم إلينا، قرب هواتفنا وأجهزتنا التي نتفرج منها على الحلقات، وتهمس: "أنا منكم، مثلكم، أمثلكم ولا أمثل لكم، أرغب بدعمكم". هذا التنقل السريع والنابض بين الخيال والواقع، بين هند الممثلة وهند "بنت عائلتنا"، لا شك أنه يربكنا، حد الضحك. فهي ليست نجمة تمثيل بعيدة عنا، بل تشبه أختنا وجارتنا وصديقتنا. وحدها سهير البابلي على الخشبة كانت تخلق فينا شعوراً مماثلاً!
4
مشوّشة لكنها لا ترضخ أبداً
نحتاج إلى الأمل.. في عتمة الحروب والأوبئة والطغيان، من منا لا يحلم بالأمل ويعتصم به. من منا لا ينتظر مخلصاً أو معلماً أو مرشداً. وعلا عبد الصبور، التي تجاوزت الأربعين ولا تزال ترتجف في حضرة أمها (سوسن بدر الرائعة في كل مرة) المحملة بإرث مئات السنين من نظرة المرأة المتحفظة (بل الدونية في مرات) لنفسها تحت سطوة الثقافة الذكورية، لا تنهزم تماماً. ينفصل عنها زوجها لتحمل "دمغة" الأم المطلقة، التي جرت العادة على "وأد" روحها، فإذا بها تنكش في تربة أحلامها لكي تستلهم القوة: "أوعى تسيبو حلمكم عشان أي حاجة وأي حد". لا تنزوي، تفتح شهيتها للتعلم، موظفة شغفها وخبراتها. تطلق منتجاً باسمها وترتحل في عالم "البزنس" والتسويق، تكتشفه وتبرع فيه، كإسفنجة تريد أن تلتقط كل الخبرات بسرعة لكي تتقي قسوة المجتمع في نظرته للمطلقة. لن تكون ضحية في مأتم المطلقات الذي لا عزاء له، ستكون مقاتلة من أجل كرامتها وأمومتها. في رحلتها الاستكشافية تلك، من مساحة الزواج الآمن، إلى مدى الانفصال الخطر، تحدث الكثير من المفارقات التي تضحكنا، ليس أقلها أن تقع "الإسفنجة" في يد "مدرب أعمال" يعيش في دبي، لعب دوره باقتدار خالد النبوي.
3
العنكبوت التي لا تقتل الذكر
لا تدعي علا عبد الصبور إنها تخوض معارك نسوية ضد الرجل، بالمفهوم الشائع خلال السنوات الماضية، وما يحمله من سخرية فجة ومصادمات تشترط هند هياكل راسخة وشرسة قبل "البدء بالتفاوض". إنها تسخر من نفسها، ممن حولها، من أبنائها: "مبادئ إيه.. بصي في الأوضة دي يا حبيبتي، انت شايفة أي مبادئ؟"، تقول لابنتها. تستخدم قاموساً لا يجعلها منظرة ولا ملائكية ولا خبيرة، وهي مثل عنكبوت، تنسج ببطء خيوطها التي تتيح لها قوة الفعل، من دون صدامية. هي ليست الشخصية التي تنتقم من الرجال بأن تسدد لهم صفعات على وجوههم، أو تبصق على قاماتهم (وقد تسلّع نفسها لهم في الآن ذاته!)، بل هي المرأة التي تسخر من الرجل وتحرج ضعفه المتبدي قوة وحقاً مقدساً، وتحاكم معه مجتمعاً يدعمه على حساب المرأة: "الطلاق بالنسبة للرجالة إفراج وبالنسبة للستات حبس انفرادي"، تقول لكنها تستدرك: "الست مننا لما بتطلق في حتة (جزء) منها بتموت بس في حتة تانية بتتولد. حتة ليها هي، هي وبس". تحوّل علا الحرمان إلى فعل وتنطلق في كل مكان، بين سهول الورد وفناء مدرسة ولديها وحفلات النساء، تفتش عن طريق الفعل بعيداً عن سلبية التشكي فقط.
وهكذا في حياتها الواقعية دأبت هند صبري أن تفعل. فهي تارة في برنامج إنمائي تابع للأمم المتحدة تقود في نطاقها جهود الحفاظ على البيئة ومواردها، أو هي مؤسسة جمعية ضد التحرش، أو لتمكين المرأة، في مصر وتونس وبلاد أخرى. هي امرأة ناشط وفاعلة بكل المقاييس. وحتى في صناعة التمثيل، لم تكتف بدور الممثلة بل دخلت عالم الإنتاج لتكمل سيرة راسخة للمرأة العربية في صناعة الدراما منذ البدايات المبكرة للسينما. لكن علا/هند عنكبوت لا ترغب بقتل الذكر بل.. تهذيبه!
2
"اطلع برا وشوف وحب"
ببراعة والتقاط دقيق للغة العصر ومتغيراته، يعرض "البحث عن علا"، أطياف وأشكال الحب، بطريقة تجسد عصرنا الحالي. برعت المؤلفتان في تكسير سيطرة أنماط من الحب صنّمتها السينما والدراما على مدى عقود ماضية. إذ لا يصبح الحب والارتباط (بعكس ما كانت عليه علا وكان عليه المجتمع في سنة إنتاج "عايزة أتجوز") هما الشرطان اللذان تتحقق بهما كينونة المرأة ووجودها حصراً، ولا يكون هوساً أو مهرباً من ضغط الأسرة والمجتمع الصغير: "اطلع برا وشوف وحب وتعال حكيلنا ع اللي حصل" تقول كلمات الأغنية التي تصاحب احد المشاهد. انها دعوة للتحرر أولا والاختبار ثانيا ثم اللجوء الى خيمة الحب. "اطلع برا" ثم "شوف" ثم "حب". بهذه التراتبية تم الانقضاض على صيغ تقليدية حكمت مجتمعاتنا منذ "الحرملك" وصولاً إلى "زواج القاصرات" من دون أن نلغي زواج النسب والعشيرة والقبيلة و"بابا عايز كدة".
1
طاقة أنوار تشتعل في كل مكان
في مقطع حواري مبهج بين هند صبري وزميلها وصديقها أحمد السقا، صور في "مهرجان الجونة السينمائي"، وصف السقا زميلته بأنها "إنسانة هايبر". وهي هند.. طاقة مشتعلة. رادار نشط ليل نهار، على الفكر والسياسة وقضايا المجتمع، من دون أن تهمل أناقتها وظهورها الأنثوي ومتطلبات نجوميتها. هي الممثلة الوحيدة، نكاد نجزم، بين بنات جيلها، التي تروج لقراءة الكتب على حسابها على "إنستغرام" وتسأل المتابعين بداية كل عام عن قائمة قراءاتهم المفضلة، جنباً الى جنب مع صور نشاطاتها الإنسانية، وأيضاً مع جلسات تصوير "فوغ ماغازين". وهي التي تجد وقتاً لكي تظهر على مقاطع "غوغل" المصورة ترد على أسئلة الجمهور، من باريس، وتتنقل بين القاهرة وتونس مثل فراشة لا ترتاح. هي، في رحلة عقدين، من أدوار السينما، بطلة سينما التشويق والكوميديا وقضايا الحرية والحرب والتعصب والمرض والمهمشين، وهي أيضاً علا عبد الصبور تزورنا في الشتاء لكي تدفء بالضحك برد قلوبنا.. وعقولنا!