(الألوان زينة العالم، وعالم بلا ألوان، عالم ممل وحزين): بهذه العبارة، استهل الفنان طالب دملخي تقديم كتابه (الألوان نظرياً وعملياً).
مؤكداً أن الرسام الذي يختار ألوانه بحسب شعوره الفطري، لا يستطيع أن يتحكم بالألوان، ولا باللوحة، لأن الألوان تخضع لقوانين من الممكن دراستها، للاستفادة من مزاياها، وبالتالي لتجنب أخطائها، وهذا ما حققته الفنانة التشكيليّة الإماراتيّة الدكتورة نجاة مكي، في معرضها الأحدث (أنا أكتب بالألوان) المقام في صالة (عائشة العبار للفنون) في دبي حتى نهاية شهر أغسطس 2021.
وليمة من الألوان
يضم المعرض خمسة وثلاثين عملاً فنياً مسطحاً ومجسماً، منفذة بألوان الأكريليك وبالزجاج، بعضها بالصيغة التقليديّة، وبعضها الآخر يمكن إدراجه ضمن مفهوم تدوير الأشياء المستعملة في الفن، وفي المعالجتين حافظت على شخصيتها الفنية، التي باتت اليوم من العلامات البارزة والحاضرة والرائدة في التشكيل الإماراتي المعاصر.
في مجمله، يُشكل المعرض وليمة لونيّة مُبهرة، تشتغل عليها الفنانة مكي منذ عام 1987، تنتمي لفصيلة الألوان الفسفوريّة القوية والمتضادة، سعت دوماً لتطويرها كبنية تصويريّة دلاليّة، وكتوظيف مُتقن ومدروس، في اللوحة المسنديّة، وفي الأعمال الفراغية لا سيما (فن التجهيز) الذي انتشر في الآونة الأخيرة.
التعبير بالحجوم
تعكس أعمال المعرض المجسمة حنين الفنانة مكي لاختصاصها الأكاديمي (النحت) المجسم والنافر الذي درسته في القاهرة، وحصلت فيه على الماجستير والدكتوراه، وعزفت عنه لصالح التصوير، نتيجة لاعتبارات عديدة (وهذه الحالة تنسحب على عدد كبير من التشكيليين العرب).
تمثلت هذه الأعمال بعدد من التشكيلات الفراغيّة المنفذة من مواد وخامات مختلفة، وبالأعمال التي استخدمت فيها التدوير كشباك الصيد، والسجاجيد والبسط، والستائر، وهي أشياء استنفدت مهامها في خدمة الناس الذين كانت لديهم، فأوجدت الفنانة مكي مهام جديدة لها في منجزها الفني، بعد إخضاعها لمعالجات شكليّة ولونيّة، تتوافق وتنسجم مع السمات العامة لهذا المنجز، ومع الموضوع الجديد، الذي أوى إليه.
مرويات وحكايات
وُضعت أعمال التدوير على الأرض، وفوق الجدران، أو انهمرت من سقف صالة العرض، شلالات من اللون المعجون بالضوء، واستخدامها للألوان الفسفوريّة المتضادة في أعمالها، زاد من حضورها القوي في فضاء الصالة، لا سيما بعد أن أحاطتها بظلام دامس، الأمر الذي زاد من قوة تأثيرها في المتلقي الذي أرادت من خلالها، وضعه في حالة تفاعليّة عميقة مع ما انتابها من شجن، وقلق، واضطراب نفسي وبدني، أثناء إنجازها لها، بتأثير صدمة انتشار وباء كورونا، الذي رمزت له بالظلام الدامس، وجسدت أمل التخلص منه والقضاء عليه، بوليمة الألوان والرموز والأشكال الحاضنة لها.
أما اختيارها شبكات الصيد، والسجاجيد والبسط، والستائر، فيعود لاعتقادها بأن هذه الأشياء التي أُحيلت للتقاعد، بعد تأديتها لواجبها بتزيين وتجميل البيوت، ونسج علاقات حميمة مع أصحابها، واستحضارها لها في فنها، محاولة لمساعدتها على القيام بسرد مروياتها الجميلة، المؤثرة، والصادقة، تماماً كحكايا الأم لأطفالها.
تجربة راسخة ومتجددة
المتابع لتجربة الفنانة المجتهدة ودائمة البحث والتجريب نجاة مكي يجد أنها منذ البدايات الأولى لهذه التجربة وحتى الآن، وفّرت لها جملة من المرتكزات والمنصات الراسخة، يأتي في مقدمتها، حسها الجمالي الذي انبثق من بيئتها وحمولاتها الحضاريّة، تعمل جاهدة على توفير وتكريس معطيات ومرجعيات تتوافق وهذا الحس، وفي نفس الوقت، تستوعب ما تفرزه المعاصرة، من توجهات وتقانات جديدة ومفيدة، ومن ثم توظيف ما يتراكم لديها من خبرات نظريّة وعمليّة، في معالجة الموضوعات المستجدة، في عالمنا المضطرب.