الشاعر أحمد زكي أبو شادي، لم يحز شهرة أحمد شوقي وحافظ إبراهيم، رغم أنه عاش في زمنهما وكان صديقاً لهما، وعندما اطلعت على شعره وجدته لا يقل قوة ولا إبداعاً عنهما، وثار سؤال «لماذا» في ذهني وأنا أقرأ سيرته وأتلو قصائده، ولذلك لم أجد بدّاً من استحضاره بطريقة أو بأخرى لأجعله يجيب عن هذا السؤال، لماذا؟

قلت: سلام على روحك أيها الشاعر العربي الكبير.

قال: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، لماذا جئت تطرق بابي وتعكر سكينتي؟

 

قلت: لأنني لا أعتبرك ميتاً.

قال: من عام 1955، وأنا صامت في قبري، ومع ذلك تعتبرني حيّاً؟

 

قلت:

ليس من مات فاستراح بميتٍ

              إنّما الميتُ ميِّتُ الأحيَــــاء

قال: هذا شعر صالح بن عبد القدوس.

 

قلت: إنه رائع.

قال: ولكن شعره كان سبب مقتله.

 

قلت: ومن قتله؟

قال: الخليفة العباسي المهدي.

 

قلت: رحمه الله.. كثيرون قتلهم شعرهم.

ولكن السؤال الذي أقض مضجعي هو لماذا؟

 

قال: هل جئت لتوقظني من سبات الموت لأجيب عن لماذا كان الشعراء يقتلون؟

قلت: لا، ليس هذا هو سؤالي.. ولكن لماذا وقد عشت مع أحمد شوقي وحافظ إبراهيم وكنت شاعراً مبدعاً مثلهم أو حتى أكثر إبداعاً ولم تشتهر مثلهم؟

 

قال: وهل تعتقد أننا نحكم على الشعراء من إبداعهم الحقيقي؟

قلت: هذا ما أعتقده.

 

قال: اسأل ميتاً مجرباً ولا تسأل حياً جاهلاً.

قلت: ولهذا جئت أسألك.

 

قال: منذ بدء الخلق، والحكم على المبدعين يتم حسب المصلحة، وحسب رضا أولي الأمر عنهم، وحتى اليوم فإنكم تنظرون إلى المبدع حسب ما نشر عنه وحسب تطبيل وتزمير الإعلام.. لا حسب الإبداع الحقيقي.

قلت: لا تدخل إلى ساحات الحاضر، فأنت مت منذ عام 1955، والعالم تغير بعد موتك كثيراً، حدثني عن نفسك.

 

قال: لن أجيب عن سؤالك، ولكنني سأحدثك عن نفسي، وقد نجد الإجابة المنشودة فيما سأقول.

قلت: تفضل.

 

قال: ولدت في حي عابدين في القاهرة سنة 1892، وكان والدي محمد أبو شادي نقيباً للمحامين وأحد أعضاء حزب الوفد البارزين.

قلت: وكان أيضاً صاحب صالون أدبي.

 

قال: هذا صحيح، ووالدتي هي أمينة محمد نجيب من مواليد 1887 وتوفيت عام 1917.

قلت: قرأت أن والدتك كانت مهتمة بالأدب.

 

قال: بل كانت شاعرة، وهي شقيقة الشاعر مصطفى نجيب.

قلت: هل كان للأب والأم أثر في اتجاهك للشعر؟

 

قال: بل أكبر الأثر.

قلت: ولكن لم تتجه إلى دراسة الأدب.

 

قال: الشعر يا صديقي لا يأتي من خلال الدراسة أو البحث، الشعر منحة إلهية يخص بها الله تعالى بعض عباده.

قلت: حدثني عن دراستك.

 

قال: تلقيت علومي الأولى في القاهرة، ثم التحقت بمدرسة الطب بالقصر العيني، ومع الأسف لم أكمل دراستي فيها.

قلت: ولماذا؟

 

قال: كنت مصاباً بداء الشعر، كان ذلك الداء مسيطراً على تفكيري، فكنت أتردد إلى دار الكتب المصرية أقرأ الشعر العربي القديم، وأسجل في دفتري ما يعجبني من ذلك الشعر، وكان والدي يشجعني على دراسة الأدب، وكان يسمح لي بحضور ندوته الأسبوعية، وفي صالون أبي الأدبي تعرفت إلى كثير من الشعراء مثل أحمد شوقي وحافظ إبراهيم وخليل مطران.

قلت: هل تأثرت بهم؟

 

قال: بل هم كانوا أساتذتي.

قلت: صدر ديوانك الأول سنة 1910، ولم يكن عمرك يزيد على ثمانية عشر عاماً، فكيف تجرأت على إصدار هذا الديوان؟

 

قال: الشعر لا يرتبط بالعمر.

قلت: ألم ينصحك والدك أو شعراء عصرك الذين كنت تجالسهم بالتريث؟

 

قال: بالعكس.. هم الذين شجعوني، حتى إن ديواني الأول (نداء الفجر) حظي بترحيب الشاعر خليل مطران، وعلى تقريظ واضح مسجل منه.

قلت: هل تأثرت بشعر خليل مطران؟

 

قال: أعتبر خليل مطران هو الناقد الأول لشعري وقد تأثرت بشعره كثيراً.

قلت: ومع ذلك لم تدرس الأدب.

 

قال: بل سافرت إلى بريطانيا لأدرس الطب في جامعة لندن، وأقمت في بريطانيا عشر سنوات وتخصصت في علم الجراثيم وتربية النحل، وأسست معهد النحالة الدولية عام 1919.

قلت: الأطباء الشعراء والأدباء كثيرون.

 

قال: لأن هذه المهنة أقرب إلى الشعور بآلام الإنسان وتجاربه الحياتية.

قلت: ولكنك عدت إلى مصر لا لتمارس مهنة الطب فحسب، بل لتشارك في النشاط الأدبي الكبير الذي شهدته مصر بشعرائها وأدبائها في ذلك الزمن.

 

قال: هذا صحيح.. عدت إلى الوطن.. لأعمل في المجال الذي درسته وأتقنته.. ولأنشط في المجال الذي أحببته وسيطر على عقلي وفكري.

قلت: هل تحدثنا عن نشاطك الأدبي؟

 

قال: ساهمت في إنشاء مجلتين هما «أبوللو» و«أدبي»، وكنت سكرتيراً لجمعية أبوللو.

قلت: ومن كان معك من الشعراء في هذه الجمعية؟

 

قال: خليل مطران، وأحمد محرم، وإبراهيم ناجي وغيرهم.

قلت: يعدك المؤرخون للشعر العربي صاحب أول محاولة في الشعر العربي غير المقيد بعدد التفعيلات في البيت الواحد.

 

قال: وهذا ما عرضني لأقسى هجمات النقاد، وكان سبباً في تركي وطني مصر، والهجرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية وكان ذلك عام 1940.

قلت: وماذا عملت هناك؟

 

قال: عملت في التجارة وفي الإذاعة.

قلت: وأين سكنت؟

 

قال: في نيويورك.

قلت: ألم تكن متسرعاً باتخاذ هذا القرار؟

قال:

تغرب عن الأوطان في طلب العلا

                  وسافر ففي الأسفار خمس فوائد

تفــرّج هَـــمٍّ واكتســـاب معيشـــــةٍ

                  وعلمٌ وأخلاقٌ وصحبة مَــاجِــــد

 

قلت: وهل حققت هذه المكاسب؟

قال: حققت بعضها.

 

قلت: مثلاً؟

قال: شكلت رابطة أدبية سميتها «مينيرفا»، وقمت بتدريس اللغة العربية في معهد آسيا، وحينما انتقلت إلى واشنطن عملت في إذاعة صوت أمريكا.

 

قلت: هل لنا أن نطلع على إحدى قصائدك؟

قال: أقترح أن تقرأ لي بصوتك قصيدتي في رثاء الفنانة العربية التي رحلت شابة لم تر الحياة بعد، أسمهان.

 

قلت: ومتى كان ذلك؟

قال: في عام 1944.

 

رثاء أسمهان

 

قد اندثر الفنُّ؟ يا للقدرْ

ويَجنِي على الحُسْنِ حتَّى الحَذَرْ؟



ويَغْرَقُ في اليَمِّ هذا الضِّياءُ

وكمْ طافَ بالكَوْنِ حتَّى عَثَرْ



مُلَقِّنَةُ الفَنِّ أحْلَامَهُ

وتِمْثَالُهُ الرَّائِعُ المُبْتَكَرْ



وَخَاطِرَةٌ تَشْرَئِبُّ القُلُوبُ

إلَيْهَا وَيُصْغِي إلَيْهَا الوَتَرْ



يُفِيضُ الدَّلَالُ عَلَيْهَا الجَمَالَ

أَفَانِينَ يَهْفُو إلَيْهَا الزَّهَرْ



وَيَنْتَظِمُ الحُسْنُ مَا يَشْتَهِيهِ

خَيَالَ المُنَى وَنَعِيمَ البَشَرْ



كَأَنَّ الطَّبِيعَةَ مِنْهَا اسْتَمَدَّتْ

بَهاءَ الفُصُولِ وَنُورَ البَصَرْ



فَمِنْهَا نَضَارَةُ شَدْوِ الرَّبِيعِ

وَمِنْهَا حَرارَةُ صَيْفٍ خَطَرْ

وَمِنَّا شُذُوذُ الخَرِيفِ الشَّرِيدِ

يَنُوحُ وَيَضْحَكُ بَيْنَ الشَّجَرْ



وَمِنْهَا جَوَاهِرُ ثَلْجِ الشِّتاءِ

وَلَهْوُ الرِّياحِ وَلَحْنُ المَطَرْ



كَأنَّ مَوَاهِبَكِ الرَّائِعَاتِ

بِإِعْجَازِهَا تَتَحَدَّى القَدَرْ



كَأنَّكِ أَنْتِ الَّتِي أَنْشَأَتْهَا

وَلَمْ تَتَجاوَزْ حُدُودَ الصِّغَرْ



فَكَيْفَ إذَا حَالَفَتْهَا الحُظُوظُ

وَفَاضَ الغَدِيرُ وَعَمَّ الثَّمَرْ



وَلَمْ تَبْتَدِرْهَا عَوَادِي الزَّمانِ

فَيُطْوَى الكِتابُ وَيُنْهَى السَّفَرْ



فَوَا لَهْفَةَ الفَنِّ ماتَ العَزاءُ

وَيَا لَوْعَةَ الكَوْنِ مَاتَ القَمَرْ

 

صفحة متخصّصة تضيء على سير وإبداعات قامات الشعر العربي