يتقابل باب شرقي الأثري في سور دمشق القديمة، مع آخر معمل لصناعة نفخ الزجاج، التي تعتبر الحرفة الأقدم في العالم، ليختصر المشهد حضارة أقدم عاصمة مأهولة في التاريخ ومهارة السوريين في العمران والاقتصاد الإبداعي.
وعلى الرغم من آثار الحرب وتداعياتها الكارثية، يحاول 3 أشقاء من آل الحلاق ورثوا المهنة عن أبيهم وأجدادهم المحافظة عليها وحمايتها من الاندثار بشق الأنفس.
مهنة تراثية
يقول شيخ كار صناعة نفخ الزجاج الدمشقي أحمد الحلاق (أبو محمود) لـ«البيان»، «هذه الصناعة تراثية موطنها الأصلي دمشق، وهي صناعة إبداعية منفردة».
وأضاف الحلاق أن هذه المهنة متوارثة شأنها شأن معظم المهن الدمشقية، إلا أنها تأثرت في العقود الماضية بسبب تحول صناعة الزجاج من اليدوي إلى الآلي بالإضافة إلى ظهور منتجات تنافسية كالبلاستيك.
مراحل التصنيع
قال الحلاق «إن المادة الأساسية في صناعة الزجاج هو الزجاج المكسر، حيث نقوم بإعادة تدويره بدءاً من فرزه حسب اللون، فيما كانت سابقاً تعتمد على الرمل».
وأضاف أن «العنصر الأساسي في التصنيع هو الفرن الذي نقوم ببنائه بأيدينا، وهو يتألف من 3 أقسام، الأول هو قسم الصهر وتكون الحرارة فيه 1200 درجة، ونضع الزجاج المكسور بعد 4 ساعات من إشغاله حتى يصل الفرن إلى درجة الحرارة المطلوبة»، لافتاً إلى أنه «يقوم بوضع 7 كغ من الزجاج، وكل ساعة نضع الكمية نفسها حتى يمتلئ، إذ تستغرق هذه العملية 16 ساعة». وتابع أنه «بعد انصهار الزجاج في الجزء الأول نقوم برفع حاجز مع القسم الثاني من الفرن، حيث ينتقل الزجاج السائل ويتحول إلى العجينة، إذ إن درجة الحرارة به تصل إلى 1000 درجة، ومن هذا الجزء نسحب العجينة ونقوم بتشكيلها بالنفخ وفق ما نريد».
وأردف «بعد الانتهاء من تشكيل القطعة نضعها بالمشواية، وهي الجزء الثالث من الفرن، وتكون درجة حرارة فيه 500 درجة وهو عبارة عن سكة يوضع عليها عربات وتستغرق كل عربة حتى تمتلئ حوالي ساعة، وبعد امتلائها يتم سحبها تدريجياً إلى مكان تكون درجة حرارته 400 درجة مئوية، وهكذا بالتدريج خلال 6 ساعات حتى تصل إلى درجة حرارة الغرفة».
وأشار إلى أن «الزجاج المكسور الأبيض والأخضر والعسلي ينتج قطعاً من الألوان نفسها، أما إذا أردنا ألواناً أخرى فنقوم بوضع الصباغ في مرحلة الصهر».
الفرن
ويقول الحلاق «إن الفرن يتألف من الآجر الناري والطينة الخارجية من القش والتراب الناري لحفظ حرارة الفرن ويعطي جمالية»، مضيفاً أن العمر الافتراضي للفرن حوالي 9 أشهر ويمكن أن يمتد لسنة كاملة شرط لا ينطفئ خلال هذه المدة».
وتابع أن «إطفاء الفرن بشكل متكرر يقصر من عمره الافتراضي».
مهارة
وهذه المهنة بحاجة إلى دقة ومراقبة دقيقة لدرجات الحرارة ومراحل التصنيع، حتى يتم إنتاج قطعة زجاجية متكاملة دون أي تشوه.
وعن المواصفات التي يجب أن يتمتع بها العاملون بهذه المهنة التراثية، قال الحلاق «إن مشوار إتقان هذه المهنة الفنية طويل يمتد لحوالي 3 سنوات حتى يصبح الحرفي قادراً على التعامل مع كافة مراحل الإنتاج».
وأردف «ينتج المعمل حالياً كؤوس الماء والعصير والمزهريات وبعض قطع الديكور والثريات، بتصاميم قديمة بالإضافة إلى تصاميم جديدة لمواكبة العصر كما يمكن أن ننفذ تصميماً للزبون كان قد شاهده على الإنترنت».
اندثار
الحلاق يعبر عن مخاوفه وهواجسه من انهيار هذه المهنة التراثية الإبداعية واندثارها، حيث يشير إلى أنه «لم يتبق في البلاد غير معملهم الذي ينتج في ظل ظروف قاسية جداً جراء الحرب والعقوبات».
وتابع «قبل الأزمة كنا نعمل على مدار العام وعلى مدار الـ24 ساعة بثلاث ورديات في كل وردية 3 حرفيين ولا نأخذ عطلة إلا في عيدي الفطر والأضحى، أما الآن اختلف الأمر، إذ أصبح الفرن صغيراً، وأصبحنا نوقف العمل لعدة أشهر».
وأشار إلى إن «العامل الآخر المؤثر تراجع أعداد السياح بسبب الحرب بالإضافة إلى صعوبات أخرى عدة منها مسألة تحويل الأموال وشحن البضائع بسبب العقوبات، بعد أن كنا نصدر بضائعنا إلى لبنان والأردن ودول الخليج بالإضافة إلى استهلاك السوق المحلية مثل الفنادق الخمس نجوم، فيما لم يتبق لدينا سوى زبونين اثنين في فرنسا».
على اللائحة العالمية
الحلاق أعرب عن أمله أن يسهم إدراج صناعة نفخ الزجاج الدمشقي على قائمة التراث الثقافي الإنساني من قبل اليونيسكو في دعم هذه الصناعة والحد من اندثارها.
وكانت اليونيسكو أدرجت أوائل ديسمبر الفائت عنصر نفخ الزجاج يدوياً على قائمة التراث الثقافي اللامادي الذي يحتاج إلى صون عاجل، خلال اجتماع الدورة الثامنة عشرة للجنة الحكومية الدولية لحماية التراث الثقافي اللامادي في بوتسوانا.