ها هي ذكرى يوسف إدريس (19 مايو 1927 ـ اول اغسطس 1991) قد مضت دون ان يلحظها الكثيرون, مقال هنا او اشارة هناك, وندوة يسعى الى عقدها المجلس الاعلى للثقافة, ألح فيها على المثقفين بالاسهام, كما لو كان يذكرهم بشيء نسوه, او يدفعهم الى استعادة مافقدوه, وما كان يوسف ادريس من الذين يستطيع احد نسيانهم او عدم الانتباه الى حضورهم, فقد كانت حياته المتوقدة بالتوتر كالعاصفة التي لا تهدأ ولا تستريح, ولا تترك لغيرها سبيلا الى الراحة او الهدوء, وقد تعودنا منه في حياته ان يشد اليه الاعين والآذان, ويفرض على كل من حوله اليقظة الى كتاباته وممارساته, تلك الكتابات التي كان ينظر اليها بوصفها غاية وجوده والهدف من حياته. ولا احسبني عرفت في حياتي اديبا ينطوي على كل هذا القدر من التوتر والقلق والرهافة والعنف مثل يوسف ادريس الذي كان يتحرك كالعصب العاري الذي تستفزه اية نسمة او لمسة. وما كان لنا نحن الذين عرفناه معرفة الاصدقاء سوى الحديث حول كتاباته او افعاله, وتحمل نزاوته واندفاعاته في محبة خالصة واعجاب صادق, فقد كنا نرى حضوره بيننا عاصفة ربيعية, محملة دائما, بغبار اللقاح الواعد بحيرات ابداعية لا نهاية لها. وكانت شخصية يوسف ادريس الكاتب على قدر هائل من الغنى والتنوع, مجبولة على نهم دائم للمعرفة, ورغبة متصلة في الابداع, وشبق مجنون لاختراق اسرار المحرمات السياسية والاجتماعية, وعشق عنيد للحضور الحيوي في الوجود, وذلك على النحو الذي كان يجذب اليه طوائف متباينة كل التباين, مختلفة كل الاختلاف, من المثقفين الذين رأوا في حضوره الابداعي تجسيدا لكل ما حلموا به او تطلعوا اليه, سواء على مستوى جدة الكتابة في مجال القصة القصيرة التي لايزال يتربع على قمتها الى اليوم دون منازع حقيقي, او على مستوى جرأة النطق بالمسكوت عنه في المقالات الصحفية التي تعود ان يناوش بها كل قوى الجمود, او على مستوى المسرح الذي احاله الى احتفالية كرنفالية مفتوحة الى ابعد مدى لآلام (الفرافير) الذين عانوا وطأة (المهزلة الارضية) بكل ابعادها. وما كان ايسر ان يلاحظ المرء في المنتديات الادبية الصلة الوثيقة التي كانت تربط يوسف ادريس بالواعدين من كتاب القصة القصيرة والرواية, خصوصا جيل الستينات الذي قدم يوسف ادريس غير واحد من اعلامه, على نحو مافعل مع صنع الله ابراهيم بعد ان قرأ روايته الاستثنائية (تلك الرائحة) . واذكر انه خصص بابا كاملا في مجلة (الكاتب) القاهرية في الستينات لتقديم الابداع الجديد, الابداع الواعد الذي سرعان ماتحول كتابه الشباب الى كتاب كبار يحتلون مرتبة الصدارة من تيارات الابداع العربي اليوم, ولا تبدأ القائمة التي اسهم يوسف ادريس في تقديم اصحابها باسم صنع الله ابراهيم, او تنتهي باسم محمد المخزنجي, وحدهما, فكثرة اسماء القائمة دليل على الدور الفاعل الذي قام به يوسف ادريس في دفع اجيال جديدة من كتاب القصة في الطرق الجديدة التي كان هو اول من رادها, واول من حاول استكشاف آفاقها الابداعية الواعدة. من يستطيع ان ينسى في هذا الصدد محاولاته في تأسيس (قصة مصرية) خالصة, قصة هي نوع من الابداع الذاتي الذي يفيد فيه كاتبها من كل تيارات القص في العالم دون ان يفقد اصالته, او ينسى اسئلته الخاصة, او هموم مجتمعه النوعية, ولا يكف عن تطوير قدراته وتوسيع آفاق معرفته, وذلك في الوقت الذي لايتوقف فيه هذا الكاتب عن تثوير تقنياته القصصية لتكون بعض العالم الحي الذي يعيش فيه وينتسب الى تياراته الطليعية, وفي الوقت نفسه, بعض الواقع الذي تتولد عنه لكي تواجهه بما ينقله من مستوى الضرورة الى مستوى الحرية, ولذلك تعددت مراحل يوسف ادريس, كما تنوعت تقنياته, ابتداء من (ارخص ليالي) التي اصدرها سنة 1954 الى آخر اعماله التي اصدرها قبل وفاته بقليل, والمسافة بين قصة مثل (ارخص ليالي) نفسها وقصة مثل (العملية الكبرى) او (المرتبة المقعدة) او (بيت من لحم) هي المسافة التي تصل بين التنوع المتعاقب في اطار الوحدة الفنية لفعل التجريب القصصي المستمر. ولا يقتصر الامر في هذا التجريب على القصة القصيرة, واحة يوسف ادريس المشتهاة وجنته الغاوية, بل يجاوزه الى كتابة المسرحية التي نقلها يوسف الى افق تجريبي متعدد في وعوده, افق كان بمثابة البداية الحقيقية للتجريب المسرحي الذي نقيم له كل سنة مهرجانا دوليا في القاهرة, وما أسرع ما تخلى يوسف إدريس, فيما يعرف المتابعون لتحولات مسرحه المتميز, عن القالب شبه الأرسطي الذي لجأ اليه في مسرحيات مثل (ملك القطن) أو (اللحظة الحرجة) ليلج تجربة الشكل الجديد الذي قدمته مسرحية (الفرافير) سنة ,1964 فكانت نموذجا إبداعيا للشكل المسرحي الذي حلم به, الشكل الذي رآه مستمدا من بيئتنا وتاريخ وجداننا. وأذكر أنه كان يصيح في الستينات, خصوصا في سنوات مدها القومي, داعيا المبدعين الشباب الى أن يتعلموا أن يكونوا عربا أولا, مؤكدا أننا كلما ازددنا محلية وقومية ازددنا عالمية وإنسانية. ولذلك كتب مقالاته الشهيرة في مجلة (الكاتب) داعيا الى (مسرح مصري) . وما كان يعني بهذه الدعوة سوى وجود (مسرح عربي) . ودليل ذلك ان مقالات الستينات (1964) بعنوان (نحو مسرح مصري) هي التي نشرها بعد ذلك بعشر سنوات في بيروت تحت عنوان (نحو مسرح عربي) , وهي المقالات التي سارت جنبا الى جنب كتابة (الفرافير) وما جاء بعدها من مسرحيات, كان الهدف الإسهام في تأسيس شكل مسرحي عربي. وكان يقول في ذلك إن المسرح مثل الموسيقى وكل الفنون لايوجد له شكل عالمي واحد, وإنه لابد أن يتخذ لدى كل شعب من الشعوب شكلا خاصا بهذا الشعب. وقد قاد يوسف في هذه الدعوة مجموعة واعدة من كتاب المسرح الكبار اليوم, على امتداد الوطن العربي كله, سبقهم في طريق الكشف والتجريب, خصوصا بعد أن وجد فيما أطلق عليه اسم (التمسرح) مفتاح الهوية المتميزة للمسرح العربي شكلا ومضمونا, وبعد أن أوضح للمتشككين منهم أن فعل (التمسرح) لايمكن سجنه أو حصره في صيغة شكلية واحدة. ولذلك كان تأصيله لحيوية التمسرح, ومرونة فعله, البداية التي فتحت الطريق أمام المحاولات المشابهة, أقصد الى تلك المحاولات التي انتهت بتأسيس ما يطلق عليه أصدقاؤنا في المغرب الأقصى اسم (الاحتفالية) . والتسمية نفسها مأخذوة من افتتاحية (الفرافير) في المونولوج الذي يبدأ به (المؤلف) المسرحية, خصوصا حين يتجه الى الجمهور قائلاً: (المسرح احتفال, اجتماع كبير, مهرجان, ناس كتير.. بتحتفل أولا إنها اتقابلت, وثانيا إنها ح تقوم في الاحتفال ده بمسرحة وفلسفة ومسخرة نفسها بكل صراحة ووقاحة وانطلاق) . وأحسب أن وصف يوسف لمعنى الاحتفال الذي يقوم عليه مسرحه هو الأصل في معنى الاحتفالية التي كتب عنها عبدالكريم برشيد وعبدالرحمن زيدان بعد ذلك. وهو المعنى الذي ينطبق بعضه على كتابة يوسف إدريس كلها, لأنها كتابة تحتفل أولا بفعل الكتابة لأنه فعل الحياة, وتقوم في هذا الاحتفال الكتابي, ثانيا, بتدمير كل جدران السجن الذي يحتجز الإرادة الانسانية, مؤكدا الحرية في كل مجالاتها ومدافعا عنها بالكتابة, فهو احتفال كتابة تمسرح وتفلسف وتسخر من كل شيء بوضعه موضع المساءلة, ابتداء من الكاتب الذي يكتب وانتهاء بالقارىء الذي يقرأ. وقد أثارت هذه الكتابة الكثير من العواصف الغاضبة عليها, وشغلت الدنيا والناس على كل المستويات, وظلت تفعل ذلك مؤكدة الحضور الإبداعي الخلاق والاستفزازي ليوسف إدريس الكاتب الذي لم يوقف اندفاعه سوى الموت, الموت الذي خطفه من بيننا منذ ثماني سنوات, وخلف لنا غبار النسيان الذي ظل يتراكم سنة بعد سنة الى أن جاءت ذكرى يوسف الثامنة, ومرت دون أن ينتبه الكثيرون الى المبدع الذي وصف نفسه, في أواخر الخمسينات, بقوله: (انني مختلف تماما ككاتب عن هؤلاء الذين يجلسون على مقاعدهم أو في المقاهي, ممسكين بعصا ومسبحة. إنني أقفز وأجري, أنفجر وأفكر, أعاني من الاكتئاب وأفرح, أسافر وأقابل الناس, وأهيم على وجهي, انني مركب حي في نسيج المجتمع, ولو أن هذا المجتمع ليس حيا لتوسلت اليه بهمس. واشتبكت معه في معارك, أو حتى لطعنته بقلمي حتى أعيده الى الحياة) .