بقلم: لقمان محمود يظل عرار ـ مصطفى وهبي التل ـ ذلك الشاعر الكبير, الذي لا نظير له في الادب الاردني, حيث يعتبر رائد القصيد الاردنية في مطلع هذا القرن. فعرار كان نسيج وحده في الحركة الشعرية المعاصرة, لكونه شاعرا متفردا لا ينتمي الى جيل, ولا الى مدرسة, وانما ينتمي الى تجربته الخاصة فقط, لأن معظم قصائده قد رسختها مفاهيم تجاربه الحياتية, وربما عرار الشاعر الوحيد الذي لا ينفصل شعره عن حياته, فقد استغل مادة حياته استغلالا صادقا, واسقطها بصدق وبدقة وبشفافية في شعره, حيث لم يحجب من حياته شيئاً, تلك الحياة المتصلة بالمجتمع الاردني بشكل عام. ولد عرار في مدينة اربد عام ,1899 وبينما هو في سن مبكرة من طفولته, طلق ابوه امه, وتزوج من امرأة اخرى. هذه الفاجعة رسمت ملامح شخصية الطفل, وحددت اطرحياته, ونكاد نتلمس تلك الطفولة المعذبة من خلال الاسى والنقمة اللتان ملأنا قلبه فيما بعد نحو طفولته وصباه اللتان تحكمت فيهما زوجة ابيه الظالمة, وكانتقام منه لكل ذلك فقد اختار لنفسه اسما اخر (لقبا شعريا), ليستعيد بذلك حياته الجديدة من جهة, وليؤكد الشبه بينه وبين الشاعر (عرار بن عمرو بن شاس) من جهة اخرى, الذي كانت زوجة ابيه تظلمه وتؤذيه. ففي العام ,1912 سافر عرار الى دمشق ليكمل دراسته الثانوية في مدرسة (عنبر) , لكنه غادرها بعد فترة قصيرة الى بيروت, حيث دخل (المكتب السلطاني) فيها, لكنه عاد من جديد الى مدرسة (عنبر) بدمشق, ورغم هذه العودة فإنه لم يستطع اكمال دراسته, فانتقل من دمشق الى حلب, وفي حلب استطاع ان ينهي دراسته الثانوية في عام ,1918 بالمدرسة (التجهيزية) . وخلال هذه التنقلات بين دمشق وبيروت وحلب, شاهد عرار بعينيه احرار السادس من مايو عام ,1916 وهم يعلقون على اعواد المشانق في دمشق وبيروت, بأمر من السفاح جمال باشا, وكان عرار قد شب عن الطوق في العهد التركي, وفتح عينيه على ظلمهم, ولكنه عندما رأى بشاعة الحقيقة ـ بعينيه ـ تمنى لهؤلاء السفاحين الاتراك الزوال من الوجود. وفي عام ,1925 عندما كان حاكما في (الشوبك) تهيأت له الفرصة التي احيت فيه رغبته التي كان من المستحيل تحقيقها, لولا القدر الذي ساق اليه الحياة عن طريق حادثة وقعت, اذ حدث ان رفع اليه احد الغجريين شكوى, فانصفه عرار من غريمه, فأعجب المشتكي بانصافه ودعاه الى مضارب قومه, وسرعان ما لبى عرار الدعوة الى كان يبحث عنها, والتي سوف تشبع رغبته وميوله من موسيقا وغناء وحب وبساطة وتآلف وكرم, والتي ستبعده عن قومه المزهوين بآبائهم واجدادهم, وعن الحياة الزائفة والتقاليد البالية. فعرار الذي هو من اسرة معروفة, والذي تعلم تعليما جيدا, وشغل وظائف عالية, وكان وثيق الصلة بالقصر, ضرب كل ذلك بـ (عرض الحائط) وصار يتردد على مضارب الغجر ـ اصدقائه الحقيقيين ـ, وصار يتغنى بعاداتهم وتقاليدهم, وصار يعدد محاسنهم, ويصور حياتهم الجميلة كما في قصيدته التي تقول: فدع الرصانة والرزانة والحجا برؤوس عبدان الفلوس تنقر وهلم عند الضاربين بطبلهم للناس امثلة الصراحة نسمر الراقصين على حبال جدودهم رقصا كرقص الامس لا يتغير الثابتين على مبادئ قومهم الحافظين زمام من لا يخفر الطامعين وليس من امل لهم القانطين وكلهم مستبشر الاخذين في الحياة بصفوها التاركين لغيرهم ما يكدر نور نسميهم ونحن بعرفهم منهم وفي عرف الحقيقة انور فهذه القصيدة (العرارية) تمثل حالته الفريدة, حيث كان عرار ـ وعلى الدوام ـ يبحث عن وطن الحرية, وعندما وجدها في وطن الغجر, انخرط كليا في ذاك الوطن, مثله في ذلك مثل كبار المبدعين في العالم, كـ لوركا, وبوشكين, وفيكتور هيجو, وكريستو بوتييف (الذي كان ملقبا بقديس الثورة الوطنية البلغارية, والذي استشهد في معركة المواجهة مع القوات التركية النظامية في عام 1876). فمن خلال هذه الاسماء المبدعة نجد ان عرارا ليس الوحيد الذي تعامل مع الموضوعة الغجرية, وانما هو اول شاعر عربي معاصر تعامل معها بوعي وبحب صادق. لأنه بالفعل كان صوت الانسانية وصوت الحرية, وشعره لم يقتصر على الغجر فقط, بل كان الغجر نموذجه الحي للمعاناة. لذلك افرد لهم عرار ديوانا شعريا, وهو ديوانه الوحيد (عشيات وادي اليابس) . فشاعر مثل عرار مازال بحاجة الى القراءة والى الاكتشاف, شأنه في ذلك شأن جميع الشعراء الانسانيين الكبار. ولعل اهم ما نبدأ به في هذا الصدد, هو ازاحة ستار الاهمال والتجاهل عن هذا المبدع, الذي اسلم الروح في المستشفى الحكومي بعمان يوم 24 مايو من عام ,1949 بعد عذاب طويل مع المرض, والذي يرقد الان في مثواه الاخير بـ (تل اربد) حسب ما كان يريد, وحسب ما تقوله وصيته ـ قصيدته: يا أردنيات ان اوديت مغتربا فانسجنها بأبي انتن اكفاني وقلن للصحب واروا بعض اعظمه في تلك اربد او في سفح شيحاني عسى وعلّ به يوما مكحلة تمر تتلو عليه آي قرآن. مصطفى التل (عرار) (1899 ـ 1949)