لاتزال الاغاني العراقية التي رافقت عقود ما قبل الخمسينيات هي الركيزة الاساسية في الاغنية العراقية ولا تزال معتمدة في تحديد خصائص هذه الاغنية, فالقرب منها والنسج على منوالها, والاستيعاب المتجدد لخصائصها وسماتها, يشير الى الاصالة وحسن الذوق والتعامل الجاد والمدروس، مع الكلمات والالحان والموسيقى, ولكن الابتعاد عنها يشير الى خلاف ذلك. وغالبا ما يطرح الموقف النقدي مواقف حادة ومتوترة ازاء اغاني الشباب التي تحاول الخروج عن الانماط الغنائية السائدة في الخمسينيات, اذ اعتبر الناقد الراحل سعاد الهرمزي ان الاغنية اصبحت بهؤلاء الشباب تعاني المرض وفقر الدم ولم يعد له دم يجري في العروق, ولا نفس تقوي على الشهيق والزفير, ولا قدرة على كسب اعجاب السامعين, مثلما كان ذلك الاعجاب سمة عصر غنائي جليل ذهب مع الريح وليس ثمة احتمال ان يعود ادراجه الى بيته المترف الجميل. سقطت الاغنية في حبال السرعة والايقاعات المتنافرة واللحن السمج والاصوات البليدة والكلمات السخيفة. ويتساءل الناقد عادل الهاشمي: ما الذي نستطيع ان نقول عن الغناء الذي ينمو في اجواء من الهستيريا والبلادة, اذ اتخذت بعض الاصوات من الغناء وسيلة للتسلق والطواف بين الليالي والافصاح عن الغرائز؟ ويقول: ان اصحاب هذه الاصوات لا يمتلكون الصقل في النطق وتقويم اللسان الغنائي, وسلامة مخارج الحروف من جوفية وحلقية وشفوية, انها لا تعلم شيئا عن صفات الحروف الغنائية من حيث الشدة والرخاوة والانطباق والانفتاح والقلقلة والتكرير. ويضيف: (ان الاغنية العراقية في سيرها الزمني فقدت اطار اللحن الثابت والبناء العضوي السليم, وعمدت الى الخلط والتلفيق بين العناصر المحلية والاجنبية, مستخدمة.. الموروث, لا بقصد اعادة خلقه, انما تشويهه, الامر الذي جعل آفاق الاغنية العراقية تنحصر في ضرب من الاغنية السريعة, القصيرة, الصاخبة, وان يكون هدفها الحقيقي الترفيه والتسلية واطلاق حرية التعبير التغريزي). ويضع الناقد الراحل هلال عاصم هذه التوجهات في الاغنية العراقية في اطار ظاهرة اوسع, اذ يلاحظ ان هذه الظاهرة ترجع الى غلبة الطابع الاوروبي الراقص على الغناء العربي وموسيقاه, بحجة التلوين او التغيير او التطوير, مؤكدا: (ان استمرارية تغليب الطابع الاوروبي, فضلا عن نبذ الآلات الموسيقية العربية التقليدية, واللجوء الى استخدام الآلات الحديثة المستوردة, تنتزع من الاذهان العربية انغام وايقاعات واصوات الآلات الموسيقية العربية كالعود والناي والقانون والدف والطبلة. يعتبر الناقد هلال عاصم ان تقديم الاغاني التراثية من خلال موسيقى الآلات الغربية والايقاع الراقص امر لا ينسجم مع الذوق السليم, وهو دخيل على هذه الغاني, ويعرضها الى المسخ والتشويه, ويفقدها اصالتها, وكما يجعل التناقص فيها قويا بينما الكلمات واللحن, وبين الموسيقى والاداء. كما يعتبر النقاد العراقيون ان تركيب كلمات وجمل من اللهجة العراقية على الحان مستمرة من الاغاني الاجنبية امر مرفوض وغير مقبول, ولا يدل على استيعاب لمقومات الاصالة في الاغنية العراقية. ولا يفقد هؤلاء النقاد امثلة ايجابية في التطور الغنائي انطلاقا من الاغنية الخمسينية, فالمطربون من امثال ياس خضر وحميد منصور وسعدون جابر وامل خضير ورياض احمد وحسين نعمة وفاضل عواد استطاعوا الجمع بين الحداثة واصالة الاغنية, وان يحققوا نمطا من الاغاني التي تستجيب لاصالة النبرات الايقاعية النابعة من تقاليد البيئة الشعبية. وأغلب هؤلاء المطربين عمدوا ايضا الى العودة الى الينابيع, اذ اختار عدد منهم مجموعة من اغاني الخمسينيات, وقام باعادة تسجيلها, وقام عدد بافتتاح اغانيه بأجزاء من المقام او بأبيات (الابوذية) وهي نمط غنائي عراقي قديم معروف, تعزيزا لاصالة وعراقية هذه الاغاني. كما ان هؤلاء النقاد يعتبرون المطربين من امثال كاظم الساهر ومهند محسن وعبد فلك.. الخ, امتدادا للاغنية العراقية الخمسينية على الرغم من لجوئهم الى الالحان الراقصة في بعض الاغاني. وهم يعللون ذلك بالدراسة الاكاديمية لهؤلاء المطربين, وتواصلهم مع الملحنين والموسيقيين الذين عرفوا بالدفاع عن اصالة الاغنية العراقية وموروثها الخمسيني, فضلا عن ثقافتهم الادبية وقدرتهم على اختيار اغان بعيدة عن السهولة, والمخاطبات الغريزية, وذات عمق في المعاني, واستيعاب جيد للموضوع. ويعكس الموقف النقدي من اغاني بعض المطربين الشباب, ومن الاهتمام بالرجوع الى الاغنية الخمسينية اختلافا في وجهات النظر, وفي الانماط الغنائية داخل الوسط الغنائي والموسيقى العراقية, كما يعكس حالة اقرب الى الصراع بين تيارين مختلفين. ولكن هذين التيارين يظلان متعايشين برغم ذلك, ويحصل كل تيار على جمهوره, وعلى قنواته في وسائل الاعلام, برغم وجود ارجحية للاغاني التراثية في المؤسسات المعنية بها, وفي اهمية الاسماء الممثلة لها, وجدارة ما تطرح من ثقافة ومن مبررات.